نوفل وفنَّ القيادة

منذ 2009-05-28

يا بني.. قد يعتريك بعض الوحشة والغربة إذا عاملت الناس بما تحب أن يعاملوك به، وأنت ترى ما يفعله الناس، فإذا ما أتاك إبليس يخذلك عن الأخلاق في القيادة، فاستعذ بالله منه، وقل إن الله لا يضيع أجر المحسنين..


غداً الأربعاء هو ميعادي لاستخراج رخصة القيادة، فكرت ماذا أصنع قبل خوض هذه التجربة الجديدة؟، فخطر على قلبي فكرة الاستعانة بصديق، واخترت أن تكون بداية انطلاقتي عملية بمحاكاة أكثر أصدقائي إجادةً لقيادة السيارة.. إنه نوفل، كم سمعت امتداح صحبتي مهارته وحسن قيادته..

استقليتُ ونوفل إحدى المركبات الشبابية، ترى من ظاهرها وضح النهار ومن باطنها ليل حالك، وجعل مصعب يتنقل في الشوارع الفرعية بسرعة جنونية حتى عند التقاطعات؛ فلا تكاد تلامس رجله كوابح السيارة إلا كما تمر الريشة على أرنبة أنفه؛ فهي ثقيلة دم على الإطارات، وثقيلة دم على روحه..

ولما وصلنا المدخل إلى الطريق الرئيسي وجدنا عليه سيارة واقفة تنتظر الفرصة المناسبة للولوج إلى الطريق، فأتى نوفل عن يمين هذه المركبة ودخل إلى الطريق الرئيسي كما يدخل الثقلاء على بيوت الناس، وقد أرغمهم على فتح الأبواب له "وحده" ولو على حساب حقوقهم..!

فما لبثنا أن اعترضتنا مياه راكدة على قارعة الطريق، فزاد نوفل من سرعته ليزيح ما يستطيعه من المياه عن الطريق، وصادف ذلك مرور أحد المشاة الذي كان استقباله للمياه النظيفة استقبالاً كريماً..!

فمضينا في الطريق حتى توقف بنا على إشارة مرور نريد الاتجاه منها يساراً، فأخذ نوفل أقصى اليمين من المسارب، ثم اعترض بسيارته يتقدم المركبات الأخرى، فالتفت إليه أنظر كيف يرى صنيعه هذا؟، فإذا هو حامل راية الانتصار بكفه الأيمين مختالاً فخوراً..!!

ولما امتدَّ بنا الطريق السريع، عدل نوفل من جلسته، وأرخى أكتافه، وأمال رأسه ستين درجة إلى اليسار، وأمسك المقود بأطراف أصابعه، ثم أخذ يتراقص بالمركبة يميناً وشمالاً، ويتجاوز السيارات الواحدة تلو الأخرى، ويحاول أن يكون مساره في منتصف المسربين على الخط بينهما، ليحكم قبضته على الطريق، ويكون في المقدمة دائماً..!!

ولما اكتظَّ الطريق بالحركة والسير بدأ نوفل بالتأفف، وتأزمت حالته، وانتفخت أوداجه، وهو يتهدد ويتوعد الناس: صبحكم ومساكم، وينعطف إلى المسرب الآخر غير آبه لإعطاء إشارة ضوئية للسائقين الآخرين، فلما ضاق الطريق بالسيارات ولم يستطع المراوغة بينها، جمع قواه العقلية والبدنية، وأفرغهما على السيارة التي أمامه، وكان كمن احتمل بثقله على زنبرك ضخم تأهباً للانطلاق والانقضاض، وقد التحمت مركبته بالمركبة الأمامية مهملاً مسافة الأمان كالثور الهائج يلاحق حزمة الحشيش المعلقة على مؤخرة السيارة الأمامية، فإن بارت الحيل وانقطعت السبل عمد نوفل إلى شيء يسمُّونه "زينون" يشابه البرق في اختطافه للأبصار يُسلطه على أعين الناس، ويخضهم لإعلان الاستسلام أمام هذه القوة الغاشمة..!!

وبينما نحن على ذلك إذ بسيارة إسعاف من ورائنا لا يُفتَّح لها الطريق إلا قليلاً بعد أن تلين قلوب بعضهم وتتحرك مشاعر الرحمة الإيمانية فيهم، فيُفسحْ لها الطريق هنيهةً بقدر ما يمكِّن سيارة الإسعاف من التقدم، ثم تبدأ حلقة من حلقات المطاردات البوليسية يطاردون الإسعاف مطاردة العدو لعدوه يريد الفتك به والقضاء على ما بقي من حياته..!!

واختتمت هذا الدرس العملي بهذا المشهد الذي أشغل ذهني، وأخذت أفكر وعلامات الاستفهام والتعجب تدور في رأسي، وتردت حالتي، وخارت قواي، وأصبحت في حيرة من أمري، حتى وصلت البيت ودخلت إليه لأجد والدي ينتظرني ويناديني لأجلس معه، فأقبلت إليه، وسلَّمت عليه، فقال لي:

يا بني.. لعلك تظن أني قد أعددت العدة لموعظتك قبل أن تقود السيارة، أما إني للمواعظ أحوج، ولست ممن يتشح برداء الكمال، ولكنِّي من طينة الناس، أقع فيما يقع فيه غيري، بيد أني أجتهد في تقويم نفسي وتسديدها..

يا بني.. لو جاء رجل حاملاً سيفاً خارجاً من غمده، ودخل السوق مشهراً سيفه على الناس، يكاد يصيب به بعضهم، ويتحاشاه الناس مخافة أن يلحقهم ضرر بسببه..

ما تقول فيه؟

فكذلك من يقود السيارة بطيش وتهور يُعرِّض نفسه وأرواح الناس للخطر..

يا بني.. إن التهور والعنف في قيادة السيارة ليست من المهارة والقوة في شيء، فليس الشديد بالصرعة ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب.. إن المهارة الحقة هي في كف الأذى، وكظم الغيظ، والعفو عن المسيء، وعذر الغافل.. أولم تعلم يا بني أن في الطريق الغافل الساهي، والجاهل الضعيف، والفقير المعدم، والكبير ذو الشيبة، والصغير المراهق!!، وفيهم من اشتدت عليه الدنيا بأوضارها، وكبتت أنفاسه الهموم والغموم..

أفلا نظرت لهم نظرة المسلم لأخيه المسلم، وقلت لهم بفعالك أن الأمة لا زال فيه الخير، وأوقدت شمعة الأمل في قلوبهم..!!

يا بني.. {اقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [سورة لقمان: 18].

يا بني.. إن الطريق إما لك أو عليك، فأعط الطريق حقه، وإياك أن تكون من مفلسي الطريق..

أتدري يا بني من المفلس؟

إن المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا ، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار..

يا بني.. قد يعتريك بعض الوحشة والغربة إذا عاملت الناس بما تحب أن يعاملوك به، وأنت ترى ما يفعله الناس، فإذا ما أتاك إبليس يخذلك عن الأخلاق في القيادة، فاستعذ بالله منه، وقل إن الله لا يضيع أجر المحسنين..


* د. محمد بن خالد الحميد


المصدر: منقول
  • 3
  • 0
  • 7,276
  • unashraf

      منذ
    [[أعجبني:]] العنوان والمقاله كلها اتمنى ان يقراها الجميع خصوصا اولادنا حفظهم الله من شر الطريق وهدانا واياهم الى مايحب و يرضى وجزى الكاتب كل خير
  • يحي داغر

      منذ
    [[أعجبني:]] أستخدام أسلوب القصة
  • saada626

      منذ
    [[أعجبني:]] Jazak Allah 3ana be kol 5ayr, wa 7afezak men kol so2 ,we 7afezak le waledayk wa jazahom Allah kol 5ayr.

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً