أجزاء من النبوة
سمة أهل الخير، والتأني في تناول الأمور، والتوسط في السلوك بين الإفراط والتفريط كلها قيم ربيبة هذا الدين العظيم، ترعرعت في كنفه وكبرت بين أحضانه لتقول للبشرية كافة أن الإسلام هو القيم والقيم هي الإسلام.
عن عبد الله بن سرجس رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: «
» (1).سمة أهل الخير، والتأني في تناول الأمور، والتوسط في السلوك بين الإفراط والتفريط كلها قيم ربيبة هذا الدين العظيم، ترعرعت في كنفه وكبرت بين أحضانه لتقول للبشرية كافة أن الإسلام هو القيم والقيم هي الإسلام.
السمت الحسن: هو حسن الهيئة والمنظر، وأصل السمت الطريق، ثم استعير للزي الحسن والهيئة المثلى في الملبس وغيره من السيرة المرضية والطريقة المستحسنة، وفي الفائق: السمت أخذ المنهج ولزوم المحجة. وفي رواية لهذا الحديث: إن الهدي الصالح(2) بفتح الهاء: السيرة السرية(3).
قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا ۖ وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ ۚ ذَٰلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف:26] قال ابن عباس: ولباس التقوى: هو السمت الحسن في الوجه (4).
وقال تعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ۖ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا ۖ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح:29] قال ابن كثير: قال ابن عباس رضي الله عنه: يعني السمت الحسن، وقال مجاهد وغير واحد يعني: الخشوع والتواضع، وقال ابن أبي حاتم عن منصور عن مجاهد: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ} قال: الخشوع، قلت ما كنت أراه إلا هذا الأثر في الوجه، فقال: ربما كان بين عيني من هو أقسى قلبًا من فرعون، وقال السدي: الصلاة تحسن وجوههم، وقال بعض السلف: من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار، وقد أسنده ابن ماجة في سننه عن جابر رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار» (5)، والصحيح أنه موقوف، وقال بعضهم: إن للحسنة نورًا في القلب، وضياءً في الوجه، وسعةً في الرزق، ومحبةً في قلوب الناس.
وقال أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه: "ما أسر أحد سريرة، إلا أبداها الله تعالى على صفحات وجهه، وفلتات لسانه". والغرض أن الشيء الكامن في النفس يظهر على صفحات الوجه، فالمؤمن إذا كانت سريرته صحيحة مع الله تعالى أصلح الله عز وجل ظاهره للناس، كما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: "من أصلح سريرته أصلح الله تعالى علانيته".
ثم قال ابن كثير: فالصحابة رضي الله عنهم خلصت نياتهم، وحسنت أعمالهم، فكل من نظر إليهم أعجبوه في سمتهم وهديهم، وقال مالك رضي الله عنه: بلغني أن النصارى كانوا إذا رأوا الصحابة رضي الله عنهم الذين فتحوا الشام يقولون: والله لهؤلاء خير من الحواريين فيما بلغنا، وصدقوا في ذلك فإن هذه الأمة معظمة في الكتب المتقدمة، وأعظمها وأفضلها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد نوه الله تبارك وتعالى بذكرهم في الكتب المنزلة والأخبار المتداولة، ولهذا قال سبحانه وتعالى ههنا: {ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ} ثم قال: {وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ} (6).
أما التؤدة: فهي التأني والتثبت وترك العجلة في جميع الأمور، فعن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأشج عبد القيس: « » (7) قال النووي: الحلم هو العقل، والأناة هي التثبت وترك العجلة، وسبب قول النبي صلى الله عليه وسلم ذلك له ما جاء في حديث الوفد أنهم لما وصلوا إلى المدينة، بادروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأقام الأشج عند رحالهم، فجمعها وعقل ناقته ولبس أحسن ثيابه، ثم أقبل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقربه النبي صلى الله عليه وسلم وأجلسه إلى جانبه، ثم قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: « » فقال القوم: نعم، فقال الأشج: يا رسول الله، إنك لم تزاود الرجل عن شيء أشد عليه من دينه، نبايعك على أنفسنا، ونرسل إليهم من يدعوهم، فمن اتبعنا كان منا ومن أبى قاتلناه. قال: « » الحديث، قال القاضي عياض: فالأناة تربصه حتى نظر في مصالحه ولم يعجل، والحلم هذا القول الذي قاله الدال على صحة عقله وجودة نظره للعواقب (8).
أما قول النبي صلى الله عليه وسلم: «فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة:148]، {سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} [الحديد:21]، كان البوشنجي في الخلاء فدعا خادمه فقال: انزع قميصي وأعطه فلاناً. فقال: هلا صبرت حتى تخرج. قال: خطر لي بذله ولا آمن على نفسي التغير (10).
» (9) فقال المناوي: « » أي مستحسن محمود، « » فإنه غير محمود بل الحزم بذل الجهد فيه لتكثير القربات ورفع الدرجات، فإن في تأخير الخيرات آفات، وقال الطيبي: معناه أن الأمور الدنيوية لا يعلم أنها محمودة العواقب حتى يتعجل فيها أو مذمومة حتى يتأخر عنها بخلاف الأمور الأخروية لقوله سبحانه: {والاقتصاد: هو سلوك القصد في الأمور والدخول فيها برفق على سبيل تمكن الدوام عليها، وقيل هو: التوسط في الأمور والأحوال والتحرز عن طرفي الإفراط والتفريط.
قال التوربشتي: الاقتصاد على ضربين أحدهما ما كان متوسطًا بين محمود ومذموم، كالمتوسط بين الجور والعدل والبخل والجود، وهذا الضرب أريد بقوله تعالى: {وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ} [فاطر:32]، والثاني محمود على الإطلاق، وذلك فيما له طرفان إفراط وتفريط كالجود فإنه بين الإسراف والبخل والشجاعة فإنها بين التهور والجبن، وهذا الذي في الحديث هو الاقتصاد المحمود على الإطلاق (11).
وقوله صلى الله عليه وسلم: «
» أي هذه الخصال من شمائل وأخلاق أهل النبوة وجزء من أجزاء فضائلهم، فاقتدوا بهم فيها، وتابعوهم عليها، إذ ليس معناه أن النبوة تتجزأ ولا أن من جمع هذه الخلال صار فيه جزء من النبوة لأنها غير مكتسبة وإنما هي كرامة يخص بها من يشاء من عباده والله أعلم حيث يجعل رسالته، أو المراد أن هذه الخلال مما جاءت به النبوة ودعا إليها الأنبياء، أو أن من جمعها ألبسه اللّه لباس التقوى الذي ألبسه الأنبياء فكأنها جزء منها (12).والحديث ورد أيضا بلفظ: «
» (13)، وفي رواية أخرى: « » (14)، ورواه المقدسي في الأحاديث المختارة عن أنس بلفظ: « » (15). فالمراد بالعدد المذكور التكثير لا التحديد، على أنه يمكن الاختلاف بحسب الكمية والكيفية الحاصلة في المتصف به أفاده المباركفوري (16)
الهوامش:
(1) رواه الترمذي- كتاب البر والآداب والصلة- باب ما جاء في التأني والعجلة رقم 2010، ورواه أبو بكر الشيباني في الآحاد والمثاني 2/336 رقم 1105، وعلاء الدين على المتقي في كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال رقم 6376، والحديث حسنه الألباني انظر حديث رقم: 3692 في صحيح الجامع السيوطي/ الألباني، وقال أيضًا في صحيح الترغيب والترهيب رقم 1696: حسن صحيح.
(2) رواه أحمد وحسنه الألباني في صحيح الجامع رقم 1993.
(3) انظر فيض القدير للمناوي 1/153، وتحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي للمباركفوري- ج6 ص 118- ط دار الفكر- بيروت.
(4) ابن كثير- تفسير القرآن العظيم- ج3 تفسير الآية من سورة الأعراف.
(5) ضعيف: ضعفه الألباني في ضعيف الجامع رقم 5816.
(6) تفسير ابن كثير- آخر تفسير سورة الفتح بتصرف.
(7) رواه مسلم- كتاب الإيمان رقم 24، والترمذي- كتاب البر والآداب والصلة- باب ما جاء في التأني والعجلة 4/366 رقم 2011.
(8) انظر تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي- ج 6 ص 119- كتاب البر والآداب والصلة حديث رقم 2011.
(9) صحيح، رواه أبو داود- كتاب الأدب- باب في الرفق، والحاكم والبيهقي، وقال الحاكم: صحيح على شرطهما،انظر صحيح الترغيب والترهيب للألباني رقم 3356، وصحيح الجامع له أيضًا حديث رقم: 3009.
(10) انظر فيض القدير للمناوي 1/452، وعون المعبود شرح سنن أبي داود- ج13 ص 136- ط دار الفكر.
(11) تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي للمباركفوري- ج6 ص 118- ط دار الفكر بيروت.
(12) انظر فيض القدير للمناوي 1/452، وتحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي للمباركفوري- ج6 ص 118- ط دار الفكر- بيروت.
(13) وهي رواية حسنة رواها أبو داود 4/247 رقم 4776 وفي كنز العمال رقم 5292، وحسنها الألباني في انظر حديث رقم: 1993 في صحيح الجامع.
(14) رواها الطبراني في المعجم الكبير 12/106- رقم 12608.
(15) الأحاديث المختارة للمقدسي، رقم 2209.
(16) المباركفوري في تحفة الأحوذي- ج6 ص 118.
- التصنيف: