محطات رمضانية

منذ 2015-05-10

هذه وقفات عبارة عن محطات، نستنشق فيها نسائم الرحمات، وننتهل من بستان شهر الخيرات، نقطف الثمار والأزهار، ليتجلى ما فيها من فوائد وعبر وأسرار، علّنا ننال رضا الله العزيز الغفار، ونكون فيه من الفائزين بالجنة والمعتوقين من النار.

الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، جُعل شهر رمضان موسمًا للطاعات، وأفاض على الصائمين فيه من الخيرات، وشرّف أوقاته على سائر الأوقات، والصلاة والسلام على نبينا محمد خير البريات، وعلى آله وصحبه أولي الفضل والمكرمات، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم المعاد، وبعد:

هذه وقفات عبارة عن محطات، نستنشق فيها نسائم الرحمات، وننتهل من بستان شهر الخيرات، نقطف الثمار والأزهار، ليتجلى ما فيها من فوائد وعبر وأسرار، علّنا ننال رضا الله العزيز الغفار، ونكون فيه من الفائزين بالجنة والمعتوقين من النار.

المحطة الأولى: رمضان جامع الأركان.
ميز الله سبحانه وتعالى هذا الشهر الفضيل، بخصائص جمة وفوائد عظيمة، تعكس حقيقة وأهمية هذا الشهر، تتجلى من خلالها وتجتمع كثرة الأجور، مع مضاعفة الحسنات وتنوع الطاعات، إذ تجتمع فيه أركان الإسلام الخمسة.

فرمضان شهر التوحيد إذ يظهر فيه التسليم التام لأحكام الله عز وجل، والانقياد الكامل والخضوع، مع ما فيها من مشقة على النفس وتغيير لنظام الحياة اليومي، واجتناب أصناف الحلال المباح في أوقات معينة.

وإخلاص الأعمال لله هو أصل الدين وعليه مداره، وهو التوحيد الذي أرسل الله به الرسل وأنزل من أجله الكتب: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر من الآية:3].

والصوم لا يقع فيه الرياء -بمجرد العمل- الناقض للإخلاص، لأنه لا يطلع عليه إلا الله بخلاف سائر الأعمال، قال ابن الجوزي: "جميع العبادات تظهر بفعلها وقلّ أن يسلم ما يظهر من شوب بخلاف الصوم".

الصلاة هي الركن الثاني من أركان الإسلام، حيث يجتمع المسلمون في صلاة قيام الليل برمضان، لتقوية الصلة بالله عز وجل، لكن لا بد من التصديق بوعد الله وثوابه وتحقيق هذه العبادة، بما فيها من قراءة وخشوع ودعاء وتضرع وحسن التجاء، مع ضرورة إخلاص النية وصدق الطوية، وطلبًا للأجر والثواب بعيدًا عن مدح وثناء الناس، إذ يقول نبينا الكريم عليه الصلاة والسلام: «من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه» (أخرجه مسلم)..

ورمضان شهر الإنفاق والجود، من حيث الصدقات أو زكاة المال المفروض، إذ اعتاد كثير من المسلمين إخراجها في هذا الشهر المبارك، لتوافق شرف الزمان وتتضاعف الأجور ويحصل التآلف والتكافل بين المسلمين.

«كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وأجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل، وكان جبريل عليه السلام يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة» (متفق عليه)، أما ركن الحج يقول عليه الصلاة والسلام: «فإن عمرة في رمضان تقضي حجة معي» (أخرجه البخاري).

المحطة الثانية: رمضان فرصة ذهبية للتغيير.
يكاد يكون مصطلح التغيير من أكثر المصطلحات ترديدًا وشيوعًا هذه الأيام، والأنظار متجهة نحو القمة للمطالبة بتغيير الظلم والقهر والاستبداد والتسلط من قبل الحكام، وهذا مطلب إذا انضبط بالشرع، لأن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، وصلاح الحاكم فيه خير عظيم على المحكومين، لكن ألا نحتاج نحن إلى تغيير؟! فهلا استوقفتنا الأحداث ولو لدقائق لإعادة النظر بعدة قضايا سلوكية ومنهجية وأخلاقية ومعاملاتية وهكذا؟! سيما ونحن في شهر مليء بحوافز التغيير مع انخفاض المثبطات والعوائق.

ففي هذا الشهر فضائل عظيمة تدعوك لتغيير نسق حياتك والروتين اليومي قبل ذلك، فأبواب الجنان تفتح، وأبواب النيران تغلق، وتصفد الشياطين، وللصائم دعوة لا ترد، ومن قام وصام إيمانًا واحتسابًا، وإقبال باغي الخير، وليلة القدر، والإقبال على تلاوة القرآن، والبذل والإنفاق، والصبر على الطاعة وعن المعصية...

أضف لذلك العوامل المساعدة لكبح جماح النفس الأمارة بالسوء، وانعدام وسوسة الشيطان وتضييق مجراه في دم ابن آدم، فإمكانية التغلب على الشيطان والنفس الأمارة بالسوء؛ حافز كبير ودافع هام جدًا لتحقيق التغير، لكن السؤال هنا عن أي تغيير نبحث؟! والجميع يلهث ويصرخ بالتغيير وربنا سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11]، "وكذلك إذا غير العباد ما بأنفسهم من المعصية، فانتقلوا إلى طاعة الله، غير الله عليهم ما كانوا فيه من الشقاء إلى الخير والسرور والغبطة والرحمة" (تفسير السعدي).

فالتغيير لا يكون بالآمال والأماني والأحلام والأوهام والدعاوى، إنما بالنية الصالحة الصادقة الخالصة، والعزيمة القوية والإرادة الحقيقية، والعمل الجاد الدؤوب، لما فيه صلاح النفس والاستقامة على طاعة الله، والارتقاء بالإيمان لأعلى المراتب، لأن حقيقته ما وقر في القلب وصدقته الأعمال.

ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها *** إن السفينة لا تجري على اليبس


المحطة الثالثة: لعلكم تتقون.
من أجلّ وأظهر حِكم الصيام وآثاره العظام وفوائده الجسام؛ تحصيل التقوى وتحقيقها، وتدريب النفس المداومة عليها، فرمضان أقصر طريق للتقوى، التي جماعها (امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه)، وهي: "أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله" (تفسير ابن كثير)، كما قال طلق بن حبيب.

لذلك قال سبحانه في بداية آيات الصيام {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة من الآية:183]، وفي آخرها {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [البقرة من الآية:187]، وقد جمع الله سبحانه وتعالى لأصحاب التقوى؛ التوحيد والعقيدة والعبادة والأخلاق، في آية واحدة بقوله سبحانه: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة:177]، ومن قام بها، كان بما سواها أقوم، فهؤلاء هم الأبرار الصادقون المتقون، وقد علم ما رتب الله على هذه الأمور الثلاثة، من الثواب الدنيوي والأخروي" (تفسير السعدي).

ومن أبرز علامات التقوى؛ تحري الحلال واجتناب الحرام، والحرص على مرضاة الله والتسليم لأوامره بكل صغيرة وكبيرة، والإخلاص والورع والزهد، والابتعاد عن مواطن الشبهات، والصبر على البلاء، والرضا بالقضاء، وشكر النعماء.

ومن مأثور السلف عن التقوى:
الحسن البصري: "ما زالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيرًا من الحلال مخافة الحرام".
سفيان الثوري: "إنما سموا المتقين لأنهم اتقوا ما لا يتقى".
عبد الله بن المبارك: "لو أن رجلًا اتقى مائة شيء ولم يتق شيئًا واحدًا، لم يكن من المتقين".
موسى بن أعين: "المتقون تنزَّهوا عن أشياء من الحلال مخافة أنْ يقعوا في الحرام، فسماهم الله متقين" [1].
فمن لم يتق الله في رمضان ويوطن نفسه على ذلك فمتى؟!

المحطة الرابعة: خير الشهور وتجارة لن تبور.
التاجر الرابح الحاذق الذي يستثمر موسم التجارة، بأفضل الأرباح وأعظمها، ولما كان رمضان موسم من مواسم الخيرات، وفعل الطاعات واجتناب المنهيات، كان لزامًا علينا استغلاله أحسن استغلال، والاستفادة منه لتحصيل الأجر والثواب، وعدم تفويت هذه الفرصة، لأنه سريع الانقضاء وشيك الانتهاء.

قيل للأحنف بن قيس: "إنك شيخ كبير، وإن الصيام يضعفك"، فقال: "إني أعده لسفر طويل" [2].
وعن الحسنِ البصري قالَ: "إنَّ اللَّه جعلَ شهرَ رمضانَ مضمارًا لخلقه يَسْتَبِقُون فيهب طاعتهِ إلى مرضَاتهِ، فسبق قومٌ ففازُوا، وتخلَّف آخرونَ فخابُوا، فالعجَب من اللاعِبِ الضَّاحِكِ في اليومِ الذي يفوزُ فيه المحسنونَ ويخسرُ فيه المبطِلُونَ" [3].

فرمضان موسم قد لا يعوض، وشهر للاستزادة من جميع أنواع الخير، لأن النفوس تكون فيه مقبلة، والأجواء إيمانية أكثر من غيرها، قال الإمام الشافعي: "أحب للرجل الزيادة بالجود في شهر رمضان اقتداء برسول الله عليه الصلاة والسلام ولحاجة الناس فيه إلى مصالحهم، ولتشاغُل كثير منهم بالصوم والصلاة عن مكاسبهم" [4].

المحطة الخامسة: رمضان شهر العبادات لا المأكولات.
كثير من المسلمين ينصب اهتمامهم باستقبال شهر البركات والخيرات والعبادات؛ بأصناف المأكولات والمشروبات، حتى تستغرقهم وتصرفهم عن الطاعات والاستزادة من الخيرات، مع أن الحكمة من الصيام ليست مجرد ترك الطعام والشراب في النهار ليعوض ليلًا بشكل مبالغ فيه، بل بعضهم ينتقم بطعام وشراب الليل من صيام النهار، غير مكترثين ما يجره عليهم من أضرار وكسل وسوء عاقبة.

قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: "أَيُّهَا النَّاسُ إِيَّاكُمْ وَالْبِطْنَةَ مِنَ الطَّعَامِ، فَإِنَّهَا مَكْسَلَةٌ عَنِ الصَّلاةِ، مُفْسِدَةٌ لِلْجَسَدِ، مُوَرِّثَةٌ لِلسَّقَمِ، وَأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُبْغِضُ الْحَبْرَ السَّمِينَ، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِالْقَصْدِ فِي قُوتِكُمْ، فَإِنَّهُ أَدْنَى مِنَ الإِصْلاحِ، وَأَبْعَدُ مِنَ السَّرَفِ، وَأَقْوَى عَلَى عِبَادَةِ اللَّهِ، وَإِنَّهُ لَنْ يَهْلِكَ عَبْدٌ حَتَّى يُؤْثَرَ شَهْوَتَهُ عَلَى دِينِهِ" [5].

وقيل: "من كان همّه ما يدخل في بطنه، كانت قيمته ما يخرج منه".
وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: "لَا تَأْكُلُوا كَثِيرًا، فَتَشْرَبُوا كَثيِرًا، فَتَرْقُدُوا كَثِيرًا، فَتَخْسَرُوا كَثِيرًا" [6].

وَفِي حِكْمَةِ لُقْمَانَ: "يَا بُنِيَّ إِذَا امْتَلَأَتِ الْمَعِدَةُ نَامَتِ الْفِكْرَةُ، وَخَرِسَتِ الحِكْمَةُ، وَقَعَدَتِ الْأعْضَاءُ عَنِ الْعِبَادَةِ" [7].
يقول الزعيم الإسلامي الهندي (شوكت علي) بعد أن زار مصر في شهر رمضان عام 1931م، ورأى موائدها الحافلة بصنوف الطعام: "إن فتات موائد المصريين كفيل بأن يملأ بلادهم بالمساجد والمدارس والملاجئ والمستشفيات" [8].

وأخيرًا أذكر نفسي والمسلمين جميعًا بكلمات جميلة لابن القيم في المقصود من الصيام ومنافعه وفوائده، يقول: "المقصود من الصيام حبس النفس عن الشهوات، وفطامها عن المألوفات، وتعديل قوتها الشهوانية، لتستعد لطلب ما فيه غاية سعادتها ونعيمها، وقبول ما تزكو به مما فيه حياتها الأبدية، ويكسر الجوع والظمأ من حدتها وسورتها، ويذكرها بحال الأكباد الجائعة من المساكين، وتضيق مجاري الشيطان من العبد بتضييق مجاري الطعام والشراب، وتحبس قوى الأعضاء عن استرسالها لحكم الطبيعة فيما يضرها في معاشها ومعادها، ويسكن كل عضو منها وكل قوة عن جماحه وتلجم بلجامه، فهو لجام المتقين، وجنة المحاربين، ورياضة الأبرار والمقربين" [9].

اللهم تقبل صيامنا وقيامنا وسائر أعمالنا، ويسر لنا الطاعات والصالحات في شهر البركات.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] انظر الدر المنثور للسيوطي وجامع العلوم والحكم لابن رجب.
[2] تاريخ دمشق لابن عساكر.
[3] روائع التفسير لابن رجب الحنبلي.
[4] معرفة السنن والآثار للبيهقي.
[5] الجوع لابن أبي الدنيا.
[6] الشفا بأحوال المصطفى للقاضي عياض.
[7] المصدر السابق.
[8] بستان رمضان.
[9] زاد المعاد.

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام

أيمن الشعبان

داعية إسلامي، ومدير جمعية بيت المقدس، وخطيب واعظ في إدارة الأوقاف السنية بمملكة البحرين.

  • 2
  • 0
  • 8,796

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً