مبررات إسبانيا لطرد المسلمين سنة 1609م

منذ 2009-05-16

لقد كان على مئات الآلاف من المسلمين الذين تخلّفوا بأرض الأندلس بعد سقوط دولة الإسلام مجابهة فتن كقطع الليل المظلم استهدَفت دينهم و دنياهم....

بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

لم يجد الساسة و رجال الكنيسة و المؤرخون الأسبان كبير عناء لتبرير طردهم للمسلمين من إسبانيا؛ فحسب الرواية القستالية الرسمية: سنة 1609م شهدت إعادة الأمور إلى نصابها بشبه الجزيرة الأيبيرية؛ فالمسلمون كانوا جسما غريبا طارئا على هذه البلاد التي دخلوها بعد غزو دموي سنة 711م (93هـ)، وبعد 800 سنة هزموا على يد الملكين الكاثوليكيين في نهاية لحروب الاسترداد (Reconquista) التي اختتمت سنة 1492م برفع الصليب على أسوار الحمراء.

ورغم تعميد المسلمين المغلوبين و الجهود الكبيرة التي بذلت لإدخالهم في مملكة يسوع فقد بقوا كفرة مرتدين يتبعون تعاليم الدين المحمدي وشكلوا طابورا خامسا يستغله أعداء مملكة إسبانيا لتدميرها من الداخل.

لقد كان على مئات الآلاف من المسلمين الذين تخلّفوا بأرض الأندلس بعد سقوط دولة الإسلام مجابهة فتن كقطع الليل المظلم استهدَفت دينهم و دنياهم؛ فقد حُكم عليهم بترك العقيدة والمظاهر الإسلامية واتباع العقيدة الكاثوليكية والتشبه بالنصارى حتى في أبسط الأمور، ومن لم يلتزم بتلك الأوامر يٌعرّض نفسه للقتل والسجن والتعذيب والتهجير ومصادرة الأملاك والأموال، فاضطروا لإظهار النصرانية وإضمار الإسلام في انتظار فرج من عند الله يكشف غمتهم ويرفع الحيف عنهم؛ واستمروا على هذه الحال إلى سنة 1609م لمّا قرر الملك فيليبي الثالث طرد الأندلسيين من مملكته الكاثوليكية إلى بلاد البربر بشمال إفريقيا.

لقد حاول الأسبان الدفاع عن هذا الطرد وقدّموا عدّة مبررات محاولين إخفاء فظاعة عملهم الهمجي تجاه شعب مسلم هو أولى بالأندلس التاريخية من غزاة برابرة قادمين من الشمال، ومن بين هذه المبررات:

1- تشبّث الأندلسيين بالإسلام ورفضهم الاندماج في المجتمع النصراني.
حسب الرواية القشتالية الرسمية، لم يُبد الأندلسيون رغبة في الاندماج في المجتمع النصراني وبقوا في معزل عنه، يقومون بشعائرهم الإسلامية ويدافعون عنها بكل تفان. وحتى لا يصطدموا بمحاكم التفتيش لجئوا إلى ممارسة التقية فأظهروا النصرانية وأخفوا الإسلام، فكانوا يتوضئون ويصلون ويصومون... كل ذلك في خفية عن أعين الوشاة والمحققين.

يتحدث مول في كتابه عن قرية مويل Muel فيصف كيف يصنع سكانها الأندلسيون الخزف ويُضيف: "قالوا لي إن القرية ليس بها سوى 3 مسيحيين قدامى هم الكاتب الشرعي والقسيس وصاحب الحانة.. أمّا الباقون فهم يُفضّلون الذهاب إلى مكة للحج عن السفر إلى كنيسة سانتياغو في غاليثيا". (1)

سنة 1601م، كتب المطران ربيرا -مهندس قرار الطرد- تقريرا عن هذا الوضع قدمه إلى الملك قال فيه: "إن الدين الكاثوليكي هو دعامة المملكة الإسبانية، وإن المورسكيين لا يعترفون ولا يتقبلون البركة ولا الواجبات الدينية الأخيرة، ولا يأكلون لحم الخنزير، ولا يشربون النبيذ، ولا يعملون شيئا من الأمور التي يقوم بها النصارى..."، ثم يقول: "إننا لا نثق في ولائهم لأنهم مارقون، وإن هذا المروق العام لا يرجع إلى مسالة العقيدة، ولكنه يرجع إلى العزم الراسخ في أن يبقوا مسلمين كما كان آباؤهم و أجدادهم، ويعرف مفتشو العموم أن المورسكيين بعد أن يحجزوا عامين أو ثلاثة وتشرح لهم العقيدة في كل مناسبة فإنهم يخرجون دون أن يعرفوا كلمة منها، والخلاصة أنهم لا يعرفون العقيدة لأنهم لا يريدون معرفتها، ولأنهم لا يريدون أن يعملوا شيئا يجعلهم يبدون نصارى" (2).

و في تقرير آخر يقول نفس المطران: "إن المورسكيين كفرة متعنتون يستحقون القتل، وأن كل وسيلة للرفق بهم فشلت، وإن إسبانيا تتعرض من جراء وجودهم فيها إلى أخطار كثيرة، وتتكبد في رقابتهم والسهر على حركاتهم وإخماد ثوراتهم كثيرا من الرجال و المال.." (3).

وجاء في قرار الطرد الخاص بمسلمي بلنسية: " ...قد علمت أنني على مدى سنوات طويلة حاولت تنصير مورسكيي هذه المملكة ومملكة قشتالة، كما علمت بقرارات العفو التي صدرت لصالحهم والإجراءات التي اتخذت لتعليمهم ديننا المقدس، وقلة الفائدة الناتجة من كل ذلك، فقد لاحظنا أنه لم يتنصر أحد، بل زاد عنادهم"(4).

2- الخطر الديمغرافي
اعتُبر ارتفاع نسبة النمو لدى الأندلسيين من أكثر النقاط التي أثارت انتقادات النصارى. وقد عبّر عن ذلك الأديب الاسباني الشهير ثيرفنتس في روايته (Persiles y Segismunda) حيث ذكر : "لم تكن بينهم الرهبانية، ولم يكونوا متدينين؛ جميعهم يتزوجون، جميعهم يتكاثرون". فالنصراني كان يكتفي بالزواج بإحدى قريباته أو يلتحق بالكنيسة أو الجندية. هكذا ازداد الخوف من أن يخرج النمو الديمغرافي للأندلسيين عن السيطرة فيشكل خطرا على هوية الدولة الكاثوليكية، من أجل ذلك طُرحت عدة حلول منها إخصاء جماعي للذكور المسلمين أو إرسالهم لأداء الأعمال الشاقة في المناجم و السفن حيث لا أمل في العودة للحياة، لكن هذه المشاريع لم تر النور لأن "الكنيسة رأفت بهم و اختارت أرحم الحلول و هو طردهم من إسبانيا".

يقول الشهاب الحجري الأندلسي - الذي فرّ من إسبانيا إلى المغرب سنوات قليلة قبل الطرد- محاولا تفسير إخراج المسلمين من موطنهم: "اعلم أن أهل الأندلس كانوا مسلمين في خفاء من النصارى، ولكن يظهر عليهم الإسلام ويحكمونه فيهم، ولمّا تحقق منهم ذلك لم يأمن فيهم ولا كان يحمل منهم أحدا إلى الحروب وهي التي تفني كثيرا من الناس. وكان أيضا يمنعهم من ركوب البحر لئلا يهربوا إلى أهل ملتهم، والبحر يفني كثيرا من الرجال. وأيضا في النصارى كثيرون قسيسون ورهبان و مترهبات، وبتركهم الزواج ينقطع فيهم النسل. وفي أهل الأندلس لم يكن فيهم قسيسون ولا رهبان ومترهبات، إلا جميعهم يتزوجون ويزداد عددهم بالأولاد وبترك الحروب وركوب البحر، وهذا الذي ظهر على إخراجهم لأنهم بطول الزمن يكثرون" (5).

3- أخطار الغزو الخارجي

حسب الرواية الإسبانية، ظل الأندلسيون على اتصال مستمر بمجاهدي البحر الأتراك والمغاربة، يُوفّرون لهم المعلومات و الدعم عند نزولهم في سواحل إسبانيا لمهاجمة النصارى وحمل المسلمين إلى العدوة الأخرى.

* الخطر المغربي:

ضخّم المروّجون لخيار طرد الأندلسيين خطر غزو مغربي وشيك لإسبانيا لاستعادة الأندلس، خصوصا بعد استقرار الأوضاع به بعد سنوات من الحروب الأهلية؛ فبعد وفاة السلطان أحمد المنصور رحمه الله سنة 1603م، تقاتل أبناؤه الثلاثة على خلافته، فأدخلوا المغرب في محن لا توصف من الحروب الأهلية والتجزئة، انتهت بسيطرة المولى زيدان على الأمور وفرار شقيقه المأمون إلى إسبانيا مستنجدا بملكها ضد أخيه. "فأرسل مورسكيو بلنسية رسلهم إلى زيدان يخبرونه بعلاقات المأمون بفيليبي الثالث، ويطلبون منه تحرير الأندلس، ويحاولون إقناعه بسهولة ذلك، ويؤكدون استعدادهم لتقديم 60 ألف مقاتل متى أبحر جنوده في أحد الثغور الإسبانية. لكن السلطان زيدان لم يهتم بهذا العرض، ولم يحرك ساكنا. ولمّا علمت الدولة الإسبانية بالخبر ازدادت حقدا على مسلمي الأندلس عامة ومسلمي مملكة بلنسية خاصة" (6).

وقد اتخذت السلطات الإسبانية هذا التهديد على محمل الجد، حيث يقول الباحث الإسباني الشهير خوليو كارو باروخا: "يمكن أن نعتبر هزيمة سلطان فاس مولاي الشيخ على يد ملك مراكش مولاي زيدان في ربيع عام 1609م قد أثرت في قرار الطرد الذي صدر بعد ذلك" (7).

* التآمر مع فرنسا:

كانت الجارة الشمالية لإسبانيا، فرنسا، ذات أغلبية بروتستانتية (الهوكونو)، وكانت علاقتهما متوثرة للغاية. ورغم تحول هنري دي بورون إلى المذهب الكاثوليكي عندما أصبح ملكا على فرنسا تحت اسم هنري الرابع، فقد بقي على عدائه لإسبانيا، وتابع علاقته بالأندلسيين، وأصبحت الدولة الإسبانية تنظر إلى علاقة هنري الرابع بالأندلسيين بتخوف أكبر.

سنة 1602م, تمّ وضع مخطط بين الأندلسيين والفرنسيين لغزو إسبانيا، لكن وفاة الملكة إيسابيلا -ملكة انجلترا التي حاولت فرنسا الحصول على مساعدتها للغزو- أفشل المخطط؛ ذلك أن خلف إيسابيلا جاكوب الأول وقّع معاهدة صداقة مع إسبانيا، و قدّم للملك فليب الثالث جميع الوثائق الخاصة بعلاقته مع المسلمين البلنسيين، كعلامة على حسن نيته، فقبضت السلطات الإسبانية على أكثر زعماء الأندلسيين الذين شاركوا في هذا المخطط، و عذبتهم حتى اعترفوا ثم أعدمتهم. (8)

لقد استفادت إسبانيا من غياب تأريخ إسلامي موثوق لما جرى بالأندلس بعد سقوط دولة الإسلام، فسطّروا التاريخ كيف شاءوا وصاغوا الافتراءات التي تخدم مشروعهم المناوئ لأي وجود إسلامي بالأندلس، فألصقوا كل العيوب بالمسلمين ورموهم بكل داء حتى عافهم من حولهم وازدراهم أراذل الناس وأخسهم، ثم رُموا إلى أقرب السواحل الإسلامية من أوربا.

وكأنه لم تطأ قدم مسلم تلك الأرض أبدا.

________________________________

الهوامش:

(1) "مسلمو مملكة غرناطة بعد عام 1492" تأليف خوليو كارو باروحا. تعريب :د جمال عبد الرحمان. ص 225.

(2) "الحياة الدينية للمورسكيين" للأب بيدرو لونكاس. نقلا من كتاب "المسلمون المنصرون" لعبد الله جمال الدين. ص 209

(3) نهاية الاندلس. لعبد الله عنان. ص 395.

(4) "المورسكيون الأندلسيون" تأليف مرثيدس غارسيا أرينال. تعريب د جمال عبد الرحمن. ص 229.

(5) "ناصر الدين على القوم الكافرين" للشهاب الحجري الأندلسي.

(6) "انبعاث الإسلام بالأندلس" د. علي المنتصر الكتاني. ص 226.

(7) "مسلمو مملكة غرناطة بعد عام 1492" تأليف خوليو كارو باروحا. تعريب :د جمال عبد الرحمان. ص 226

(8) "انبعاث الإسلام بالأندلس" د. علي المنتصر الكتاني. ص 158-159


كتبه أبو تاشفين هشام بن محمد المغربي.








المصدر: طريق الإسلام
  • 7
  • 4
  • 36,376

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً