يقتل طفلته..؟!

منذ 2009-05-07

من حقك أن تؤدب ولدك، وتقوّمه حتى يستقيم على الخير، ولكن بالنصح والكلمة الطيبة، والدعاء له، وإعانته على ذلك كله، وبذل الوسائل المعينة على سلوك طريق الصالحين....


إنك حينما تسمع بخبر جناية قتل واعتداء على طفل أو طفلة يقفز عقلك بحثاً عن معرفة المجرم الأثيم الذي امتدت يده الباغية على البراءة ونحرها، وحينما تعرف أن القاتل يهودي أو نصراني أو ملحد فإنك سوف تسترجع تاريخًا ملطّخًا بالدماء ومشوّهًا بالجماجم التي ووريت مقابر جماعية بأيد ظالمة عاتية، وربما لا تستغرب كثيرًا؛ لأن الكارثة وقعت تحت تسلّط من لم يركع لله ركعة ولم يسجد لله سجدة، حتى نُزعت الرحمة من قلبه، وتشققت روحه نضوبًا وجفافًا؛ فهو كالصخور الصلبة، وإن من الحجارة لما يتفجّر منه الأنهار!!
لكنك سوف تبقى مشدوهًا أو واجمًا تتجاذبك الحيرة، وتتنازعك المصيبة، حتى لا تعرف كيف تحكم، ولا ماذا تقول، حينما تعلم أن هذه الطفلة البريئة قتلت ضربًا وركلاً وتعذيبًا على يد من!! على يد والدها.
ليس ذلك من ضرب الخيال، وإنما القصة نُشرت الأسبوع الماضي في صحفنا المحلية، وقبض المسؤولون عليه، ليأخذ جزاءه.

فالموقف رهيب.. ورهيب حقًا.. "بأي ذنب قتلها"؟ وماذا عسى أن تجني هذه الطفلة الصغيرة؟ وبأي شيء كانت تصرخ لتكفّ يد أبيها عنها؟
توقف يا أبي.. توقف أرجوك.. سأطيعك في المرة القادمة؟ سامحني.. أنا ابنتك من لحمك ودمك؟ آه يا والدي..!! بدني الصغير لا يحتمل ضربك الشديد، أشعر بأن لحمي يفرم، وعظامي تتكسر، وروحي تزهق..بأي شيء أناديك حتى تتوقف عن ضربي..؟!! وشيئًا فشيئًا يخفت الصوت البريء.. سوى أنّات حزينة مقهورة.. وما هي إلاّ دقائق.. لتغادر الطفلة الحياة على يد من كان سببًا في حياتها..
تغادر الدنيا ولم تذق حلاوتها بعد.. تفارقها وآخر صورة عالقة في ذهنها ومنطبعة على عينيها.. صورة أبيها وهو يقتلها..
هذا موقف كانت نتيجته الموت، ويعني أن هناك عنفًا أسريًا ليس من شرط أن يصل إلى الموت حيث الراحة من العذاب والتنكيل على أيدي من يجب أن يكون الأرحم بعد الله تعالى على خلقه، ولكن ربما وصل الأمر بالعنف الأسري إلى ألوان من العقاب لا يتحملها البشر، ولا تناسب حتى الحيوانات أعزّكم الله.
الشتم واللعن والتقبيح، والضرب الشديد على الوجه والمقاتل، أو المفاجأة بضرب الوجه والبصاق عليه، واستخدام الآلات الحديدية أو الأخشاب الثقيلة، والحبس في مكان مظلم، والكيّ بالنار، وتشويه الجسم، وتكسير الأيدي، والإجبار على النوم مع البهائم في شدة البرد أو الحر، والتهديد بالطرد، وتقييد الأقدام والأيدي بالسلاسل، وربما تعليق البدن على الجدران، والمنع من الطعام والشراب.
لست أحكي يا إخوتي ما يجري في سجن غوانتانامو أو سجن أبو غريب، ولكنه ما يجري في عدد من بيوت المسلمين، مرة من الأب ضد زوجته وأولاده، ومرة من الأم ضدهم أيضًا، وقل ربما من أي فرد تجاه أحد من أهله وذويه.

أكره النظرة السوداوية للمجتمع، ولا أحب أن أشيعها، ولا ينبغي تعميمها، ولكنه داء شنيع سرى في عدد من البيوت، ومرض فتّاك يهدد بتفكك خطير ينبئ بعواقب وخيمة إلاّ أن نتيقظ له، أو يرحمنا الله برحمته، وإن كانت التهمة موجهة لكل أفراد الأسرة في نشر هذا الوباء كما تحكي القصص والأخبار، إلاّ أن المتهم الأول في العنف الأسري وللأسف الشديد هو الأب، رب الأسرة وقوامها!!
وإني لأتحير: عمّ يمكن أن تتحدث لتكف الأب عن تسلطه وظلمه لأولاده؟ هل شيء أعظم من كونه أبًا؟!
هل يمكن أن يكون قد افتقد قلبه الذي بين أضلاعه!! لا.. لا يمكن طبعًا!! لأنه لو فقده لمات؛ إذ كيف يعيش من دون قلب!!
هل يمكن أن يكون هذا الأب الظالم في عدوانه على ولده أو تلك الأم الظالمة لولدها ابنًا كان أو بنتًا قد فطرا على غير الرحمة!! لا يمكن أيضًا، فهذا قد فطر عليه حتى البهائم والطيور!!
هل نتذكر قول النبي: «جَعَلَ اللَّهُ الرَّحْمَةَ مِائَةَ جُزْءٍ فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ جُزْءًا وَأَنْزَلَ فِي الْأَرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ يَتَرَاحَمُ الْخَلْقُ حَتَّى تَرْفَعَ الْفَرَسُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ» رواه البخاري.
هل نتذكر: حديث عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ فِي سَفَرٍ فَانْطَلَقَ لِحَاجَتِهِ فَرَأَيْنَا حُمرَةً مَعَهَا فَرْخَانِ فَأَخَذْنَا فَرْخَيْهَا فَجَاءَتِ الْحُمرةُ فَجَعَلَتْ تَفْرِشُ فَجَاءَ النَّبِيُّ فَقَالَ: مَنْ فَجَعَ هَذِهِ بِوَلَدِهَا؟ رُدُّوا وَلَدَهَا إِلَيْهَا. وَرَأَى قَرْيَةَ نَمْلٍ قَدْ حَرَّقْنَاهَا فَقَالَ: مَنْ حَرَّقَ هَذِهِ؟ قُلْنَا: نَحْنُ قَالَ: إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَذِّبَ بِالنَّارِ إِلَّا رَبُّ النَّارِ» رواه أبو داود.

هل أصدق أن بين الوالد وولده حقدًا أو ضغنًا أو كراهية!!
لا يمكن أن يكون ذلك.. فلو كان كذلك ما وقفت تلك الأم المسكينة على باب السجن تنادي بإخراج ولدها منه، وقد دخله بسبب أنه شوهها حرقًا بالنار، يحرقها.. وتبكي عليه!!
أجد نفسي محتارًا حقًا أمام نفسية هؤلاء الآباء والأمهات القساة الذين تجردوا من معاني الأبوة والأمومة حتى غدا الغريب بأولادهم أرحم وبفلذات كبدهم أحلم!!
ليس هناك دخان من غير نار، ولا مسبب من غير سبب؛ إذ يرجع هذا التصحّر في الأفئدة تجاه الرعية إلى أسباب عدة، من خلالها نشأ العنف الأسري، الوباء المخفيّ، الذي تمنع العادات والتقاليد عن التحدث به، حتى تتكلم الفواجع به علنًا على شكل جرائم، تشوّه وجه مجتمعنا المشرق، ولكن بعدما لا ينفع الندم، ولا تجدي الشكوى.
ولعل أبرز هذه الأسباب في سريان هذا المرض الاجتماعي: هو الخلط بين معنى التأديب الشرعي، والعنف الشيطاني، وإنك حينما تتدخل أحيانًا في صد هذا العنف عن أحد من المظلومين به: يصيح بك المعنف قائلاً: اتركني أؤدبه!!
فيا للجهل الكبير، فإن التربية لا تعني أبدًا تجمير الأعين، ولا امتهان الإنسان حتى يغدو أقل شأنًا من الحيوان، بل التربية: حب وتقويم، وتوجيه واحترام، وحوار ومتابعة.
أخطأ حقًا حينما قال: هذا لا ينفع معه إلاّ مثل هذا، وهو يقوم بجلده، أو حرقه، أو تكسير عظامه.

من حقك أن تؤدب ولدك، وتقوّمه حتى يستقيم على الخير، ولكن بالنصح والكلمة الطيبة، والدعاء له، وإعانته على ذلك كله، وبذل الوسائل المعينة على سلوك طريق الصالحين، بل لا مانع من ضربه الضرب غير المبرح، الذي لا يهينه ولا يبقي في بدنه أثرًا من لون أو أذى، متجنبًا الوجه والمقاتل، وفي حدود ضيقة جدًا، حين تعجز عن البديل، وعلى أمرٍ يستحق أن يؤدب عليه بالضرب مثل ترك الصلاة للبالغين.

ويأبى بعض القساة إلاّ أن يسترجع بعض ما كان يصنعه له أبوه في عهد غابر من ألوان التنكيل ليعيد صورتها مع ولده مرددًا: هكذا أصبحنا رجالاً!!

فالخلفية الاجتماعية للبيئة السابقة نرحب بها حينما تكون سائرة على منهج النبي رسول الرحمة والأناة والرفق، الذي توفي عليه الصلاة والسلام، وما امتدت يده لتضرب امرأة ولا طفلاً ولا خادمًا.
أما إذا كانت التقليد الاجتماعي ينابذ الشريعة فتبًا له، وليس من حقه أن يفرض الظلم على الجيل، أو يحوله إلى جمادات تتلقى تبعات الجهل أو ترضى به منهجًا وطريقًا.

أيها الأحبة:
وتأتي المخدرات لتحتل مكانها في سلم أسباب العنف الأسري، فكم هم الأطفال الذين يذهبون ضحايا للمدمنين والمدمنات من الآباء والأمهات، حتى يعرضوهم لارتكاب الفواحش بغية الحصول على المسكرات، أو يربوهم على الترويج، ولربما أعاروهم واستخدموهم في دور الخنا والعار، ولربما باعوهم واشتروا بأثمانهم السموم والبلاء.
وضمّ إلى ذلك ما يجده بعض أفراد الأسرة من شحنات الغضب المتتابعة من رب الأسرة على أولاده الصغار أو الشباب حينما تضيق به ديونه أو تحل به خسارة أو يقل دخله المادي، ليلقي باللائمة على هؤلاء الضعفة الذين لا حول لهم ولا طول، وإنما جعلهم الله تعالى في ذمته، واسترعاه عليهم، ولو أنه أحسن التوكل على الله تعالى، وطلب الرزق الحلال، ورفق بهم، لرزقه الله تعالى برزقهم، وبارك له في مطعمه ومشربه، حتى يكونوا هم سببًا في زيادة غناه بل ثرائه ووفرة ماله، ألم يقل الله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} [الاسراء: 31]
أيها الأب الحاني:
أرجوك ألاّ تصغي إلى بعض رفقائك الذين يغرونك بممارسة العنف ضد زوجتك المسكينة الضعيفة، أو أولادك الذين يتشوقون إلى حنانك وعطفك، انتبه -يا رعاك الله- أن تنصاع إلى جهلهم ولو منوك بشخصية قوية بين أسرتك، فإن هذا هراء وسراب، تيقّظْ لما تسمعه من بعض أصدقائك القساة، فإنهم يحرمونك من لذة العطف على أحبابك، الذين يتمنون ابتسامتك في وجوههم، ويبحثون عن الرفق في لسانك ويدك، ويحلمون بكلمات الحب تنساب من شفتيك بدلاً من كلمات التقريع والشتائم، ويتخيلون أنك ضممتهم إلى صدرك، وقبّلت جبينهم، وحملتهم على كتفيك، وسامرتهم، ولعبت معهم، وتبادلت معهم الأحاديث الجميلة والطرفة الخفيفة، وخرجت معهم إلى النزهة، واقتسمت مع أمهم ألوان الرحمة ونظرات الحب..
أيا أحبتاه: لماذا يقتل العنف الأسري هذه الأحلام الجميلة؟ لماذا لا نراجع أنفسنا نحن الرجال، فنعود من هنا محمّلين بالحب ورحابة الصدر، مع العناية والرعاية والمتابعة؟!!

يقول النبي: "لا تُنزع الرحمة إلاّ من شقيّ". رواه أحمد والترمذي وإسناده حسن.

ماذا سيترك العنف الأسري من جرح بليغ على نفس من مورس في حقه هذا العنف، إنها العقد النفسية المتتابعة التي توجد لنا شخصية جانحة تحمل انتقامًا، تحمل نظرة قاتمة، تحمل تاريخًا مظلمًا من الإساءة لطفولتها، تحمل ثقلاً على ذاكرتها، لا يبرح يحجزها عن السكينة والراحة والطمأنينة.

وماذا بعد:
فإنك ترى هذا المقهور إن لم يأخذ الله بناصيته نحو الصواب والعلم يعيد نفس النهج على أسرته الجديدة ليمارس نفس العنف معهم، وهكذا يمتد الوباء ويسري خطره من دون توقف.

أما أثر العنف على القساة من الآباء و الأمهات فيعود عليهم كما بدأ منهم، فبأي شيء يتوقعون من أبنائهم إذا كبروا أن يعاملوا به وقد طغوا عليهم في صغرهم سوى ما ربوهم عليه؟! من أين سيأتونهم بالعطف وهم لم يتعرفوا عليه، ولم يأخذوه منهم وهم منبعه الأصيل؟! وهنا تعيش الأسرة في دوّامة العنف، الذي أورثها الظلم والتفكك.
والأسرة نواة المجتمع، فإذا فقدت الرحمة في أرجائها، فقلْ على المجتمع السلام.

فلا تستغرب بعد العنف أن ترى الشباب المكبوت يتسكع في الشوارع أو يلجأ إلى الاستراحات والدور المشبوهة، أو تراه بين المعاكسات، أو محملقًا على شاشات الإنترنت والفضاء، إنه يبحث عما افتقده في بيته، وإن حاله كالمستجير من الرمضاء بالنار.

العنف وكيل معتمد للجريمة، ومسوّق محترف للانحراف، وسفير مخلص لأعداء الإسلام.
أما الحل: فهو تعلم التربية الصحيحة عبر القراءة النافعة، وحضور أو استماع المحاضرات والدروس والبرامج التدريبية التي تقدمها مراكز التنمية الأسرية وكل مؤسسة تربوية معنية.
والجرأة في إخبار الجهات المسؤولة في الدولة عن أي عنف يمارس ضد أي ضحية، ليأخذ الحق مجراه، ويُرفع الظلم عن المظلوم.

والتواصل الحقيقي بين المعلم والتلميذ الذي تبدو عليه آثار جريمة التسلط لسرعة اتخاذ الحلول لرفع العنف عنه، ولو بقوة الحاكم إذا بلغت المسألة مبلغها.
فإن البكاء على الروح بعد الفراق لا يجدي، وإن التحسّر على ما فات لا ينفع؛ فلنتعاون على نشر أجنحة الرحمة على رعايانا، ولنحارب العنف، ونوقف مده ودمه، فإن الله تعالى أرسل رسوله بالرحمة فقال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]


د. فيصل بن سعود الحليبي

http://www.saaid.net/Doat/faisal/29.htm




المصدر: صيد الفوائد
  • 3
  • 0
  • 11,175

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً