إنسانية التشريع: السماح بتزويج الصغير مثالاً

منذ 2015-04-28

الأب صاحب محل خصوصية في تلك المسألة، حيث أنه الوحيد المتفق عليه في منحه الحق بتزويج ابنته الصغيرة، وما ذاك إلا لأن الأب الطبيعي الإنساني هو محل الرحمة والشفقة بابنته التي هي بضعة منه، بجانب أنه محل المسئولية والاهتمام والرعاية، ومن خرج عن ذلك النمط إنما خرج عن الصورة الإنسانية الطبيعة المفطور عليها جميع الخلق.

عظمة التشريع تأتي من تلبيته لاحتياجات الناس، مع تحقق العدالة فيما بينهم وحفظ حقوقهم واحتياجاتهم الإنسانية، ومن هنا يكون التشريع رحمة، وهو ما جمعه الإسلام في تشريعاته، فأنتج لنا جيل من الفقهاء ذو حس إنساني راق.

ومن الأمثلة على ذلك قضية السماح بتزويج الصغير والتي تثير ضجة لدى بعض ومن لم يقفوا على أقوال الفقهاء فيها، أو من انتكست فطرهم فخرجوا عن الحد الإنساني، ويتصورن الناس مجموعة من الضبع، ولا شك أن التشريع والفقه الإسلامي لم يأت للضبع ولكنه أتى للبشر ليرتقي بهم لمحل الإنسانية.

فاتفق أهل العلم من المسلمين على جواز تزويج الأب لابنه الصغير، وكذا ابنته التي لم تبلغ، ثم اختلفوا فيما بينهم في هل يحق لغير الأب من الأولياء ذلك أم لا؟

فقال مالك: "لا يجوز لأحد من الأولياء غير الأب أن يزوج الصغيرة قبل البلوغ أخًا كان أو غيره، وهو قول ابن القاسم وأكثر أصحاب مالك".

وقال الشافعي: "يزوجها الجد أبو الأب والأب فقط".
وقال أبو حنيفة: "يزوج الصغيرة كل من له عليها ولاية من أب وقريب وغير ذلك، ولها الخيار إذا بلغت".
ثم اتفقوا أيضًا على حق الصغيرة في فسخ هذا العقد إذا شاءت حين تبلغ إن كان الذي زوجها غير الأب، واختلفوا هل يحق لها الفسخ أم لا إن كان الذي تولى العقد أباها.

ومن مجموع ما سابق تجد الأب صاحب محل خصوصية في تلك المسألة، حيث أنه الوحيد المتفق عليه في منحه الحق بتزويج ابنته الصغيرة، وما ذاك إلا لأن الأب الطبيعي الإنساني هو محل الرحمة والشفقة بابنته التي هي بضعة منه، بجانب أنه محل المسئولية والاهتمام والرعاية، ومن خرج عن ذلك النمط إنما خرج عن الصورة الإنسانية الطبيعة المفطور عليها جميع الخلق.

ويستعرض (ابن رشد) في بداية المجتهد لسبب ذلك الخلاف الفقهي؛ فترى بوضوح ذلك البعد الإنساني..
يقول: "وسبب اختلافهم.. كون سائر الأولياء معلومًا منهم النظر والمصلحة لوليتهم يوجب أن يلحقوا بالأب في هذا المعنى، فمنهم من ألحق به جميع الأولياء -وهو مذهب أبي حنيفة-، ومنهم من ألحق به الجد فقط لأنه في معنى الأب؛ إذ كان أبًا أعلى، وهو الشافعي، ومن قصر ذلك على الأب رأى أن ما للأب في ذلك غير موجود لغيره; إما من قبل أن الشرع خصه بذلك، وإما من قبل أن ما يوجد فيه من الرأفة والرحمة لا يوجد في غيره، وهو الذي ذهب إليه مالك رضي الله عنه، وما ذهب إليه أظهر -والله أعلم- إلا أن يكون هنالك ضرورة" (أهـ).

فانظر لهؤلاء الفقهاء: إنهم ينظرون للناس على أنهم بشر يتراحمون ويراعي بعضهم مصالح بعض، لا مجموعة من الوحوش ترتع في غابة تستبيح في مصالحها كل شيء، ثم راعوا أيضًا الطبائع الإنسانية، لم يكونوا سذج يحسنون الظن بكل أحد فمنهم من قصر الأمر على الأب فقط، ومن وسعه أعطاها الحق في الفسخ للعقد والإلغاء له، وإن كان الأب لا يؤتمن على ابنته فلا أمان لها حتى وإن لم تزوج.

فالأب الذي يتخلى عن صغيرته ويرى فيها بضاعة يتخذها وسيلة للتكسب فيزوجها من غير كفء، أو ممن يلحق بها الضرر في الأغلب مستغلاً ذلك الحق الذي منحته إياه الشريعة؛ هو في الحقيقة غير أمين عليها سواء في حال تزويجها أو عدمه، وسواء كانت كبيرة أم صغيرة.

ومع هذا ولأن الشرع يراعي العدالة وحفظ حقوق الجميع، فإن أهل العلم اتفقوا على عدم تمكين الزوج من الصغيرة حتى تطيق النكاح -أي البلوغ-، وما يذكرونه من القول بتسع سنوات أو بلوغ المحيض أو الهيئة الجسمانية أو يوطأ مثلها؛ ما هي إلا أمثلة لبيان أو لتوضيح معنى الإطاقة للنكاح، أو النضوج المستلزم للقدرة البدنية والنفسية والعقلية، أو هي ذكر لعلامات البلوغ إذ المحيض ليس هو علامة البلوغ الوحيدة، إذ المرأة قد تبلغ بالاحتلام مثلاً دون أن تحيض، وقد تصل لسن الخامسة عشر مع هيئة بدنية تماثل المرأة الكبيرة ولم تحض بعد، وهذا هو المراد بقوله تعالى: {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق من الآية:4]، أنهن يعتدن بالشهور إذا طلقن بعد النكاح.

والذي يؤكد أنه لا نكاح إلا بحصول البلوغ أنهم أقروا لتلك الصغيرة حال إطاقتها للنكاح الحق في إمضاء العقد أو فسخه، وبالتالي تم مراعاة حق المرأة، وخالف في ذلك الشافعي ومالك فقهاء الحجاز، إذ لم يرو لها الحق في فسخ العقد ولكنهم أيضًا لم يجيزوا لغير الأب بتزويج ابنته كما مر آنفا، وذلك أنهم لم يتصوروا في الأب سوى أنه الشفوق الرحيم الحريص على ذريته، وإن كان الشافعي أصحابه قال على حسب ما ذكره النووي في صحيح مسلم: "يستحب أن لا يزوج الأب والجد البكر حتى تبلغ ويستأذنها، لئلا يوقعها في أسر الزوج وهي كارهة".

واتفقوا على أنه إن زوجها من غير كفء لا يحل، قال ابن رشد في بداية المجتهد: "اتفقوا على أن للمرأة أن تمنع نفسها من إنكاح من له من الأولياء جبرها إذا لم تكن فيها الكفاءة موجودة كالأب في ابنته البكر، أما غير البالغ باتفاق".

قال ابن قدامة في المغني: "وقول الخرقي فوضعها في كفاءة يدل على أنه إذا زوجها من غير كفء فنكاحها باطل" (أهـ).

حتى أنهم في كتب الفروع قالوا: "لو زوج بنته من فقير أو محترف حرفة دنية ولم يكن كفؤًا فالعقد باطل".
واستقصاء الأمر في ذلك يطول؛ ولكنه يدلك على إنسانية الفقه الإسلامي، وعلى البعد الإنساني العميق لفقهائه وحرصهم لتحصيل مصالح البشر مع نظرهم لما يعترى الإنسان من هوى وحيدة عن الحق.

ترى هذا في قول السرخسي في المبسوط، والمعنى فيه أن النكاح يشتمل على مصالح وأغراض ومقاصد جمة والأب وافر الشفقة ينظر لولده فوق ما ينظر لنفسه.

وكذا في إجابة شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى: في رجل زوج ابنة أخيه من ابنه، والزوج فاسق لا يصلي وخوفها حتى أذنت في النكاح، وقالوا: "إن لم تأذني وإلا زوجك الشرع بغير اختيارك"، وهو الآن يأخذ مالها، ويمنع من يدخل عليها لكشف حالها كأمها وغيرها؟

قال: "الحمد لله: ليس للعم ولا غيره من الأولياء أن يزوج موليته بغير كفء إذا لم تكن راضية بذلك باتفاق الأئمة، وإذا فعل ذلك استحق العقوبة الشرعية التي تردعه وأمثاله عن مثل ذلك، بل لو رضيت هي بغير كفؤ كان لولي آخر غير المزوج أن يفسخ النكاح، وليس للعم أن يكره المرأة البالغة على النكاح بكفء، فكيف إذا أكرهها على التزوج بغير كفؤ؟ بل لا يزوجها إلا ممن ترضاه باتفاق المسلمين.

وإذا قال لها: إن لم تأذني وإلا زوجك الشرع بغير اختيارك، فأذنت بذلك لم يصح هذا الإذن ولا النكاح المرتب عليه، فإن الشرع لا يمكن غير الأب والجد من إجبار الكبيرة باتفاق الأئمة، وإنما تنازع العلماء في الأب والجد في الكبيرة وفي الصغيرة مطلقا، وإذا تزوجها بنكاح صحيح كان عليه أن يقوم بما يجب لها ولا يتعدى عليها في نفسها ولا مالها وما أخذه من ذلك ضمنه، وليس له أن يمنع من يكشف حالها إذا اشتكت، بل إما أن يمكن من يدخل عليها ويكشف كالأم وغيرها، وإما أن يسكن بجنب جيران من أهل الصدق والدين يكشفون حالها، والله أعلم" (أهـ).

ولقائل أن يقول: إن كان الأمر على ما تحكي! فلماذا إذًا السماح بتزويج الصغير أو الصغيرة من الأساس، فليمنع من الأصل على طريقة الباب الذي يأتي من الريح سده واستريح؟!

نقول: القول بالمنع مطلقًا لا يراعي الاحتياجات البشرية للمجتمع، والإعجاز في التشريع ليس هو سد الطرق على الناس، ولكن تنظيمها حتى لو أمكن أن يوضع تشريع وتسهيل عادل لكل شخص شخص دون التعدي على حق، أما تضيق الطرق وعدم مراعاة الظروف والأحوال النفسية للبشر فهذا مسلك التشريعات العاجزة، التي يصنعها الإنسان والله عزو جل إنما يريد أن يخفف عنا.

فماذا لو جد الأب الكفء الذي يرجوه لابنته؟ فلو منع من تزويج ابنته لفاته الخير، فسمح الشرع له وبذلك يستدرج التشريع جميع المصالح..

يقول بدر الدين العيني: "ولا يتفق الكفء في كل زمان، فأثبتنا الولاية في حالة الصغير إحرازًا للكفء؛ لأنه لو انتظر بلوغها يفوت ذلك الكفء، وكل من يتأتى منه الإحراز أبا كان أو غيره فله الولاية في حالة الصغر" (أهـ).

وكذا لو وجد الخاطب الكفء وهو كبير السن، ويخشى إن انتقل إلى الآخرة صارت البنت في ولاية إخوتها أن يتلاعبوا بها، وأن يزوِّجوها حسب أهوائهم، لا حسب مصلحتها، فإن رأى المصلحة في أن يزوجها من هو كفء فلا بأس بذلك.

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام
  • 2
  • 1
  • 4,544

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً