تحقيق المراد في حكاية ابن تيمية الاتفاق على تفضيل الإفراد
فقد أشكل عليَّ، وعلى كثير من طلاب العلم كلام الإمام ابن تيميَّة في المفاضلة بين المناسك، خاصة حكايته الاتفاق على تفضيل الإفراد في بعض الصور، حتى إني رأيت رسالة دكتوراة ذكرت هذه المسألة عن ابن تيميَّة، ولم يحسن صاحبها في تحرير كلام ابن تيميَّة رحمه الله.
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فقد أشكل عليَّ، وعلى كثير من طلاب العلم كلام الإمام ابن تيميَّة في المفاضلة بين المناسك، خاصة حكايته الاتفاق على تفضيل الإفراد في بعض الصور، حتى إني رأيت رسالة دكتوراة ذكرت هذه المسألة عن ابن تيميَّة، ولم يحسن صاحبها في تحرير كلام ابن تيميَّة رحمه الله.
وبعد تتبع كلام هذا الإمام في المواضع التي أشار فيها إلى المفاضلة بين المناسك؛ يتبين مراده، ويتبين أن حكايته الاتفاق على تفضيل الإفراد؛ إنما هو تفضيل نسبي، كما سيأتي.
يقسِّم الإمام ابن تيميَّة مريد الحج إلى قسمين:
القسم الأول: من سافر إلى الحج فقط، ولم يسافر إلى العمرة في ذلك العام.
القسم الثاني: من سافر في ذلك العام سفرتين.
فأما القسم الأول فله صورتان:
1- من يسافر سفرة واحدة إلى الحج، مفردًا، أو متمتعًا، أو قارنًا؛ فإن ساق الهدي فالقِرَان له أفضل، وإن لم يسق الهدي فالتمتع له أفضل، ومَنْ ساق الهدي وقَرَنَ أفضل ممن لم يسقه وتمتَّع، وكلاهما أفضل من المفرد في هذه الصورة.
2- من يسافر إلى العمرة قبل أشهر الحج، ويقيم في مكة إلى الحج؛ فيحج في ذلك العام، فحكمه حكم الصورة الأولى.
وأما القسم الثاني:
فأن يسافر المسلم إلى العمرة، ثم يعود فيسافر سفرًا آخر إلى الحج في ذلك العام، فيفرد العمرة بسفرة، والحج بسفرة أخرى؛ فهذا أفضل ممن لم يسافر في عامه إلا سفرة واحدة إلى الحج؛ سواء أتمتَّع فيه أم قرن، فهذه الصورة هي التي حكى الاتفاق على تفضيل الإفراد فيها، أي: أن المفرد في هذه الصورة؛ أفضل من المفرد والمتمتع والقارن بسفرة واحدة.
فالحاصل من كلامه أن للمسلم ثلاث مراتب:
1- أن يسافر سفرتين، سفرة للعمرة، وسفرة للحج، فالأفضل في هذه الحال أن يسوق الهدي ويقرن، فإن لم يسق الهدي فالأفضل التمتع، ثم الإفراد.
2- أن يسافر سفرة واحدة في عامه، فالأفضل أيضًا أن يسوق الهدي ويقرن، فإن لم يسق الهدي فالأفضل التمتع، ثم الإفراد.
3- فإن سافر شخص سفرتين؛ اعتمر في الأولى، وحج مفردًا في الثانية، فهو أفضل من شخص سافر سفرة واحدة في عامه فحج قارنًا أو متمتعًا.
وفيما يلي نقل نصوص من كلامه تكشف عن صحة هذا التقسيم:
يقول رحمه الله: "فمن ساق الهدي فالقِران أفضل له من التمتع، ومن لم يسق الهدي فالتمتع أفضل له، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه" (الفتاوى[26/79]).
ويقول: "فالتحقيق في هذه المسألة: أنه إذا أفرد الحج بسفرة والعمرة بسفرة فهو أفضل من القران والتمتع الخاص بسفرة واحدة، وقد نص على ذلك أحمد وأبو حنيفة مع مالك والشافعي وغيرهم، وهذا هو الإفراد الذي فعله أبو بكر وعمر، وكان عمر يختاره للناس، وكذلك علي رضي الله عنه" (الفتاوى[26/85]).
وقال أيضًا: "وإذا رجع الحاج إلى دويرة أهله فأنشأ منها العمرة، أو اعتمر قبل أشهر الحج وأقام حتى يحج، أو اعتمر في أشهره ورجع إلى أهله ثم حج؛ فهنا قد أتى بكل واحد من النسكين من دويرة أهله، وهذا أتى بهما على الكمال، فهو أفضل من غيره" (الفتاوى[26/86]).
وقال: "ومن سافر سفرة واحدة واعتمر فيها، ثم أراد أن يسافر أخرى للحج فتمتُّعه أيضًا أفضل له من الحج، فإن كثيرًا من الصحابة الذين حجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم كانوا قد اعتمروا قبل ذلك، ومع هذا أمرهم بالتمتع، لم يأمرهم بالإفراد ولأن هذا يجمع بين عمرتين وحجة وهدي، وهذا أفضل من عمرة وحجة، وكذلك لو تمتع، ثم سافر من دويرة أهله للمتعة فهذا أفضل من سفرة بعمرة وسفرة بحجة مفردة، وهذا المفرد أفضل من سفرة واحدة يتمتع فيها، وأما إذا أراد أن يجمع بين النسكين بسفرة واحدة ويسوق الهدي فالقِران أفضل، اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قرن وساق الهدي" (الفتاوى[26/88، 89]).
وقال: "وحينئذٍ فسَوقه من الميقات أفضل من سَوقه من أدنى الحل؛ فكيف يُجعل الهدي الذي لم يُسق أفضل مما سِيق! فهذا وغيره مما يبين أن سوق الهدي مع التمتع والقران أفضل من تمتُّع لا سَوق فيه" (الفتاوى[26/92]).
وقال: "فصلٌ في الأفضل من ذلك: فالتحقيق في ذلك أنه يتنوع باختلاف حال الحاج:
فإن كان يسافر سفرة للعمرة، وللحج سفرة أخرى، أو يسافر إلى مكة قبل أشهر الحج ويعتمر ويقيم بها حتى يحج؛ فهذا الإفراد له أفضل باتفاق الأئمة الأربعة" (الفتاوى[26/101]).
ثم قال: "وأما إذا فعل ما يفعله غالب الناس وهو أن يجمع بين العمرة والحج في سفرة واحدة، ويَقْدَم مكة في أشهر الحج: وهنَّ شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة؛ فهذا إن ساق الهدي فالقِران أفضل له، وإن لم يسق الهدي فالتحلل من إحرامه بعمرة أفضل" (الفتاوى[26/101]).
وقال في موضع آخر: "ومتعة الحج؛ قد روي عن عمر أنه نهى عنها، وكان ابنه عبد الله ابن عمر وغيره يقولون: لم يحرِّمها؛ وإنما قصد أن يأمر الناس بالأفضل، وهو أن يعتمر أحدهم من دويرة أهله في غير أشهر الحج؛ فإن هذه العمرة أفضل من عمرة المتمتِّع والقارن باتفاق الأئمة، حتى إن مذهب أبي حنيفة وأحمد منصوص عنه: أنه إذا اعتمر في غير أشهر الحج وأفرد الحج في أشهره: فهذا أفضل من مجرد التمتع والقران؛ مع قولهما بأنه أفضل من الإفراد المجرد" (الفتاوى[33/95]).
وبهذا ينكشف الإشكال في حكاية الإمام ابن تيمية الاتفاق على تفضيل الإفراد، ويتبين أن التفضيل في كلامه نسبيٌّ لا مطلق، ولذا ينبغي على طالب العلم إذا أشكل عليه كلام إمام من الأئمة؛ ألا يتعجل بتخطئته، أو الحكم بوهمه، بل يمعن النظر فيما قال، ويجتهد في جمع كلامه في كافة المواضع، وغالبًا ينجلي الأمر، ويزول الإشكال.
عبدالله بن جابر الحمادي.
- التصنيف:
- المصدر: