سيكولوجيا الانحراف - (2) هكذا تنحرف الدعوات
اليوم سنتأمل إسقاطات أسلوب الالتزام والتوافق على واقع الحركات المنتسبة للعمل السياسي الإسلامي.
السلام عليكم ورحمة الله.
إخوتي الكرام تكلمنا في الحلقة الماضية (سيكولوجيا الانحراف) عن أسلوب الالتزام والتوافق، والذي استخدمه المحققون الصينيون في استدراج الأسرى الأمريكيين إلى تغيير مبادئهم والتعاون معهم. اليوم سنتأمل إسقاطات أسلوب الالتزام والتوافق على واقع الحركات المنتسبة للعمل السياسي الإسلامي.
رأينا في سيكولوجيا الانحراف أن الأسير كان يُطالب بداية بتصريح يبدو عديم الأهمية عديم التبعات ينتقص فيه من نظام دولته أو يلين قليلاً لنظام الدولة المعادية. بدأ الأسير بعبارات مثل (أمريكا ليست كاملة) أو (لا بطالة في الشيوعية)، و تدرجوا به حتى أصبح في النهاية واشياً عن رفاق سلاحه إن حاولوا الهرب من معتقلهم!
قارن ذلك بتصريحات بدأت بها الحركات الإسلامية السياسية مثل "الديمقراطية مبدأ باطل يتعارض مع الإسلام، لكنها الوسيلة الوحيدة المتاحة للوصول إلى الحكم الإسلامي. فسنتخذها مطية لذلك لا هدفاً"...إذن بدأ الأمر بإنكار الديمقراطية لكن مع اعتبار التعاطي معها ضرورة.
- ثم تطورت الأمور فأصبحنا نسمع اعترافاً بالديمقراطية، فإذا ما روجعوا قالوا: "نحن لا نتكلم عن الشق التشريعي من الديمقراطية، إنما عن آليات الديمقراطية ووسائلها"...إذن أصبحت كلمة "ديمقراطية" عندهم حمالة وجوه يجوز إقرارها بنية الوجه "الصحيح" منها والذي لا يتعارض مع الإسلام.
- ثم تطورت الأمور إلى أن أصبحنا نسمع عبارات مثل "لا بد من الاحتكام إلى الصناديق"، "إرادة الشعب هي الفيصل في المبادئ والأفكار". وهذه التصريحات هي خلاصة الديمقراطية التشريعية.
- ثم وصل الأمر إلى إيجاب التصويت بنعم للدستور الديمقراطي معللاً بعضهم ذلك بالعبارات المقيدة في المضابط الخافية عن عيون الناس، بينما يعترف البعض الآخر بأنه دستور شركي، لكن يرى إقرار هذا الشرك هدفاً مرحلياً لمنع استبداد العلمانيين والفلول!
- هذا فيما يتعلق باللين للنظام غير الإسلامي كما كان الأسير يلين للنظام المعادي شيئاً فشيئاً.
أما فيما يتعلق بانتقاص الأسير من نظام دولته شيئاً فشيئاً فيشبهه في واقعنا التصريحات المتتالية التي فيها غض من قيمة الشريعة أو اجتزاء منها بطريقة أو بأخرى.
- فبداية كانت الشريعة كاملة هي المطلب الأوحد الذي لا نكوص عنه في حال الوصول إلى الحكم.
- ثم إذا ببعض الحركات السياسية "الإسلامية" تشارك في السلطة فتلتزم بالقانون الوضعي، مما أثار عليها المطالبين بتحكيم الشريعة. فوجدت الحركات السياسية نفسها وسط معركة الرد والإفحام مضطرة للدفاع عن نفسها وعما تبنته من ديمقراطية، ومنتقصة لخصومها وما يدعون إليه من تطبيق الشريعة. وهنا الخطورة: الانتصار للنفس وللمنهج المنحرف كان في المحصلة على حساب الشريعة وأدى إلى الانتقاص منها بوجه أو بآخر.
- فمرة يُميَّع مفهوم الشريعة بعبارات مثل: "من قال أن الحركة الفلانية لا تطبق الشريعة؟ بل هي تطبق الشريعة. الشريعة تعني العدل، تعني المساواة، وهذه موجودة في ظل الحكومة الفلانية".
- ومرة يصرَّح بأن الحدود هي أحكام فقهية وليست من مبادئ الشريعة، وأن المطلوب إنما هو العمل بمبادئ الشريعة.
- ومرة يتعذر أصحاب هذه المناهج لأنفسهم بأن الناس لا تريد الشريعة ولا تتحملها، وأن تطبيقها سيفجر البلد! في إيحاء نفسي فاشل خطير سلبي للشعوب التي تسمع وترى هذا الصراع الفكري وما يدور فيه، فتخوَّف من الشريعة مع أنها كانت أكثر حماسة لتطبيقها من "الإسلاميين" أنفسهم.
- ومرة يُسلَّم بوجوب تطبيق الشريعة لكن بشروط: كأن يكون تطبيقاً مشروطاً بموافقة البرلمان، أو تطبيقاً بالتدريج، أو أن تطبق بعد حل مشاكل المجتمع. وقد بينا بالتفصيل في حلقات (نصرةً للشريعة) انتقاص ذلك كله من الشريعة وتهزيله لمفهومها. لكن لاحظ أنه حتى هذه المرحلة كان يُسلَّم بتطبيقها إنما بشروط ومحددات.
- ثم إذا بنا نسمع شعارات: (الحرية قبل الشريعة) و(الاستقرار قبل الشريعة) في سياق يصرح أحياناً بأن هذه القيم مقدمة على الشريعة سواء أفضت إلى تطبيقها أم لم تفضِ.
- إلى أن وصل الأمر -وسط معركة الجدال- إلى أن نسمع من "إسلاميين" لمزًا بالشريعة وأقوالاً لا تختلف في مؤداها عن أقوال العلمانيين، وكأنهم انتهوا حيث بدأ العلمانيون! فسمعنا من مفتي حركة مدافعًا عما فعلته حركته بجماعة منادية بتطبيق الشريعة:
"هؤلاء يتباكون على الشريعة المعطلة في نظرهم ولا يهدأ لهم بال حتى يروا رؤوسًا تتطاير وأيدي تقطع وظهورًا تجلد". وهذا فيه لمز واضح بالحدود الشرعية ونفور وتنفير منها للأسف الشديد.
- وسمعنا في فتنة الدستور -من شخصيات معتبرة- عبارات مثل: "لا مكان حاليًا لإقامة الخلافة"، "اذهبوا وأقيموا دولتكم وطبقوا الشريعة في الصحراء"...عبارات لا تختلف عن عبارات العلمانيين والله المستعان.
- كما وصل الأمر إلى أن يبرر المبررون بأن هذا الحزب "الإسلامي" أو ذاك لم يأت أصلاً لتطبيق شريعة الله!
إذن إخواني بدأ الأمر بتصريحات بسيطة (كلمة هنا وجملة هناك)، قد يعتبرها البعض غير ذات قيمة، لكن قائليها التزموا بها واضطروا للدفاع عنها، ثم إذا بالركب ينحرف بشكل كامل.
- الانتقال من تنازل لآخر كان انسيابياً ولا شعورياً أحيانًا. ساعد في هذا الانتقال ونجاح أسلوب الالتزام والتوافق في حرف الحركات السياسية عوامل منها:
1) أن كل تصريح منحرف خطير كان يلقى جيشاً من المبررين المغلبين للعاطفة الذين يحسَبون حسن الظن نافعًا على كل حال. ولا يعلمون أنهم بوضعه في غير موضعه يساعدون في انجراف الناس إلى الهاوية وإنفاذ مخططات أعداء الأمة بينما هم يشوشون وتطغى أصواتهم على صرخات المصلحين المحذرين.
- فتعذر هؤلاء المبررون بداية بأن هذه تصريحات سياسية يقصد بها مراوغة العدو وكف شره...إذن هو باطل لكن له ما يبرره، لكنهم انتهوا بتبرير الباطل ذاته.
2) عامل الالتزام العلني: فالتنازلات عن الثوابت موثقةٌ توثيقاً مرئياً ومسموعاً ومكتوباً. ولذا حرصت الأنظمة وصاغة الدساتير على إلزام النائب والرئيس بالقسم على احترام الدستور الذي يجعل التشريع لغير الله تعالى. وهذا من أكبر فخاخ الالتزام والتوافق. ومع ذلك تجد من يقول أن هذا القسم مفسدة تغلبها مصلحة الإصلاحات المنشودة. وهذا من السذاجة والضحالة الفكرية والجهل بالأبعاد النفسية لمثل هذا القسم فضلاً عن حرمته شرعاً.
- ثم عند كل تنازل لم يهدأ بال لأعداء الإسلام الصرحاء حتى حشروا هؤلاء المتنازلين في الزاوية وألزموهم بتبعات تصريحاتهم وتطبيقاتها الواقعية فأقروا بها علنا: (هل سترضون بنتائج الصندوق أيا كانت؟)...(نعم أيا كانت)!
- فشكلت هذه التصريحات والمواقف تنازلات جديدة فتحت عليهم جبهة جديدة مع من يحاكم مواقفهم إلى شريعة الله تعالى.
- فوجد المتنازلون أنفسهم وسط مثلث:
- فمن زاوية أعداء الإسلام الصرحاء، الذين يحس المتنازلون تجاههم بعقدة النقص ولا زالت أرواحهم محبوسة في سجونهم وإن أخرجت أجسادَهم الثورات. هؤلاء الأعداء لن يسكتوا إن تراجع المتنازلون عن تصريحاتهم المصادمة للشريعة أو حاولوا تأولها بما يتوافق مع الشريعة.
- ومن زاوية ثانية خصومهم الفكريون الذين ينادون بحق بحرمة التنازلات، لكن لا يحسن بعضهم التوازن بين بيان فساد المنهج من جهة والرحمة بالمخالفين وإرادة الخير بهم من جهة أخرى، مما يجعل العزة بالإثم تأخذ هؤلاء المتنازلين ويطغى عليهم الانتصار للنفس.
- ومن الزاوية الثالثة: عوام الناس، الذين يعلمهم المتنازلون في المساجد أن التذبذب والمراوغة ليست من صفات المؤمنين، العوام الذين يحبون الشجاعة والجرأة. والمتنازلون يحرصون على إرضاء قاعدتهم الشعبية، وإقناعهم بسداد منهجهم وإبطال منهج مخالفيهم. فكان لا بد من أن يظهروا منسجمين مع تصريحاتهم ومواقفهم. لأنه، كما بينا في الحلقة الماضية، يبدو الشخص الذي يتصرف بأشكال متناقضة في عيون الناس متقلباً غير واثق، مشتت الفكر، غير جدير بالثقة. وهذه الخصائص كلها مكروهة من المجتمع ومن الشخص نفسه. فأراد هؤلاء المتنازلون أن يظهروا متوافقين في تصرفاتهم ويتجنبوا كل ما يمكن اعتباره تضارباً في مواقفهم.
- وسط هذه الأقطاب الثلاثة: إرضاء الأعداء والعناد مع الخصوم الفكريين وكسب ثقة الناس المحبين للشخصية المنسجمة، انبرى المتنازلون للدفاع عن مواقفهم وتصريحاتهم المصادمة للشريعة، حاطبين في الليل لأي دليل شرعي أو عقلي يشهد لها، على طريقة: اعتقد ثم استدل، وهي طريقة لا يصيب حاملها الحق أبداً، خاصة إذا فقد التجرد ودفعه التعصب إلى أن ينتصر لنفسه.
- وحتى يقنعوا الناس، كان لا بد من أن يقنعوا أنفسهم أولاً. ففاقد الشيء لا يعطيه. وخدعوا أنفسهم للأسف حتى أقنعوها... حصل تغيُّر حقيقي في النفسيات التي أصبحت تصريحاتها ومواقفها جزءًا من كيانها، خاصة مع وجود الالتزام العلني بالتوثيق المكتوب والصوتي والمرئي، فوجدت نفسها تدافع عن مواقفها كما تدافع عن كيانها.
- وبهذا قاد الالتزام إلى التوافق... التزموا بتبعات تنازلاتهم ثم وافقوا نفسياتهم مع هذه التبعات.
- هذا التوافق، هذا التغيُّر في الذات سهَّل تقديم تنازلات أكبر، وكلما كُسر باب من أبواب الثوابت اجتُرئ على ما بعده. وأتى أصحاب التصريح الأول بثان هو من لوازمه وتبعاته. وانتصب جيش المبررين الجاهز للدفاع عن الجديد أيضاً.
- وفي كل مرة ينقشع غبار المعركة عن تحويل مسألة من القطعيات إلى مسألة من الظنيات الاجتهاديات.
- وهكذا جاء الهدم على الثوابت واحدا تلو الآخر.
- والعجيب أن هؤلاء المتنازلين كثيرًا ما يبررون تنازلاتهم الجديدة بعبارة لا تعني إلا أنهم وقعوا في الفخ! وهي قولهم: "لنكن صريحين...فالذي يقبل بالديمقراطية وشروطها عليه أن يقبل باستحقاقاتها...لا يجوز أن نتحدث عن العدالة والمساواة والحرية ثم نضع الشروط المانعة"!!! أي: الشروط الشرعية المانعة من التطبيقات المنحرفة للديمقراطية.
- يذكرون هذه العبارة الببغائية وكأنها الدليل الناسخ لكل دليل، وما هي إلا تعبير صريح عن أنهم نصبوا لأنفسهم فخاً محكماً ثم وقعوا فيه وأوغلوا بدلاً من الرجوع إلى الحق.
كان هذا ما يتعلق بعاملي التوثيق والالتزام العلني وسنتكلم في المرة القادمة بإذن الله عن عاملي بذل الجهد الإضافي والدافعية الذاتية.
لكن نقول ختاماً إخواني:
لأجل هذا كله ولحكم يعلمها الله حذر عز وجل من الانحراف البسيط وغلَّظ عقوبته. فهو سبحانه يعلم هذه العواقب الوخيمة. ونحن أضعف من أعدائنا الذين يكيدون ويوظفون العلوم النفسية والاجتماعية والسياسية والعسكرية لردنا عن ديننا. أضعف منهم إلا أن نعتصم بحبل الله ونعض على سنة نبيه بالنواجذ التي لا يزيغ عنها زائغ إلا هلك.
انظر إلى قوله تعالى: {وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا ﴿٧٤﴾ إِذًا لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} [الإسراء:74-75] شيئاً قليلاً... يقيناً لن يكون فعلاً كفرياً، فالفعل الكفري ليس شيئًا قليلاً، ومع ذلك لو حصل منه عليه الصلاة والسلام هذا الشيء القليل لكانت عقوبته مضاعفة العذاب في الحياة وبعد الممات!
انظر إلى قوله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم:9] وإلى قوله تعالى: {وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّـهُ إِلَيْكَ} [المائدة:49] وقوله تعالى: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّـهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ} [هود:113]، ولا والله ما انتصر المتنازلون في الدنيا ثم لن تنصرهم تنازلاتهم من عذاب الله في الآخرة.
{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا . إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى ۙ الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَىٰ لَهُمْ . ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّـهُ} -أعداء الشريعة- {سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ} [محمد:24-26].
فكيف بمن أطاعهم في الديمقراطية كمنهج حياة؟!
فمن تعامى عن هذه النداءات الإلهية كلها ففقد الحصانة وضره كيد أعدائه فلا يلومن إلا نفسه...
نسأل الله أن يهدي الضالين ويصلح أحوال المسلمين
والسلام عليكم ورحمة الله.
- التصنيف:
- المصدر: