العبادة التي جمعت بين المال والبدن

منذ 2008-12-06
العبادة التي جمعت بين المال والبدن, الحجّ عبادة تشترك في أدائها عناصر متعدّدة

الحمدلله والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وسلم وبعد:

هل الحج جمع بين المال والبدن كما هو عنوان المقال؟ وكيف يكون ذلك؟
أولا دعني أرجع بك إلى الحديث المشهور الذي حفظناه منذ نعومة أظفارنا: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله (أي النطق بها والعلم بمرادها، ومحله اللسان والقلب والجوارح وهذا الركن الأول)، وإقام الصلاة (وهو الركن الثاني ومحله القلب والبدن فأي حركة خارجة عنه تبطلها كالأكل والكلام)، وإيتاء الزكاة (وهو الركن الثالث وهو إخراج المال إذا بلغ نصابه، وهي عبادة مالية بحتة، وقد يقول البعض وبدنية، فأقول لا يشترط فقد يأتي الساعي فيأخذ الزكاة والرجل جالس في بيته أو عن طريق حوالة بنكية أونحو ذلك)، وصوم رمضان (الركن الرابع: وهو الإمتناع عن الأكل والشرب في وقته المحدد، قد تشترك معه الصلاة نعم، لكن تأمل الآن معي في الركن الخامس)، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا» [رواه البخاري].

ومعنى الحج القصد إلى مكان معين، وهو السفر إلى بيت الله الحرام ومشاعره لأداء نسك معين في وقت معين، وهذا يحتاج إلى مال يكفيه وبدن متعاف فيه، فالطواف في البيت صلاة والصلاة في الإحرام يوم عرفة مثلا.. عبادة عظيمة، فأداء أعظم أركان الحج مع الصلاة وبذل النفقة فيه، عبادة جمعت بين المال والبدن والروح والعرق والدموع والدماء أحيانا، والمرض أحيانا أخرى، جمعت بين الصبر والإلتزام والانضباط، بين العطف والرحمة والقوة والتحمل، بين الشوق والحنين وحلم الملايين من فقراء المسلمين يوم تكتحل عيونهم للنظرة الأولى لبيت الله الحرام، هنا يرخص المال ويهون التعب.

واللبيب العارف عليه بذل النفقة الطيبة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللهَ طيب لا يقبل إلا طيبًا» [رواه مسلم]، أي أنَّ الله كامل الصفات لا يقبل إلا حلالاً، ومن هنا يقول الله تعالى لعباده المؤمنين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [سورة البقرة: 267]، أي من الحلال الذي لاشبهة فيه.

ومعلوم أهمية إنفاق المال الحلال الطيب، والأكل منه فكم من ملبّ يلهث لسانه بالتلبية - لبيك اللهم لبيك - والملائكة ترد عليه - والعياذ بالله - لا لبّيك و لا سعديك, فمأكلك من حرام وملبسك من حرام ، إن الذي يحج وكسبه مشتبه فيه قد لا يقبل الله منه حجه، ولإذا قبل أثم!!، في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا خرج الحاج حاجا بنفقة طيبة، ووضع رجليه في الغرز، فنادى: لبيك اللهم لبيك، ناداه مناد من السماء: لبيك وسعديك، زادك وراحلتك حلال، وحجك مبرور غير مأزور، وإذا خرج بالنفقة الخبيثة فوضع رجله في الغرز فنادى: لبيك، ناداه مناد من السماء: لا لبيك ولا سعديك، زادك حرام، ونفقتك حرام، وحجك غير مبرور» [الراوي: أبو هريرة المحدث: الألباني - المصدر: السلسلة الضعيفة - الصفحة أو الرقم: 4403- خلاصة الدرجة: ضعيف جداً].

ومعلوم ما للكسب الطيب من أثر في صلاح الرجل وأهله وولده بل تتعداها لأمور كثيرة طيبة تتعلق بدينه ودنياه.

هذه الرحلة هي رحلة رّوح وبدن، وهي الهجرة الحقيقية إلى الله، الوفادة عليه..

هجر للأهل، والمال، والملذّات، واحتمال للمتاعب والمشاق، والعناء.. حبّاً لله، وشوقاً إليه، واستجابة لندائه أمر ليس بالهين : {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [سورة الحج: 27].

عبادة تشترك في أدائها عناصر متعدّدة.. يشترك فيها الجسم والمال.. وتساهم فيها النفس والمشاعر، لذا كان الحج عبادة ماليّة بدنيّة، يتعبّد بها الإنسان عن طريق بذل المال، والجهد، واحتمال المشاق والمتاعب، قربة إلى الله سبحانه، وإظهاراً للعبوديّة الخالصة له، وتأكيداً للتحرّر من كلّ قوّة عداه سبحانه فما أحوجنا إلى مثل تلك المعاني في واقع حياتنا.

وهدف الحج هذا هو هدف كلّ عبادة في الإسلام.. إنه الخلوص إلى الله سبحانه الذي ضعف عند بعض المسامين ، إنه قطع النظر عمّا سواه في هذا الوجود، واتخاذ المعبود غاية في نشاط الإنسان وتوجهه، ليمتلئ وجدان المتعبّد بالحقيقة الكبرى فيغدو طهراً متجرّداً من كلّ شرّ ورذيلة، فهل يليق بالمسلم في رحاب العظمة والطهر وإنزال مطايا الذنوب من عواتق كلت وملت منها الأبدان أن تحرقها في موسم العبادة في طوافها وسعيها في وقوفها بعرفات وأيام وليالي منى بالذنوب والسيئات نظرات محرمة من هنا وهناك!!، وكلمات بذيئة وأخلاق سيئة ووجه مكفهر، كلا كلا.. لا يليق بذلك البدن وتلك الروح المشتاقة أن تنزل إلى الدركات المحرقة بينما الناس تتنافس في العب والعدو والسعي للدرجات العلى، وغض أبصارها عن المحارم وألسنتها عن الكذب والخيانة.

ينبغي أن يدرك المسلم معنى الأجر العظيم المترتب عليه ولادته الجديدة التي لا تجدها في أي بقعة في العالم مهما بذلت لها الغالي والنفيس إنها ولادة الروح المطمئنة والنفس الطيبة التي تشترى بالأموال لاتجدها في العيادات النفسية ولا في الرحلات البرية والجوية ولا في منتزهات آسيا وأوربا بل تجدها في الحجة المبرورة حيث لا يكون منتهاها إلا الجنة إن شاء الله.. في الحديث: «من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه» [رواه البخاري].. وروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أي العمل أفضل؟"، قال: «إيمان بالله ورسوله»، قيل: "ثم ماذا؟"، قال: «الجهاد في سبيل الله»، قيل: "ثم ماذا؟"، قال: «حج مبرور»..

إن صحّة الروح تتمّ برجوعها إلى فضائل الأخلاق ومحامدها التي تُنجيه وتُسعده في الدارين.. فهل نحن مستعدون.. أسأل الله أن يجملنا بكل جميل وخلق كريم إن ربي لطيف لما يشاء وهو العليم الحكيم.. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.

كتبه محمد الحجي








المصدر: طريق الإسلام
  • 0
  • 2
  • 29,809

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً