المسلمون بين العجز والدعاء
المسلمون يميلون للتعاون والحوار أملاً في أن يفضي ذلك للإيمان أكثر من ميلهم للقتال والصراع والدعاء بهلاك الأعداء..
عندما تسلط الجيش الإسرائيلي بآلته الحربية الطاغية على أهالي غزة بالقتل والحرق والدمار، انقسم العالم الإسلامي إلى معسكرين (معسكر الحكام، ومعسكر الشعوب)، وتخاذل الحكام ووقفوا موقفًا متواطئًا مع إسرائيل ومن تعاطف منهم مع الفلسطينين تعاطف بالقول فقط، ونظرًا لأن الشعوب لا تملك شيئًا في صنع قرار بلادها، ولا تملك أن تعمل أي عمل حقيقي يمثل مساندة إيجابية فعالة لأهالي غزة كتحريك الجيوش أو قطع البترول عن الدول التي تساند إسرائيل، أو إمداد المقاومة بالسلاح، فإن ذلك كان حافزًا لأن يجتهد المسلمون بالمساجد في الدعاء على إسرائيل.
والدعاء على الأعداء والمعتدين أمر مشروع في الإسلام، وفعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما فعله الأنبياء من قبله.
فنبي الله نوح عليه السلام أخبر عنه القرآن أنه دعا على الكافرين من قومه فقال تعالى: {وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً . إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً} [سورة نوح:26-27]، ودعا موسى على فرعون وقومه قال تعالى: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس:88].
كما دعا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على أعدائه في العديد من المواقف، ففي مرة دعا على قريش بأن تحيق بها أزمة اقتصادية كالتي حاقت بأهل مصر في عصر يوسف عليه السلام، فقد روى البخاري عن عبد الله بن مسعود قال: "إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَأَى مِنْ النَّاسِ إِدْبَارًا قَالَ: « »، فَأَخَذَتْهُمْ سَنَةٌ حَصَّتْ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى أَكَلُوا الْجُلُودَ وَالْمَيْتَةَ وَالْجِيَفَ، وَيَنْظُرَ أَحَدُهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فَيَرَى الدُّخَانَ مِنْ الْجُوعِ، فَأَتَاهُ أَبُو سُفْيَانَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ تَأْمُرُ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَبِصِلَةِ الرَّحِمِ وَإِنَّ قَوْمَكَ قَدْ هَلَكُوا فَادْعُ اللَّهَ لَهُمْ".
كما دعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم على قبائل عربية أخرى حاربته أو ناصبته العداء، وقتلت أصحابه ودعا على قبائل يهودية لنفس الأسباب، لكن العلماء حددوا إطارًا وآدابًا للدعاء، وذلك جمعًا بين ألفاظ ومناسبات الأحاديث الخاصة بأمور الدعاء، فقال ابن حجر في تعليقه على الحديث المذكور في الدعاء بالقحط والأزمة الاقتصادية على قريش: "الدُّعَاء عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِالْقَحْطِ يَنْبَغِي أَنْ يُخَصّ بِمَنْ كَانَ مُحَارِبًا دُون مَنْ كَانَ مُسَالِمًا" (فتح الباري شرح صحيح البخاري، جـ3 ص:439).
وذلك لأن هناك روايات في دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم على قبائل مضر دعا فيها لبعض قبائلها، مثل حديث أبي هريرة: "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرَّكْعَةِ الْآخِرَةِ يَقُولُ: « »، وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: « » قَالَ ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِيهِ هَذَا كُلُّهُ فِي الصُّبْحِ" (البخاري حديث:951)، ولذلك أورده البخاري في نفس الباب ليضع الدعاء على الأعداء في إطاره الصحيح..
فالدعاء هنا ليس على كل الكفار لكفرهم، وإنما هو دعاء على الكفار المحاربين، أما المسالم منهم فهذا ليس مجال الدعاء عليه، ومن هنا فقد ثارت بعض المشكلات في صيغ الدعاء في بعض المساجد، فالمعتاد أن يدعو الإمام بالهلاك على ما يسميهم بـ"اليهود المعتدين" أو "اليهود المغتصبين"، ولكن في قليل من الحالات ربما يقول الإمام: "اللهم عليك باليهود الضالين أعداءك أعداء الدين" مثلاً..
وفي الواقع فهو لا يقصد في قلبه أن يدعو على كل يهودي في الأرض، وإنما يقصد هؤلاء الذين يعتدون على الفلسطينين، لكنه سبقه لسانه دون تركيز منه في مرامي اللفظ، ولكن بعض المصلين ذوي الثقافة السياسية ربما طمحوا أن يدعوا أئمة المساجد على الصهاينة فقط، باعتبار أن الصهيونية هي سبب ذلك العدوان والاحتلال وليس مجرد اليهودية، وأن هناك يهود غير صهاينة، ولكن من الصعب أن يلم كل أئمة المساجد بهذا التفصيل، لكن أكثرهم إن لم يكن جميعهم يدركون ويقصدون بدعائهم (اليهود المحتلين ومن ساندهم في أي مكان في العالم)، ولذلك يكثر على لسانهم لفظ: "اليهود المعتدين" أو "اليهود المغتصبين"، احترازًا من اليهود المسالمين إن وجدوا.
والمسلمون هم دعاة بناء وليسوا دعاة هدم، لذلك فهم يأملون في هداية الخلائق جميعًا، ولذلك لما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم راجعًا من الطائف حزينًا من سوء موقفهم من الإسلام، وقبلها كان حزينًا من موقف قريش المعاند أرسل إليه ربه ملك الجبال فسأله أن يطبق على قومه الأخشبين فقال: « » (رواه الطبراني عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب).
فالمسلمون يميلون للتعاون والحوار أملاً في أن يفضي ذلك للإيمان أكثر من ميلهم للقتال والصراع والدعاء بهلاك الأعداء، لكن في أزمة غزة هذه وجد المسلمون أنفسهم بين نارين، نار الحكم المستبد في بلادهم الذي يمنعهم من نصرة أهل غزة، ونار الإسرائيلين الذين يصلون أهل غزة نار الفسفور الأبيض، ولا يملكون لها دفعًا ولا دفاعًا، فلجأوا إلى الله يضجون إليه بالدعاء في المساجد كل صلاة، وهذا ليس عيبًا إلا إذا ظنوا أنهم بمجرد قيامهم بهذا الدعاء قد فعلوا ما عليهم وتحللوا مما يجب عليهم من نصرة إخوانهم ونجدتهم من نار الاحتلال.
فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يركن للدعاء فقط، بل كان يتخذ تدابير عديدة من أجل تحقيق أهداف الدعوة، فهو كان يتحرك بين الناس في مكة يدعوهم للإسلام، وكان يعرض نفسه على قبائل العرب، وسافر للطائف ليعرض على قادتها الإسلام، ولما لم يأت ذلك كله بالنتيجة المرجوة هاجر للمدينة المنورة، وأحدث فيها تنمية اقتصادية وبنى بها جيشه، وأعاد تأسيس قواعد التكتيك القتالي بما لم يكن قد عرفه العرب في المدينة أو حتى في كل الجزيرة العربية، وحتى في غزوة بدر الذي اشتهر دعاؤه وإلحاحه في الدعاء فيها، لم يقم بهذا الدعاء إلا بعد أن رتب الجيش وحدد لكل شخص موقعه وعمله في القتال وحدد خطة القتال وقطع الماء عن قريش وحصرهم في أرض غير مناسبة، وبعد ذلك كله جلس يدعو الله أن ينصر جنوده.
وفي غزوة الخندق حفر الخندق وحصن المدينة، ووضع أهالي المدينة من النساء والأطفال في قلاع وحصون المدينة، ورتب لهم السلاح والحراسات وحشد كل القادرين على حمل السلاح لحماية المدينة، وحماية الخندق الذي يحميها ومع وبعد ذلك أخذ يدعو.
فالدعاء ليس وسيلة وحيدة، ولا هو يخرج بصاحبه من دائرة المسئولية العملية بمجرد أن دعا، بل الدعاء وسيلة من الوسائل، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم هو خير من دعا وهو أفضل من دعا، وهو الأقرب إلى الله ومع ذلك لم يمت إلا وقد تحرك كثيرًا وأوذي كثيرًا بسبب حركته في الدعوة إلى الله، وسجن وكاد يقتل بسبب ذلك، كما حرك هجرتين للحبشة وهاجر إلى المدينة وعاد وفتح مكة وغزا وأرسل عشرات الغزوات في كل أنحاء الجزيرة العربية بل وغزا الروم.
ومن المشهور -كما جاء في البخاري وغيره- أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رد عسكريًا بسرعة على نقض قريش لمعاهدة الحديبية، عندما ساندوا قبيلة بكر الكافرة في قتل أعدادًا من قبيلة خزاعة المسلمة، ولقد جاء عمرو بن سالم سيد خزاعة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمسجد النبوي فقال له:
يَا رَبّ إِنِّي نَاشِـد مُحَمَّـدًا *** حِلْـف أَبِينَا وَأَبِيهِ الْأَتْلَدَا
فَانْصُرْ هَدَاك اللَّه نَصْرًا أَيَّـدَا *** وَادْعُ عِبَادَ اللَّهِ يَأْتُوا مَدَدًا
إِنَّ قُرَيْشًا أَخْلَفُوك الْمَوْعِـدَا *** وَنَقَضُوا مِيثَاقَك الْمُـؤَكَّـدَا
هُمْ بَيَّتُونَا بَالْوَتِيرِ هُجَّـدًا *** وَقَـتَلُونَـا رُكَّـعًا وَسُـجَّـدًا
وَزَعَمُوا أَنْ لَسْت أَدْعُو أَحَدًا *** وَهُـمْ أَذَلُّ وَأَقَـلُّ عَـدَدًا
فَقَالَ لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ردًا على هذه الاستغاثة كلمة واحدة: « »، وجهز الجيش من عشرة آلاف مقاتل وفتح مكة، فكان نصره لقتلى مسلمي خزاعة بيد حلفاء قريش هو سحق قريش نفسها هي وحلفاءها، ولم يكتفِ بالدعاء لخزاعة أو التبرع لها بالمال والغذاء أو حتى السلاح.
وعندما صعدت روحه صلى الله عليه وآله وسلم إلى بارئها كان جيشًا مجهزًا مستعدًا يقف على أطراف المدينة ينتظر أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لينطلق ليغزو الروم انتقامًا لخسائر المسلمين في معركة مؤته مع الروم، فحتى وهو صلى الله عليه وآله وسلم في نزع الموت الأخير كانت جيوشه جاهزة للتحرك، ولم يكتفِ بالدعاء وهو على فراش الموت، بل كان مصممًا وهو على فراش الموت على الانتقام لقتلى المسلمين، وكان كلما أفاق من سكرة من سكرات الموت يقول أنفذوا بعث أسامة، ولكن الصحابة لم يطاوعهم قلبهم بأن يغادروا المدينة والنبي صلى الله عليه وآله وسلم في مرض شديد فتأخروا في حركتهم..
وكان الصديق رضي الله عنه واعيًا بهدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأصر على إنفاذ أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإرسال الجيش ليغزو الروم بعيد موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، رغم ردة كل الجزيرة العربية وتآمرها على دولة الإسلام وقال قولته المشهورة: "والله لو لعبت الكلاب بخلاخيل أمهات المؤمنين بالمدينة ما حللت لواء عقده النبي صلى الله عليه وآله".
فهكذا لم يكتف النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخلفاؤه الراشدون رضي الله عنهم بالدعاء في مواطن الجهاد، بل كان جهادهم قتالاً بجانب الدعاء حتى وهم على فراش الموت.
كتبته في: 2009