قصة حدثت معي تكشف سبب السطحية عند كثير من الشباب

منذ 2015-04-09

فوجئت بأمر كان في هذه اللحظة غريبًا بالنسبة لي، وهو أن أغلب -وأحيانًا كل- المعتقلين -خاصة المنتمين لجماعات معينة- يقضون معظم وقتهم في المزاح واللغو الذي لا طائل منه، ومعظم كلامهم ومناقشاتهم واهتماماتهم يدور حول توافه الأمور، وكلها تتم في إطار السطحية والإشاعات المكذوبة التي يعج بها السجن، وقتها تعجبت جدًا من هذا الحال متسائلاً -بيني وبين نفسي- كيف يكون هذا حال شباب يجاهدون من أجل إعادة الخلافة الإسلامية؟!

الحدوتة التالية حدثت معي فعلاً في المعتقل منذ 16 عامًا تقريبًا.
بداية فقد تربيت منذ أوائل الثمانينات على أن من أهداف الاعتقال هو تعطيل الشخص عن العمل الإسلامي، وبالتالي فالخطوة المضادة لهذا هي استغلال الاعتقال في تحصيل العلوم الشرعية، وأي علوم أخرى مفيدة للعمل الإسلامي، بجانب الارتقاء الإيماني بالاجتهاد في الطاعات كي نكون قد أحبطنا أهداف الظالمين في تعطيلنا عن العمل لدين الله..

وعندما شعر الظالمون بهذه الفكرة لدينا بدؤوا مع المعتقلين سياسة جديدة قائمة على منع أي وصول للكتب والورق والأقلام والصحف والمذياع للمعتقلين عام 1994، وعندما شعروا أننا ركزنا على القرآن حفظًا وتلاوة وتفسيرًا أضافوا المصاحف إلى قائمة المنع في نهاية نفس العام..!

حينها بدأنا طريقة أخرى للاستفادة بالوقت قائمة على استقاء العلم والمعلومات من بعضنا بعضًا، فكل منا ينقل لزملائه ما لديه من علم، أو يعرض ما يتذكره مما قرأه من الكتب، وكنت محتجزًا منذ نهايات عام (1993 وحتى 1996 أو 1997) في أماكن خصصت لعدد محدد من قادة الحركات الإسلامية من المعتقلين (وغير مسموح باتصالهم أو اختلاطهم بغيرهم) ولكن تغير الوضع في هذا العام وقرروا أن يوزعونا في الزنازين في العنابر الأخرى مع سائر المعتقلين العاديين من الإسلاميين (وطبعا كانوا منتمين للعديد من الحركات الإسلامية).

وحينها فوجئت بأمر كان في هذه اللحظة غريبًا بالنسبة لي، وهو أن أغلب -وأحيانًا كل- المعتقلين -خاصة المنتمين لجماعات معينة- يقضون معظم وقتهم في المزاح واللغو الذي لا طائل منه، ومعظم كلامهم ومناقشاتهم واهتماماتهم يدور حول توافه الأمور، وكلها تتم في إطار السطحية والإشاعات المكذوبة التي يعج بها السجن، وقتها تعجبت جدًا من هذا الحال متسائلاً -بيني وبين نفسي- كيف يكون هذا حال شباب يجاهدون من أجل إعادة الخلافة الإسلامية؟!

والمشكلة ليست فقط فيما يسعون له من هدف ضخم وصعب، بل المشكلة الأكبر هي أنهم شباب، أي يمثلون مستقبل الحركات الإسلامية التي ينتمون إليها، وظللت أسأل نفسي كيف ولماذا هم كذلك، وما الحل للارتفاع بمستوى تفكيرهم وتغيير مجال اهتمامهم؟

وبعد هذا بقليل توافق أن طلب مني أحد الأخوة -من القلة المتميزين- أن ألقى عليهم محاضرات بشأن الصراع مع إسرائيل وتاريخ الصراع والمعارك التي دارت معها ونحو ذلك، ولبيت طلبه وألقيت المحاضرات وانفتح بعده الباب كي أتكلم من حين لآخر في موضوعات متشابهة سياسية وتاريخية وإستراتيجية، إما بطلب البعض أو بمناقشة تلقائية، وطبعًا مما أثرى المحاضرات والمناقشات وجود ثلاثة أو أربعة أخوة ذوي مستوى معقول في بعض هذه الموضوعات، وفوجئت بعد هذه المحاضرات والمناقشات أن مستوى اهتمامات ومناقشات أغلبية الشباب قد ارتقت، وباتت تركز على جوانب مهمة من السياسة والتاريخ، بل وحتى الشئون الإستراتيجية..

وأصبح معتادًا أن نرى مناقشات حول الميزان الإستراتيجي مع إسرائيل أو حتى الولايات المتحدة والخلل فيه وما هية الحلول المبتكرة اللازمة لسد هذه الفجوة بأقل الإمكانات، وعندها أدركت أن التدني السابق في مستوى التفكير وفي طبيعة الاهتمام سببه أن لا أحدًا وجه هؤلاء أو علمهم شيئًا مفيدًا يهتمون به أو يفكروا فيه..

وتأكد لي من هذه القصة أن ما نراه اليوم من تفاهة وسطحية تعم واقعنا الحالي -بشكل عام وواقع العمل الإسلامي بشكل خاص- مرده زمن الأقزام الذي نعيشه، حيث يسيطر على التوجيه الفكري والإعلامي ذوو الجهل والجهالة والتفاهة والسطحية، وأصحاب المناهج والعقائد المشوهة والمشبوهة والمنحرفة، فمن أين يتعلم الشباب ومن يضع قدمهم على أول الطريق الصحيح..

ومما زاد من خطورة الأزمة سهولة (أدوات ووسائل الإعلام الجديد) فبعدما كان الرويبضة -ذكرًا أو أنثى- يجذب له عشرات أو حتى المئات في مسجد أو في نادي على مقهى ويسطح لهم تفكيرهم صار الرويبضة يصنع له برنامجًا على فضائية تغزو كل البيوت، أو صفحة على موقع من مواقع التواصل الاجتماعي كالفيس وتويتر فيتبعه مئات الآلاف ويضعوا آلاف اللايكات لكل تفاهة يطلقها..

طبعًا شهوات النفس تميل إلى الأسهل وهو التفاهة والسطحية، ولكن المسلم (أو المسلمة) المخلص يبحث عن الحق فإذا وجد العلم الصحيح العميق تتبعه ونبذ ما غزا رأسه من تفاهات الأفكار التي يعج بها فضاء الإعلام القديم والجديد، حتى لو كانت هذه التفاهات تتزيًا بثوب الإسلام وشعاراته، أو حتى فرائضه ما دامت خالية من المضمون العلمي الحقيقي وفقًا لتقاليد ومناهج وأدوات كل علم.

لكني في النهاية أجدني مضطرًا لإكمال القصة التي بدأت بها، حيث قررت وقتها أن أجعل دروس السياسة والتاريخ منتظمة المواعيد فقلت أخذ رأي أحد قادة إحدى المجموعات الإسلامية الموجودة معنا، فقال لي: "لا داعي وسيبك من الدروس دي الناس ستتضايق ومش محتاجين لها"، فقررت التوقف لئلا تحدث مشاكل مع هذا القيادي رغم إلحاح أفراد مجموعته مطالبين استئناف الدرس.

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام

عبد المنعم منيب

صحفي و كاتب إسلامي مصري

  • 2
  • 0
  • 3,124

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً