45 دقيقة في اللحد

كتب الله لي اليوم عمراً جديداً، كتب لي الحياة مرة أخرى، فقد عشت تجربة مثيرة، فيها عبرة مؤلمة، فيها وقفة صارخة مع النفس؛ لكن: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216].

أسمعتم عن تجربة دخول القبر ثم الخروج منه؟، أمررتم بهذه التجربة؟، وآه منها تجربة.. آه منها أحاسيس.. آه منها آلام.. آه منها حسرات!!

شاء لي القدر اليوم أن أجري أشعة (رنين مغناطيسي..M.R.i) وهي دخول الشخص في جهاز يشبه القبر وإن كنت تستطيع التنفس وتفتح عينيك، وتشعر بما حولك.

اعتقدت أنني سأدخل وأمر منه عدة مرات كما حدث معي من قبل، وأنا أدخل شعرت أنني ألج القبر أو بمعنى أصح يقبرونني، لأن الفنية المختصة هي التي تحرك بي الجهاز، لكن الأمر اختلف اليوم فقد ربطتني بالسرير من خصري ووضعت ذراعي على صدري وربطت رجليَّ سوياً، ووضعت سماعات بأذني، وقالت: "لا تتحركي ستمكثين 45 دقيقة!!"...

وآه أدخلتني القبر وإذا بصوت مرتفع يشبه حفر أساسات البناء يخترق أذني ورأسي ويزلزلني.. يا رب ما هذا؟، أين أنا؟، خاطبت نفسي: "اقرئي القرآن أفضل حتى تغيبين عن هذا الواقع، خذي سورة البقرة ففيها البركة إن شاء الله.

وبدأت في التلاوة محاولة تجاهل هذا الزلزال الذي بدأ يعصف بروحي. بعد دقائق شعرت بالسكون التام والجهاز ينسحب بي للخارج فإذا الممرضة معها أوراق وتقول: "نسيت أجعلك توقعي!!"، أوقع على ماذا؟!، أذاهبة لإجراء عملية خطيرة؟!، أأساق للموت؟!، ابتسمت ووقعت.. وقبرت مرة أخرى وبدأ الصوت مرة أخرى - لكن - بنغمة أخرى هذه المرة صوت يشبه عجلات القطار..

وكلما قوي الصوت تلوت بصوت أعلى.. فتحت عيني برهة فزعت.. وأنا مرهونة في قبري ولم أكمل فقد تاه الحفظ مني أو تهت أنا من الآيات، قلت لنفسي أقرأ سوراً قصيرة فتحت عيني وأغلقتهما سريعا وجدت نفسي أتلو سورة (الملك) دون تفكير, تلوتها بقلبي وروحي كما لم أتلها من قبل وأنهيتها، تنبهت أنها المنجية من عذاب القبر كما أخبر رسولنا صلى الله عليه وسلم: "لوددت أنها في قلب كل فرد من أمتي؟"، بعدها وجدت لساني وروحي لا يقدران على التركيز وإذا بي أسأل نفسي: "ماذا لو كنت في قبرك ولحدك الحقيقي وأنك لا حول لك ولا قوة.. كتلك اللحظة؟، لكنك الآن رهان جهاز، رغم أنه يشبه القبر.. لكنك تستطيعين الصراخ فتجدي من يخرجك، ومن الممكن أن يكون انتهاء أجلك في تلك اللحظة، ومن الممكن أن تخرجي بعد الانتهاء من الفحص وتمارسي حياتك من جديد.. عمل وحساب لكن في قبرك حساب بلا عمل!!!".

وسألت نفسي: "ماذا فعلت وماذا ادخرت من حسنات؟، ما آخر عمل قمت به قبل دخولك هنا؟، يا رب لك الحمد ففي طريقي إلى هنا يسَّر الله لي فعل خير.. فمن يضمن لك خاتمتك وآخر عمل تقومين به قبل موتك؟!".

آه وأنت في القبر، تخيلت اللحظة.. وجدت نفسي وأشهد الله نسيت كل أعمال الخير، نسيت كل حسناتي ولم أر أمام عيني إلا السيئات والعياذ بالله، وسألتها ألن تمحك الحسنات؟، ألن تصارعك ملائكة الرحمة؟، قالت: "بخ بخ وما أدراك أن حسناتك ستفيض عن سيئاتك؟، لا تغتري فحتى لو تعلمين أو تشعرين أن حسناتك اليوم أثقل فما يدريك بالغد؟، أنسيت أن العبرة بالخاتمة وأن العبد يمسي وبينه وبين الجنة شبر فيعمل العمل فيكون من أهل النار وأن العكس صحيح؟!".

فلا تجعلي الشيطان يزين لك أعمالك وثقي مهما لديك من حسنات - فلن تدخلي الجنة بعملك.. لن تدخليها إلا برحمة الله تعالى.

وها هو الرسول صلى الله عليه وسلم يخاف عذاب الله فمن نكون بجواره؟ فقد روى الإمام أحمد- بإسناده- عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعاً ضاحكاً حتى أرى منه لهواته. إنما كان يبتسم". وقالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى غيماً أو ريحاً عرف ذلك في وجهه". قلت: "يا رسول الله إن الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون المطر، وأراك إذا رأيته عرفت في وجهك الكراهية". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عائشة ما يؤمنني أن يكون عذاباً؟ قد عذب الله قوماً بالريح. وقد رأى العذاب قوم وقالوا هذا عارض ممطرنا".

آه وجدت سنوات عمري تنساب أمام عيني كشريط فكيف بيوم القيامة؟ {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} [النازعات: 46].

{وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49].

يوم القيامة.. يوم الهول الأكبر، سيدور هذا الشريط.. لكن، لن يسقط منه شيء، لن يسقط عام ولا يوم ولا لحظة.. تسجيل دقيق دقيق، مؤكد كشروق وغروب شمسنا كل يوم!!

آه قفي يا نفس.. قفي.. قفي وحاسبي نفسك قبل أن تُحاسبي.. كم منا يقف هذه الوقفة؟... كم منا يقف هذه الوقفة؟

كم منا ينام وقلبه ليس به ضغينة لأحد؟، وكم منا ينام دون أن يسامح إنساناً أساء إليه؟، كم منا ينام وقد أساء لأحبائه؟، كم منا ينام وقد اعتذر عن إساءته؟، كم منا ينام وقد شتم هذا وسرق هذا.. وظلم هذا؟، كم منا نام عن صلاة الفجر، صلاة النور، صلاة المشائين في الظلمات؟، كم منا نام قبل أن يرد الحقوق إلى أهلها؟

كم منا هذه الأيام نام عن حرمان وحصار أهل غزة، والسكوت على الظلم الجائر الواقع عليهم؟، كم منا نام في سعادة وهدوء وأمان وهناك نساء وأطفال جائعون مشردون في الشوارع؟

حقاً "الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا".

{فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} [آل عمران: 25].

لك الحمد يا رب.. وأخيراً جاءت الممرضة وفكَّت رهاني، فمن يفك رهاني في قبري ولحظة الحساب؟

إكرام جلال