كيف تغادر بلدك في ثلاثة أيام؟ (3)
هذه القصة حدثت قبل ثلاثين سنة، أي قبل ظهور الفضائيات وفهم اللهجات المحلية لكل بلد عربية، كما أنها كانت في مكة وأهل مكة لهجتهم صعبة وتختلف عن لهجة أهل جدة..
أما أسوأ كابوس عاينته في مكة فهو عندما فكرت أمي أن تضعنا في المدرسة أنا وأختي مؤمنة، لا أدري كيف دبّرت تسجيلنا ونحن في آخر السنة، ولا أدري كيف عادلوا موادنا التي تختلف كل الاختلاف، فنصف المواد في المملكة دين بينما لدينا إشتراكية قومية وفتوة، وأيضًا رياضيات في القسم الأدبي، وكنا أولا لا نعي ما ينتظرنا، حيث اتضح أنه علينا ان نذهب بالباص! ولكي يكتمل العذاب اتضح أن سائق الباص يسكن في نفس البناء! أي أنه سيأخذنا في البداية، يلف بنا شوارع وهضاب وجبال مكة لا يترك زاوية، وكذلك في رحلة العودة يرجعنا في النهاية، وأجمل ما في الموضوع أن الباصات غير مكيفة وهي قديمة مهترأة أجزم أنها تعمل في الحج، رائعة في إحداث ارتجاج في المخ!
بعد يومين اثنين لم تحتمل أختي مؤمنة فبكت لأمي واشتكت -وهي آخر العنقود- آه وآه من آخر العنقود الذي يجب لرأيه أن يسود، والذي صلاحياته بلا حدود! –ما دخل أحمد منصور- فقبلت أمي أن تترك المدرسة على أساس أن تعود إلى دمشق بعد ذلك لتقدم امتحان الشهادة الإعدادية –المتوسطة- هناك، وبقيت وحدي في العذاب، بكيت وشكيت همي، لكن لم تسمع لي أمي!
ذهبنا واشترينا المريول! وكنت ساعتها أتساءل، لماذا المريول؟! هل سأذهب إلى مدرسة أم إلى مطبخ؟! وعباية سوداء لم أعرف كيف ألبسها فلم أعرف وجهها من خلفها! لا يوجد أكمام ولا يوجد أزار -أين منها من عبائات هذه الأيام؟- ثم قالوا لي: "يجب أن تغطي وجهك"! وأنا لم أتعود على الغطاء فكرت كثيرًا أن أستعير من جدي عصاه!
ذهبت إلى المدرسة وأنا أحتار بالتنورة الطويلة، إذ كيف سأقفز فيها فوق الجدار كعادتي في الشام عندما أتأخر، حيث كنت دائمة التأخير، وكانت دومًا الحصة الأولى رياضيات وأنا أكره الرياضيات والمعلمة تكرهني، ودومًا بأختي ً تقارنني، التي كانت ممتازة ومجتهدة بينما أنا مشاغبة بلا فائدة! وكانت تعرف أنني أهرب وأتسحب، فتبعث بي إلى الناظرة كي تتأكد أنها رأتني تطلب أن أحضر ورقة تسمح لي بالدخول، وهكذا صرت آتي لأجد الناظرة وبيدها الورقة قد كتبتها لي قبل أن أقول! وفي آخر الدوام تأتي إليّ لتقول: "أروى اشربي اليوم كازوز" -مشروب غازي- أقول: لماذا؟ تجيب: "حتى تصيري تنهضمي"!
أين هذه الذكريات وأين المشاغبات، أتذكر كيف كنا نضع كيسًا من النايلون على المدفأة لتهرب من الرائحة المعلمة! كل شيء رااح..
تتعرف عليّ البنات، "إيش اسمك" أقول: أروى. يقلن: "أوروا" -بالضم-! أقول :لالا أروى نبقى فترة، بلا جدوى، فأقرر أن أتعود على اسمي الجديد، أسألهن: أين علقوا برنامج الفحص؟ فتنتابهن حالة من الضحك! "برنامج! ليش تلفزيون يعني! وفحص؟ ليش دكتور يا حبيبتي"! أجد نفسي في موقف لا أحسد عليه، لكنني أبقى أحاول أن أنخرط بينهن، أكسب ودهنّ، أجاملهن، وأحكي لهن، عسى أن أعوض بهنّ عن صديقاتي، فأحكي لهن قليلاً عن حياتي، فما إن أقول: فاء جدو اليوم -أي أفاق بالعامية الشامية- حتى أجد ضحكاتهن قد تعالت وهن يرددن: "فاء ها ها ها ليه مو قاف ولا جيم"!
ثم تقول البنات: "غدًا الثلوث"! قلت ماذا؟ قلن: "غدًا الثلوث"، ثم اتضح أن يوم الثلاثاء له اسم دلع، وآتي في اليوم الذي يليه لأجدهن يقلن غدًا الربوع! فقلت في نفسي إذًا هكذا يسمون هنا أيام الأسبوع، فلأستبق الأمر وأحكي مثلهن كي أتقرب منهن، فقلت غدًا الخموس! ثم لا أدري ما الذي حصل وكأن بركان قد انفجر! فقد تعالت الضحكات حتى حضرت المعلمات! لا أدري لماذا سخرن مني، ولماذا يصح حسب آراء الكوفيين والبصريين التلوت والربوع! بينما لا يصح الخموس! وأين أجد هذا في أي قاموس!
- ترجمة لبعض المصطلحات التي وردت:
برنامج الفحص، أي :جدول الاختبار.
فاء: صحي، أفاق.
أعود إلى تتمة قصتي:
يوم الخموس اتضح أنه يوم عطلة، يا لها من فرحة، ولم يكن كذلك في الشام! فرحت كثيرًا لأنني سأنام، لكنني حلمت بالباص الأصفر كثيرًا مما عكر صفو المنام، كنت أحس أنني في بلد أجنبي وعليّ أن أتعلم لغته حتى أحسن التفاهم، حيث كانت البنات تقول لي كلمات تحتاج إلى تراجم، حيث تقول لي إحداهن: "ضعي الكراريس في الماصة"! ولم أسمع في دمشق قبل ذلك، لفظ كرّاسة! فنحن نقول دفتر، وهذه وإن كانت تُفهم وبالإمكان البحث عن معناها في المعجم! لكن الماصة هذه لم أعرف مصدر وجودها للآن، وبعد ثلاثين سنة وكيف ظهرت في الكلام، وهل هي مشتقة من الفعل أم من المصدر وهل هي اسم آلة، أم اسم مكان! وحاولت أن أفهم من إشارات البنات، حتى لا أعرّض نفسي للضحكات! فاتضح أن الماصة هي الطاولة، رغم أن الكلمة لا تمت لها بصلة! كم حمدت ربي عندما علمت أن اسم الكرسي هو نفسه كرسي، بدون ضم أو فتح أو كسرٍ!
وبقيت أحاول التقرب من البنات وخاصة أنهن إلتففن حولي، يتعرفن على أصلي وفصلي، فكنت أحدثهن بكلام وأحكي -وأنا اجتماعية بطبعي- جاء فلان لعنّا، ثم أكملت القصة.. وقدمنا له القهوة، لكنني وجدت الطالبات استهجنّ وامتعضن وقاطعنني قائلات: "إيش! يلعنكم وتقدمون له القهوة، والله لو إحنا جا لعنّا كنا نلعن عيلتهم كلها"! وجلست ساعة أقول لالا مو جاء لعنا وإنما جاء لعنا، حتى فهمن المعنى! وأنا فهمت أنه يجب أن أقول جاء عندنا، والحمد لله أن لهذه الكلمة أصل قد أفهمه! ثم يًقرع الجرس فتفرح البنات ويقلن هيا إلى الفسحة! ففرحت، ظنًا مني أننا سنذهب في رحلة، ثم اتضح أن ما يسمى في الشام فرصة -أي وقت الراحة بين الحصص-، يسمى لديهم فسحة وهي تعني لنا الذهاب في نزهة!
وفي طريقي إلى الفصل -وهذه فهمتها وحدي ولله الحمد-، وهو ما يسمى في الشام (الصف) وجدت طالبة فسألتها: هل أنت بالحادي عشر متلي ولا بكالوريا! فنظرت لي وكأنني آتية من كوكب آخر، لكنها تمالكت نفسها ثم قالت: "إيش الحادي عشر ذا"، فانتبهت إلى أنني قد خرجت عن نطاق اللغة المحلية إلى لغتي الأصلية! وعصرت ذاكرتي فورًا واهتديت، قلت قصدي هل أنت في الثاني الثانوي ولا البكالوريا! لكن النظرة المندهشة في عينها لا تزال هي! قالت: "إيش تتريقين يعني تسألي في مدرسة ثانوية إذًا أنا في البكالوريا! احنا في جامعة يعني! أنا في ثالثة ثانوي"! قلت لها نعم طيب الثالث ثانوي يسمى بكالوريا! قالت: "من جدك أنت؟"! قلت في نفسي وما أدراها أنني أشبه جدي!
وللتوضيح: فقد ظنت الطالبة أن بكالوريا هي كالباكالوريوس، فاعتقدت أنها دراسة جامعية، وعرفت بعد ذلك أنها تسمى لديهم التوجيهية، تمالكت نفسي ومضيت إلى فصلي حزينة حزينة لا أحد يدرك مقدار غربتي وبؤسي وحزني، أبكي على يومي وأتحسر على أمسي..
جاءت بعض الطالبات وجدنني حزينة، فكنت أحكي لهن القصة، عندما فهمت عليّ إحداهن ففرحت بها، وقلت لهن: عائشة ما شاء الله حولا فهمت عليّ! وإذ تنقلب البنات من محبات إلى مهاجمات، يقلن: "عيب عليك"! وأنا استغرب! وأقول ما الذي حصل؟ يقلن: "كيف هيك تسبيها لعائشة"! قلت: والله ما قلت شي شبكن إنتو! قلن: "بل قلت سمعناك جميعًا"، فأجيب: طيب شو قلت؟ قلن: "قلت لها حولا -أي (حولها) باللهجة الشامية- ووالله ما هي بحولا حتى انظري إلى عيونها"! قلت: لا حول ولا قوة إلا بالله، قد أنتحر إذا بقيت بهذه المدرسة..
وأخرجت من شنطتي باكيت المحارم أمسح وجهي، لأجد طالبة منهن بقربي تقول: "ممكن منديل"، وكان قد طفح بي الكيل وقلت بنفسي وماذا تريد بمنديلي الذي سأتحجب به وأخرج، فقلت: لا، فقالت: "يا بخيلة"! وذهبت تخبر عني البنات وبأنني بخيلة لم أعطيها المنديل، آآآآه لن يصبر عليكن سوى نيلسون منديلاً! وعندما ذهبت إلى البيت، عندها فقط علمت أن المنديل (كلينكس) يعني محرمة (باللغة الشامية)، ونحن نسمي المنديل في الشام الغطاء الأسود الذي يوضع على الرأس، فهل كانت تريدني أن أخرج حاسرة! وهكذا رجعت من معركتي مع التوافق مع البنات خاسرة!
(ملاحظة: هذه القصة حدثت قبل ثلاثين سنة، أي قبل ظهور الفضائيات وفهم اللهجات المحلية لكل بلد عربية، كما أنها كانت في مكة وأهل مكة لهجتهم صعبة وتختلف عن لهجة أهل جدة).
في مكة كانت تنتظرني أكبر عقبة، والتي من المستحيل أن أتخطاها وأنجح، من المستحيل بوجودها أن أتم دراستي وأن أتخرّج، حيث أنني كنت في سوريا أدرس اللغة الفرنسية، وإذ بي بين يوم وليلة، أجد نفسي في مواجهة مع اللغة الإنجليزية! والأدهى أنها دراسة للغة بمستوى طالبة ثانوية! وأنا التي في حياتي لم أدرسها، ولا أعرف شيئًا عنها حتى الضمائر العادية..
جلست أشتكي لجدي همي علّه يسرّي عني، وخاصة أنه قد يفهمني بما أنه يتحدث الفرنسية ولم يتعلم في حياته الإنجليزية، فإذ به يقول لي: "لا تهتمي! هذه لغة سهلة ليست كالفرنسية التي لها قواعد وتطبيق، لغة ليس بها عراقة كلماتها سرقة وتجميع! وأنا يمكنني أن أساعدك ببعض كلمات"، أجبت وهل تعرف؟ قال: "طبعًا"، قلت: هات، أصغيت بكل سمعي، وقد حضّرت نفسي لدرس قد يساعدني، فوجدته يقول: "إذا حضر أحدهم وتريدين الترحيب فيه، فكلمة الترحاب هي: ويكلم -الويل لكم- Welcome، وأما إذا أردت أن تطلبي من أحد شيئًا فعليك أن تقولي: -إبليس- Please! وإذا أردت أن تسألي عن سعر سلعة فتقولين: -همج- How much".
وكنت قد حضّرت ورقتي وقلمي، لأجد جدي يمازحني على عادته، فأردت أن أتم المزحة، فقلت له وكذلك في اللغة الإنجليزية لو أخطأ شخص فكلمة الإعتذار هي سوري! لماذا تقع كل الأخطاء علينا، فيقول جدي: "ممتاز، ها قد تعلمت منك كلمة أخرى أضيفها إلى كلماتي الثلاث"!
وفي اليوم التالي ذهبت إلى الحصة، وكلي خشية أن تطلب مني المعلمة القراءة! وعندما طلبت حاولت الاعتذار قلتje ne sais pas لكنها لم تفهم! وأنا لم أفهم سوى أنه لا مجال، لكنني أذكر عندما قرأت: كومبوزيسيون (composition)! ضحكت الطالبات بجنون! وتمالكت نفسها المعلمة وهي تصحح لي قائلة: "كومبوزشن"! قلت لها أين الشين؟ تركتني في حيرتي وهي تشير أن أكمل قراءتي، لكن ما إن قرأت (I know) وقلت: أي كنو! حتى صارت المعلمة تقول (Enough) وأنا لا أفهم ماذا تقصد بالأنف! وكل ما أعرفه هو (Sifni)، لكن ضحكات البنات أوقفتني وأقنعتني بالسكوت..
جلست أتذكر حصة اللغة الفرنسية في سورية، وكيف كنت وصديقاتي ننتقل إلى صف بعيد، وذلك من أجل أن عددنا قليل فكنا نجتمع في كل الحصص مع بنات اللغة الإنجليزية فإذا جاءت حصة اللغة انقسمنا وذهبنا إلى صف جديد، وكان أن ذكرت لنا إحدى البنات أن خالها يسكن قرب فصلنا وأشارت إلى البناء! فقفزت إلى فكرنا طريقة للشغب تضيع الوقت وتمكننا من اللعب، وذلك بأن تجعل خالها يفتح المسجلة على أي أغنية -وحبذا لو عبد الحليم- في وقت حصتنا وبصوت عالٍ، فكانت المعلمة تستغرب وتشتم وتقول: "سوفاج"، ولماذا يحصل هذا دومًا في حصتكم رغم أنني أعطي دروسًا هنا دومًا يا لهذه المصادفات!
وتسألني البنات في مكة: "بماذا تنادون المعلمات؟".
فقلت: نقول آنسة، فيسألن: "حتى المتزوجات؟"، أقول نعم، عدا معلمة اللغة الفرنسية نناديها مدام!
فتقول واحدة: "ولماذا مدام بالذات من أخوات كان"! وأقول في نفسي ضليعة بالنحو أنت، حفظك الرحمن!
طبعًا تنتهي قصتي يوم امتحان اللغة الإنجليزية حيث أدرت الورقة بكل الاتجاهات، وحسب دوران عقارب الساعة، وعكس الطواف، ولم أفهم أي سؤال فكتبت لهم أساسيات الفرنسية ITER Ferb، Ferb AVOR (فيرب ايتر وفيرب آفوار) وكتبت بعض لمحات من قصة البؤساء لفيكتور هيجو التي كنا ندرسها بالشام، وبالذات قصة كوزيت وجان فالجان، علهم يضيفونني إلى قائمة البؤساء! فأنجح بمعجزة أو أرسب بكرامة فما قدمت ورقتي بيضاء، طبعًا بعد هذه القصة تركت الدراسة سبع سنين حتى تعافيت من معاناة المدرسة الثانوية الأولى في مكة، وأكملت دراستي في جدة، ولكن في الثانوية الثامنة، وبهذا تنتهي قصة الذكريات.
- التصنيف:
Afaf
منذ