عيون الليل وسباق الحروب

منذ 2015-04-14

كلما امتدَّ الزمن إلى خريف العمر وغطَّاه ستارُ الليل البهيم أضْرمَ في العيون غَليانًا وفورانًا، وصار عَدُّ الثواني والساعات يُبْطئ في المسير حتى يتكلَّس ملح المَدامع على أرضٍ ضاقَت بأبنائها، كما ضاقَت بالخلايا العروق فتورَّمت فيها الخطوب، وقَضَّ مضْجَعها أسْفارُ الحروب، وطوَتْها السماء الغَضْبى طَيَّ كتابِ النفوس، عساها تحصي كلَّ كلمة جارحة ينطِقها اللسان ولا يسْتبين، ونيَّة غدَّارة تصيب بسهمها كل قلبٍ سليم، وفكرة لا تهتدي للحقِّ المبين..

عند الإشراق تتوهَّج الشَّمس باسِمةَ الثَّغْر، تُلْقي بخيوطِها الذَّهَبية على الوجوهِ النَّضِرَة، وتوقِظ في القلوب نبضاتِ الحبِّ والخير والفضيلة، حامِلةً إليها بشائِرَ الغِبْطَة والسرور، وتغاريد الأرضِ تزيِّن الأجساد بخِضابِ الخُضْرَة، فتتنعَّم الأرواح بالدِّفء، وتصدَح الأصواتُ بنشيدِ الصَّباح، وترتادُ العيون منابِعَ القَطْر.

وعند الغروب وحُلولِ الظَّلام تخرج المَساوِئ من جُحورِها، وتتلمَّس طريقَها كضريرٍ يتوكَّأ على عصاه، تشُقُّ دروبَها بوجهٍ مُسْتعار، وترتدي لباسَ الرَّذيلة، حامِلَةً أرواحَها على أجساد عليلة، وتسلُّ صوارِمَها لتقتصَّ من أحداثِ الماضي والحاضر، وتلْفِظ ما تبقَّى من رشْفِ المِحن، وترفَع بين الخلائِق راياتِ الحداد كأنَّها في مأتم ينذرهم ببلاء وخطْبٍ جَلَل.

فتجيشُ المشاعر التي يتَّمها الفِراقُ الطويل، ورحيلُ الأحباب، وأشواق تنْسَعِر في آتونِ القلب الكسير وتأبى أن تطيب، كأنها الغصن المائل قد انشقَّ قبل أن يَستقيم، فالتفَّ حول أوراقِ الربيع ليْسْكُن إليها ويضمِّد الجُرح القديم، ويظلَّ النَّزفُ ينْفطِر من قطارةِ الجذْر العميق الغائِر تحت الأرض.

وكلما امتدَّ الزمن إلى خريف العمر وغطَّاه ستارُ الليل البهيم أضْرمَ في العيون غَليانًا وفورانًا، وصار عَدُّ الثواني والساعات يُبْطئ في المسير حتى يتكلَّس ملح المَدامع على أرضٍ ضاقَت بأبنائها، كما ضاقَت بالخلايا العروق فتورَّمت فيها الخطوب، وقَضَّ مضْجَعها أسْفارُ الحروب، وطوَتْها السماء الغَضْبى طَيَّ كتابِ النفوس، عساها تحصي كلَّ كلمة جارحة ينطِقها اللسان ولا يسْتبين، ونيَّة غدَّارة تصيب بسهمها كل قلبٍ سليم، وفكرة لا تهتدي للحقِّ المبين، ومحبة حبسها الحقد الدَّفين، ويدٍ أمسكَها الذنب عن فعلٍ مستقيم، ونعمةٍ حجبها الطمع السَّقيم.

وكلما طال الغروب وضاقت دائرة الضَّوء، ضاق الصَّدر بما يحمِلُه القلب الصغير من نبضات تأبى أن تنام على وسادِ الراحة بلا هدير.

وكيف للنور أن يُشرق في العيون وفي القلب حفيفُ أشواق وارفة، يلْسَعُها أنينُ الفراق ورسومُ أشباحٍ تتخيَّلُها في وجوه كئيبة!

وكيف للنُّورِ الخجول أن يُطِلَّ من ذاك القُرص القمري ليغازلَ الوجوه، ويراقِص المُقَل قبل أن يغشاها النُّعاس، ويميلَ بالحدق إلى وسادِه الأبيض ومهادِه الوثير، والليل يحصد رؤوسًا قابعةً في مكانها تخشى أن ترفع هاماتها في شموخ!

وكيف للسَّاعات أن تمضي في راحةٍ وسكينة، بعيدًا عن الضَّوضاء وهموم الحياة، وما يضجُّ به الرَّأس من سباق أفكارٍ لا تنام وإن نامت الأجساد من كدٍّ وكدح!

وأنا.. وتلك العيون التي لا تفترُ ترقُب السَّاعات حين تُبْطِئ وتُسْرِع.
ما زلت أحلم بوطنٍ آمن من الحروب، وسلامٍ يملأ القلوب، فلا تُضْرم الأحقاد في كبد النهار، ولا تنشُر الانْتِحاب في محاجِر الليل، وما زلت أردِّد في همسي تغريدَ العصافير، وتمتماتٍ خجولة، وأناشيد خافتة، وكلماتٍ حيِيَّة.

فما أشبه الأحلامَ في عيونٍ تكابد غُصَّةً دائمة، وتذوب في مآقيها حروفُ أسماء من رحلوا، فتظلُّ ذكرياتهم تنثر الزَّهر على شفاهٍ تيبَّسَت من القُروح كي تطيبَ الجروح.

وهذا الرأس الذي تتلمَّسه الأكفُّ الخشِنة كل صباحٍ ومساء؛ كي تطمئنَّ على ثباتِه واستقرارِه في مكانه من الجسد المُهْترئ، ما زلت أتخيَّله كالكرة الأرضية يَحمل أجزاء متراصَّة كالبنيان العتيد، وأحلم أن يظلَّ آمِنًا وصامدًا أمام العواصف بلا قيود ولا حدود، ولا أسوار تَحجب الدِّفء والنور، وبلا شهوةٍ مشبوبَة تغري النفس بإراقة الدم؛ ليكون دهانًا للأرض بلون القرمز، وتسيحَ في عروقها حياة الحروب.

ولكن شتَّان بين الحقيقة والخيال في أحلامي وأحلام المنعَّمين! وشتَّان بين ما تراه عيون الكبار على الحقيقة بحجم قامتها الممتدَّة في الطول، وما تراه عيون الصِّغار من رسوم بحجم قامتها القصيرة التي لا تتعدَّى خُطاها الركض في سباق مطامع المحاربين!

وشتَّان بين رسوم الصِّغار وأحلامهم الفتِيَّة، ورسوم الكبار التي تنتقل من الخيال إلى الواقع، حيث تتحوَّل الرُّسوم إلى أشباح حقيقية تتساوم على المتاجرة بالضمير الإنساني على خشبة مسرح الحياة، فتتحوَّل الكرة الأرضية إلى جلبةِ أصواتٍ تهيجُ بالزَّفرات والقهقهات، وأنين الشيوخ على أسِرَّةِ تلفظهم كلفْظِ الشجر لأوراق الخريف، ودمع ينْهلُّ من أحداق أطفال يتَّمتهم المذابح فالتحَفوا معطف الحداد في كلِّ الفصول والأعياد، وبراكين تشتعل من هول أوزار تتفجَّر من أَوداجِها، وهدير أمواج على شِفاه أخرسَها دَبيبُ كلمات مشحونة بثورة الغضب!

وأنا وتلك العيون التي طالما شرَّدتني وشرَّدتْها قيودٌ لا تنفكُّ تمزِّق أحشاء الأرض، صار أقصى أمانينا أن نظفر بنُتَفٍ من جلابيبِ الأفراح تغطِّي أجسادنا الهزيلة؛ كي ينْحسِر عن عيوننا الظلام، ونصل بأسباب الكدح إلى غياهب التراب فتستقيم لنا الحياة وتزهر.

فلا شيء أجمل من أرواح لا يُغريها من عيشِها ما يغري الطَّامحين من عيشهم الكثير الذي لا منتهى له، إلى أن يُدركوا مما يَجمعون ويطرحون أعدادًا فوقها أعداد في حساب الحروب التي تتحرَّك في ساحة النفس، ولا تتوقف عند حَدِّ تحقيق الانتصار.

فحين يكون الهدف مجهولَ الهُوِيَّة والغاية بلا بصيرة، يظلُّ الصِّراعُ متأجِّجًا ومَحكومًا بسلطةِ الأقوى في فرضِ قيمٍ غير ثابتة وقوانينَ جائِرَة لا تخضع لنظامِ الزَّمن، فتكونُ النَّتائج غير مضمونة، ولا تتعدَّى تلك الأحكامَ الافتراضِيَّة بلا أدلة تأصيليَّة.

فيشتدُّ الخِلاف ويحْتَدّ الصِّراع دون انقِطاع؛ ليحصُدَ كلَّ تغييرٍ على الواقع، ولا خلاصَ للنفس من هذا المَدِّ الجارِف إلا ببَعثِ طاقة الإيمان التي تعيد للإنسان بوصلة تحديد الاتجاهات، ووضعِ خارطة تبرز معالم الطريق وموقع الهدف المنشود، والغاية وأسباب تحقيقها، والحدودَ الفاصِلة بين الحقِّ والباطل، والحصونَ المنيعة ضدَّ انتشار الجهل والخرافة والأمية الفكرية والثقافية؛ ليبدأ التفكير بالاشتغال والعمل وَفْقَ قانون الحقِّ والعدل والإنصاف في التحليل والاستنتاج، وتبدأ المشاعر تتَّزن وتهدأ وتسكُن إلى فطرتها وتعود إلى طبيعتها، ويشيع السِّلم النفسي وينتشر نوره بالداخل والخارج.

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام

صفية الودغيري

كاتبة إسلامية حاصلة على دكتوراه في الآداب - شعبة الدراسات الإسلامية.

  • 0
  • 0
  • 1,801

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً