مَن ربُّ هذه المواطَنة؟!

منذ 2015-09-30

لقد أكثرتم من ذكر كلمة المواطنة، وأدخلتموها في كل شيء، وألزمتم بها كل أحد... فكلَّ جميلٍ فيها  موجود في الإسلام، وبأحسن مِن هذا، وإن اتسع وقتكم أعطيتكم دليلًا من القرآن أو السنة أن هذا موجودٌ في الإسلام، ففيه حقوق الإنسان، بل فيه حقوق الحيوان

تلقيت دعوة - كضيف لا كمشارك- لحضور فعاليات المؤتمر الدولي الأول لقضايا الشباب المعاصر وتنمية روح المواطنة في المجتمع.. والذي أقيم في الجامعة في يومي 12- 13 مارس 2014م.

وفي اليوم الأول بعد أن خاض المتدخلون في تعريف المواطنة وخلطها أحيانا بالوطنية وحُبّ أو (حَبّ) الوطن. وقد أدخلوا المواطنة في كل الشيء، حتى كأنها لم تغادر من حركات الناس وسكناتهم شيئا! أو كأنها الهواء الذي يتنفسونه أو الدماء التي تجري في عروقهم!! حتى كادوا أن يجعلوا لها واجبات ومسنونات، ومبطلات ومكروهات!

وعرضوا مشاكل الشباب ومعاناتهم، واقترحوا حلولا، وكلَّفوا الشباب بأفعال وأعمال!!

فكانت كلمتي في المناقشة أن قلت لهم- بعد الشكر للمشاركين والحضور، وبعد الثناء على الجميل من كلامهم- فقلتُ: وبعدُ فإن دراستي وموضوع رسالتي  للماجستير كانت عن المواطنة...(حتى يعرفوا أني أعرفها)..

ثم قلت لهم: لقد أكثرتم من ذكر كلمة المواطنة، وأدخلتموها في كل شيء، وألزمتم بها كل أحد.. فلو سألكم سائل سؤالا مباشرًا، فبم تجيبون؟

لو قال لكم قائل: مَن ربّ هذه المواطنة؟ ومن نبيُّها؟ فبم تجيبون؟

فلم يرُد علَيَّ أحد!

لكن اهتزت رؤوس بعضٍ، وقطّبَتْ جباهُ آخرين، وعضَّ على شفتيه مشفقون عليَّ!...

ثم قلت: على العموم الذي ذكرتموه عن المواطنة في مجمله جميل، على بعض الاعتراضات!

لكنَّ كلَّ جميلٍ فيها  موجود في الإسلام، وبأحسن مِن هذا، وإن اتسع وقتكم أعطيتكم دليلًا من القرآن أو السنة أن هذا موجودٌ في الإسلام، ففيه حقوق الإنسان، بل فيه حقوق الحيوان، فقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أنه: «عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ سَجَنَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ، لَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَسَقَتْهَا، إِذْ حَبَسَتْهَا، وَلَا هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ»(متفق عليه)،  وأن امرأة بغيًّا- زانية- دخلت الجنة في كلب سقته من عطش، كما في الحديث: «أَنَّ امْرَأَةً بَغِيًّا رَأَتْ كَلْبًا فِي يَوْمٍ حَارٍّ يُطِيفُ بِبِئْرٍ، قَدْ أَدْلَعَ لِسَانَهُ مِنَ الْعَطَشِ، فَنَزَعَتْ لَهُ بِمُوقِهَا فَغُفِرَ لَهَا»(مسلم في صحيحه، برقم:[2245])، وقال صلى الله عليه وسلم:«في كل كبد رطبة أجر»(متفق عليه)، هذا فضلًا عن حقوق الإنسان...

فإذا كان ذلك كذلك؛ فَلِمَ تبشرون أهلَ الإسلام بالموطنة ولا تبشرون أهل المواطنة بالإسلام؟!

لماذا لا تَدْعُونهم إلى الإسلام، ليطَبِّقوا نُظُمَه، ويتخلَّقوا بأخلاقه، حتى ولو لم يدخلوه، ولم يعتقدوا عقيدته، كما أنتم تبشرون بالمواطنة، وتريدون اعتناقها، مع قولكم: نحن لا نعتقدها عقيدة؟!

وكما يُطبِّق بعضهم تَرْكَ الربا وجَعْلَ الفوائد البنكية صفرًا، من غير تديُّنٍ بها ولا اعتقادٍ لها، وكما تطبق فرنسا بعضًا من قانون الأسرة الإسلامي بلا تديُّن، بل وكما في محاكمهم الوضعية أحكامًا قانونية اقتبسوها، بل سرقوها من محاكم المسلمين ومن اجتهادات قُضاتهم أثناء فترات الاستدمار والاحتلال الصليبي؟!

(.. لكن المؤتمرين  لم يتحمَّلوا.. فاختصروا لي الوقت.. وصلَت الفكرةُ وصلَت.. شكرًا شكرًا).

وفي فترة الراحة  من الغد جائني أحدهم: يمشي على استحياء، فاستأذنني في الكلام، أريد أن أكلمك، إذا تتقبل مني! فقلت له: ما جئنا هنا إلا من أجل أن نتقبل ما يمكن تَقَبُّله ونناقشه فيما نخالفه.. تفضل.

قال: لقد أخطأت في كلمتك بالأمس.

قلتُ: أين ذلك؟

قال: صحيح ما كنتَ تقول؛ ولكنك أبَنْتَ عن نفسك، وأظهرت نفسك على أنك إسلامي، وكنتُ أتمنى أن تترفق وتوافقهم في بعض الأمور حتى تبلغ رسالتك، فأنت صاحب رسالة، كما يبدو عليك!

ثم قال: لقد صدمتهم؛ حين قلت لهم: مَنْ ربّ هذه المواطنة ومَن نبيها؟ أنا انخلعت لمَّا قُلْتَها!! أرأيتهم كيف كانوا يفعلون؟!...

قلت له: نعم رأيت، وأنا جئتُ لأصدمهم.. لأنَّ هؤلاء الدكاترة مساكين مغرَّر بهم، فقد قالوا كذا وكذا، أليس ذلك كائنًا في الإسلام؟  قال: بلى!

قلت:  وقالوا كذا وكذا: أليس ذلك كائنًا في الإسلام؟! قال : بلى!

أليس كل واحد منهم يبدأ كلامَه - رجالا ونساء- بالبسملة والصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم مما يعني أنهم مسلمون؟!

قال: بلى؛ صحيح.

قلت: أليسوا يدعون إلى المساواة كما تقتضيه المواطنة؟ قال: بلى.

فقلت: ففي الإسلام العدالة هي الأصل، وليست المساواة، فإذا اقتضت العدالةُ المساواةَ، فَنَعَمْ ونِعمَ وقُرَّة عين، وإن رفضتها تركنا المساواة إلى العدالة...

فقال: يعني... المساواة...

فقلت: مثلا: المساواة يتقاضى رجل البرلمان ورئيس الحكومة راتبًا مثل الذي يتقاضاه الأستاذ الجامعي والذي يتقاضاه رجال نظافة الشوارع وحامل القمام.. أما العدالة فأن يتقاضى كلٌّ حسب عمله، فتختلف الرواتب!

قال: نعم، هذا صحيح.

قلت: ماذا تختار في مسألة الرواتب هذه، وأنت أستاذ جامعي؛ العدالة أو المساواة؟

قال: بل العدالة.. فكيف يتساوى... قلت: أكْمِلْها...الزبَّال والأستاذ الجامعي؟!

نعم!

قلت: فكيف يستوي الأعمى والبصير، والأمين والخائن في رئاسة الدول وحفظ الأمانات، وكيف يتساوى العالم والجاهل في تسيير أمور الأمة والكون في برلمانات الدول.. وكيف تسري المساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات والمسؤوليات وهما مختلفان، وكلّ منهما ميسَّرٌ لما خُلِق له، وكل منهما أحق وأفضل من الآخر فيما خلقه الله له وبما خلقه الله فيه؟!
نعم، نعم!

فقلتُ: أليس هؤلاء الدكاترة مغرر بهم؟!

قال: نعم، ولكن كيف نعمل؟ ووو... أنا معك، ولكن...

نعم، أنت معي، ولكنك لستَ معي!

الشيء نفسه إذا قيل هو من الإسلام، نفروا منه واشمأزَّت قلوبهم وأعرضوا عنه وكتموا أنفاس دعاته... وهو هو إذا قيل مواطنة هللوا واستبشروا وآمنوا...

أخشى أن يكون في بعض دكاترة المسلمين شَبَهٌ بمن قال الله تعالى فيهم: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}[الزمر:45]، وقال: {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ}[غافر:12].

إنها الهزيمة النفسية الداخلية، مخلوطة بجهل مُركَّب مِن (مُثَقَّفي) المسلمين، مغلوبة بغزوٍ فكريٍّ غربيٍّ...

وعلى ذلك فأنا جئت داعية إلى الإسلام، وليس إلى المواطنة... وهاتوا لي أجمل ما تجدون في المواطنة أدلكم على سَبق الإسلام إليه بقرون مُقرَّنة، وبأهدى سبيلا وأقومِ قيلًا!

نتواصل فيما بعد يا دكتور.. على خير إن شاء الله..

ودكتور آخر، لو لا الجو العام لقلت إنه على مسرح التمثيل، يناقشني على هامش الاستراحة يقول: كيف تقول...؟!

فقلتُ (وقد فهمتُ نَزْعَتَهُ!): إذا كانَ همُّكم فِعلا أن يجتمع الشباب والمجتمع على هذه المعاني الجميلة التي تذكرونها وتدندنون حولها، وتُصرِّون على ترغيب الناس فيها بأنها مما تفتقت عليه قرائح البشر وانتهت إليه تجارب الأمم، وربما يقتنع بكم بعضُ المجتمع فيعتنقها ويتخلَّق بها... فَدَعُونا نحن نُرغِّب البعض الآخر في ذات المعاني باسم الإسلام الذي جاء بها أول مرة، فيعتقدها ويعتنقها ويتخلَّق بأخلاقها ويتقرب بها إلى الله.. فنكونُ قد جمعنا المجتمع في نوعٍ من التعايش والاتفاق الواقعي السلوكي، وإن اختلفت النوايا والمنازع.. ولو كنا: تَحْسِبُنا جميعًا وقلوبنا شتى!!  ولعله خير لنا جميعا من صراع لا جدوى وراءه، ونهاية كل وجهة هي التي تحكم على بدايته..

فقال: نعم هي وجهة نظر.. شكرًا دكتور..

نشر: 30/ 09/ 2015

أبو محمد بن عبد الله

باحث وكاتب شرعي ماجستير في الدراسات الإسلامية من كلية الإمام الأوزاعي/ بيروت يحضر الدكتوراه بها كذلك. أستاذ مدرس، ويتابع قضايا الأمة، ويعمل على تنوير المسيرة وتصحيح المفاهيم، على منهج وسطي غير متطرف ولا متميع.

  • 0
  • 0
  • 1,221

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً