شهر التوبة والمغفرة يا باغي الخير أقبل

منذ 2015-07-11

رمضان شهرُ التّوبات وإجابة الدّعوات وإقالة العثَرات، شهرٌ يفرَح به كلُّ مسلم مهما كان حاله، فالمحسِن يزداد إحسانًا وإيمانًا، والمقصِّر يستغفِر ويبتغي فيه من الله تعالى رحمةً ورضوانًا.

بسم الله الرحمن الرحيم..

يشرق علينا رمضان كل عام ببركته وأنواره، وتتسارع نحونا خُطاه، وهو سوق الخير العميم، والفضل الجزيل، شهر التوبة والمغفرة والعتق من النار، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا كان أول ليلة من رمضان صفدت الشياطين ومردة الجان، وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، ونادى مناد: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة» (الترمذي)، إنه شهرُ التّوبات وإجابة الدّعوات وإقالة العثَرات، شهرٌ يفرَح به كلُّ مسلم مهما كان حاله، فالمحسِن يزداد إحسانًا وإيمانًا، والمقصِّر يستغفِر ويبتغي فيه من الله تعالى رحمةً ورضوانًا.

محطات للتائبين: 
- الغفران قرين التوبة، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [الشورى:25].

وعن أبي الطويل شطب الممدود رضي الله عنه أنه أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "أرأيت من عمل الذنوب كلها ولم يترك منها شيئًا، وهو في ذلك لم يترك حاجة ولا داجة إلا أتاها، فهل لذلك من توبة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «فهل أسلمت؟» قال: أما أنا فأشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: «تفعل الخيرات، وتترك السيئات، فيجعلهن الله لك خيرات كلهن»، قال: وغدراتي وفجراتي؟ قال: «نعم»، قال: الله أكبر، فما زال يكبر حتى توارى" (أخرجه البزار والطبراني بإسناد جيد)

- لا توبةَ بغير إصلاح حقيقي، قال عز وجل: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} [البقرة160]، {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} [آل عمران: 89]، {إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [مريم:60]، {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طـه:82].

- ليست النجاة في أن تتوب لأيام، إنما النجاة في أن تتوب على الدوام، وتلك أخص صفات التوبة النصوح، قال تعالى: {إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [الفرقان:70]، بل إن الكيس من جدد توبته ولم يستسلم لنزغات الشيطان أو يسترسل معها، فحاله دومًا بين مدافعة التدنِّي ومتابعة الترقِّي، ومحو سوابِقَ العِصيان بلواحِقِ الإحسان، قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135]، وقال: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرْ اللَّهَ يَجِدْ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 110]، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} [الأعراف:201]. 

{إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ} أي: لَمَّةُ منه، كما في الحديث: «إنَّ للشَّيطَانِ لَمّةٌ وللمَلكِ لَمّةَ»، فإذا أخذتهم تلك السِنة وغفلوا {تذكّروا} عقابَ الله وغضبه، أو ثواب الله وإنعامه، أو مراقبته والحياء منه، أو مننه وإحسانه، أو طرده وإبعاده، أو حجبه وإهماله، أو عدواة الشيطان وإغواءه، كلٌ على قدر مقامه، فلما تذكروا ذلك {فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} بسبب ذلك التذكر، أي: فإذا هم على بصيرة من ربهم التي كانوا عليها قبل المس، أو: فإذا هم مبصرون مواقع الخطأ ومكائد الشيطان فيحترزون منها، ولا يعودون إليها بخلاف المنهمكين في الغفلة (البحر المديد:2/327). 

قال شقيق البلخي: "علامة التوبة: البكاء على ما سلف، والخوف من الوقوع في الذنب، وهجران إخوان السوء، وملازمة الأخيار" (نزهة الفضلاء)

شهر التوبة:
ما أجمل وأطيب أن نلج ساحة رمضان من باب التوبة، فهذا أجدر أن نعيش أجواء رمضان بقلب حاضر، ونفس تواقة لجني بركات هذا الشهر الفضيل، حيث يقول أهل العلم: "والتوبة توجب للتائب آثارًا عجيبة من مقامات العبودية التي لا تحصل بدون التوبة؛ فتوجب له المحبةَ، والرقّةَ، واللطفَ، وشكرَ اللهِ، وحمدَه، والرضا عنه، فَرُتِّب له على ذلك أنواعٌ من النعم لا يهتدي العبد إلى تفاصيلها، بل لا يزال يتقلب في بركتها وآثارها ما لم ينقضها أو يفسدها".

ورمضان من أعظم الفرص لتوبة حقيقية، خاصة وأنه المطهر من أوضار الذنوب التي تثقل كاهل العبد وتقسي قلبه وتحول بينه وبين رضى ربه، قال القرطبي رحمه الله: "إنما سُمِّي رمضان لأنه يرمض الذنوب, أي يحرقها بالأعمال الصالحة"، فذنوب العام كلها تمحى في رمضان لمن صدق مع الله تعالى، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات ما بينهن إذا اجتنب الكبائر» (مسلم).

كما أن الشياطين مصفدة في هذا الشهر الجليل، فكيف لا تسهل التوبة على العبد وقد فقد المحرِّض، وزال الموسوس، وغاب المُزين، ولا شك أن إقبال الناس في رمضان على الطاعة يزداد، والفضل يبذل، والخير ينتشر، والشر ينحسر، وإن لم ينعدم الخبث بالكلية، ولهذا ذكر العلماء العديد من التوضيحات لمسألة تصفيد الشياطين في هذا الشهر، منها:

- أن الشياطين لا تخلص فيه لِما كانت تخلص إليه في غيره، فتضعف قواها، وتقل وسوستها، لكنها لا تنعدم بالكلية.
- يحتمل أن المراد بالتصفيد والسلسلة إنما هي للمردة ورؤوس الشياطين، دونما من دونهم، فيفعل الصغار ما عجز عن بعضه الكبار، وقيل العكس، فالمصفد الصغار، والمطلوق كبيرهم وزعيم مكرهم وكيدهم لأن الله أجاب دعوته بأن ينظره إلى يوم يبعثون، ليواصل الإغواء والإغراء والإضلال، وفي كلا الحالين فالعدد يقل، والوسوسة تضعف.

- قد يكون المراد أن الصيام يستلزم الجوع، وضعف القوى في العروق وهي مجاري الشيطان في الأبدان، فيضعف تحركهم في البدن كأنهم مسلسلون مصفَّدون، لا يستطيعون حراكًا إلا بعسر وصعوبة، فلا يبقى للشيطان على الإنسان سلطان كما في حال الشبع والري.

- ربما أن المراد أن الشياطين إنما تُغل عن الصائمين المعظمين لصيامهم، والقائمين به على وجه الكمال، والمحققين لشروطه ولوازمه وآدابه وأخلاقه، أما من صام بطنه ولم تصم جوارحه ولم يأت بآداب الصيام على وجه التمام، فليس ذلك بأهل لتصفيد الشياطين عنه.

- قد يكون المراد أن الشياطين يصفدون على وجه الحقيقة، ويقيدون بالسلاسل والأغلال، فلا يوسوسون للصائم، ولا يؤثرون عليه، والمعاصي إنما تأتيه من غيرهم كالنفس الأمارة بالسوء والهوى.

إن المعاصيَ توجب القطيعةَ والجفوة بين العبد وربّه، فإذا انقطَعَت عن العبد أسبابُ الخير واتّصلت به أسباب الشرّ، فأيّ عيشٍ لمن قطِعَ عنه الخير والتوفِيقُ من مولاه الذي لا غِنَى له عنه طَرفَةَ عين؟! ولذلك كان عمر بن عبد العزيز يكتب إلى الأمصار, يأمرهم بأن يختموا رمضان بالاستغفار والصدقة، فإن صدقة الفطر طُهرة للصائم من اللغو والرفث، والاستغفار يرقع ما تخرّق من الصيام باللغو والرفث.

وقال لقمان لابنه: "يا بني، عود لسانك الاستغفار، فإن لله ساعات لا يرد فيها سائلًا".
فمن شاء لنفسِه الخيرَ العميم فَليُدلِف إلى بابِ التوبَة في رحاب رمضان خاصة، وفي كل وقت عامة، فبابُها مفتوح وخيرُها ممنوح ما لم تغرغِر الروح، قال تعالى: {فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُنْ خَيْرًا لَهُمْ} [التوبة من الآية:74]، {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور من الآية:31].

قال السفاريني في (غذاء الألباب) قال بعض العلماء: "دعوت الله سبحانه وتعالى ثلاثين سنة أن يرزقني توبة نصوحًا، ثم تعجبت من نفسي وقلت: سبحان الله، حاجة دعوت الله فيها ثلاثين سنة فما قضيت إلى الآن، فرأيت فيما يرى النائم قائلًا يقول لي: أتعجب من ذلك؟ أتدري ماذا تسأل الله تعالى؟ إنّما تسأله سبحانه أن يحبك، أما سمعت قول الله تعالى: {إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة من الآية:222]".

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام

خالد سعد النجار

كاتب وباحث مصري متميز

  • 2
  • 0
  • 13,384

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً