لا يعاب الإنسان بما في طبعه إنما ...
منذ 2009-06-11
أما إذا كان يجد ذلك من نفسه، فيكرهه، ويجاهد نفسه على البعد عنه، والتفكير فيه - فذلك من صميم التقوى، ومما يدخل صاحبه في زمرة من خاف مقام ربه، ونهى النفس عن الهوى.
هذا العنوان هو جزء من كلمة للجنيد
-رحمه الله- ونصها:
"الإنسان لا يُعاب بما في طبعه، إنما يُعاب إذا فعل ما في طبعه".
وقريب منها كلمة لابن حزم -رحمه الله- يقول فيها: "لا عيب على من مال بطبعه إلى بعض القبائح، ولو أنه أشد العيوب وأعظم الرذائل، ما لم يظهره بقول أو فعل، بل يكاد يكون أحمدَ ممن أعانه طبعه على الفضائل، ولا تكون مغالبة الطبع الفاسد إلاّ عن قوة عقل فاضل".
هاتان الكلمتان من هذين الحكيمين تحملان حِكماً، وعِبراً يجدر تأمّلها، والإفادة منها؛ فكل إنسان جُبِل على غرائز كثيرة، بعضها حسن، وبعضها قبيح.
ومن الناس من لا يأبه بما طُبع عليه من الرعونات؛ فلا حديث لنا معه ههنا.
ومنهم من تؤذيه طباعه القبيحة، وربما بلغ به اليأس مبلغه من تغيير تلك الطباع، أو تلطيفها بحجة أنها غرائز لا يمكن تغييرها.
والحقيقة أن الأخلاق والطباع كما أنها غريزية جبلية فهي كذلك اكتسابية تتأتَّى بالمراس، والدُّرْبة.
والمقام ههنا ليس مقام بسط ذلك، وإنما المقصود إحسان التعامل مع طبائع النفس، ومحاولة توجيهها إلى ما ينفع، وصرفها عما يضر.
فالإنسان -كما يقول الجنيد- لا يُلام على طباعه التي فُطِر عليها إذا كانت طباع سوء كالبخل، أو سرعة الغضب، أو ضعة النفس، أو الشَّرَه، أو نحو ذلك.
وإنما يُلام على فعل ما في طبعه الفاسد، واسترساله مع رعوناته، وإطلاقه العنان لنزواته، وتركِه محاولةَ النهوض بنفسه، ورَفْعِها عن دركات الحضيض.
أما أصل الطبع فإنه لا يُلام عليه، ولو أنه -كما يقول ابن حزم- أشدّ العيوب، وأعظم الرذائل؛ لأن ذلك ليس من كسبه، ولا اختياره.
بل يُحمد غاية الحمد إذا قهر نفسه، وسعى للارتقاء بها.
ثم إن مما يجمل بالإنسان أن يعرف نفسه، وطباعه، ويوظفها في الخير غاية ما يستطيعه، وينأى بها عن الشر غاية ما يمكنه.
فمن الناس -على سبيل المثال- مَنْ في طبعه حرارة وحِدَّةُ مزاج، وربما تأذى من ذلك وعدَّه مما يُعاب به، ويُزْرى عليه بسببه.
ولكن لَوْ وَجَّه ذلك الطبع إلى ما ينفع لآتى أُكُله ضعفين؛ بحيث يفيد منه في الحزم، وإنجاز الأعمال، وترك التقصير في الحقوق، والتجافي عن الكسل والخور وهكذا؛ فيكون طَبْعُه بمنزلة النار التي تنفعه، فيطبخ عليها طعامه، ويصطلي بها في البرد دون أن يقترب جداً منها، فتؤذيه حرارتها، وقد تحرق ثيابه أو بدنه.
وقل مثل ذلك في شأن برود الطبع؛ فقد يفيد الإنسان في هدوء الأعصاب، وحسن الاستقبال للحوادث، والبعد عن الغضب، وسوء التصرف.
وذلك إذا وطّن نفسه على الإفادة من ذلك الطبع، وسعى للبعد عن آفات البرود كالاستكانة، وبلادة النفس، وقلة المبالاة بالناس، والتأخر في إنجاز الأعمال.
وهكذا الحال بالنسبة للغيرة؛ فهي غريزة جُبِلت عليها النفوس خصوصاً النساء المتزوجات؛ فالغيرة طبع في النساء، فإذا استرسلت المرأة معها كانت الغيرة مذمومة، وإذا هذبتها وقومتها كانت الغيرة محمودة؛ فالمذموم منها تلك الغيرة التي تتأجج في صدر صاحبتها ناراً موقدة تشعل جيوش الظنون والشكوك؛ فتحيل جوَّ الأسرةِ جحيماً لا يُطاق.
والغيرة المحمودة هي المعتدلة التي لا تتسلط على صاحبتها؛ فلا تثير عندها شكوكاً ولا أوهاماً؛ فهذه غيرة مقبولة، وقد تُستملح أحياناً، بل إن التجرّد من الغيرة لا يُحمد.
فالغيرة -إذاً- ليست شراً محضاً، وإنما الشر فيما كان مبالغاً فيه من الغيرة؛ فغيرة المرأة على الرجل هي -في الحقيقة- إحساس صادق لمدى حبها له، وهي في الوقت نفسه صورة معبرة عن حرصها على الاستئثار به، وهي -كذلك- حالة نفسية تعبر عن خوف المرأة على مستقبلها في الحياة؛ فهذا المزيج من الحب الخالص، والأثرة المفرطة، والخوف الزائد - يصنع في المرأة عاطفة الغيرة.
إن شعور المرأة بحبها لزوجها قد يدفعها إلى إسعاده، وتهيئة الجو المناسب لتحقيق آماله.
غير أن إحساسها بحبها لنفسها، وخوفها على مستقبلها في الحياة قد يقودها إلى فرض القيود على زوجها الذي أحبته؛ مؤملة بذلك أن يكون خيره كله لها، ولأولادها.
وقد تزيد الغيرة عن هذا الحد، فتودي بالمرأة إلى تصرفات غريبة شائنة بدايتُها الشكُّ في الزوج؛ وتفسير تصرفاته على غير وجهها؛ فتشك فيه إذا الْتَفَتَ فرأى امرأة تسير، وتشكُّ فيه إذا رفع سمّاعة الهاتف فخفض صوته، وتشكّ فيه إذا غاب لسفر أو نحوه، وتشكّ فيه إذا تشاغل عنها في بعض الأحيان.
كل ذلك مع أن الزوج لم تظهر عليه علائم الفساد، ولا الجناح إلى الشر.
وقد تزيد في مطالبها لزوجها، فتستنزف ماله قدر المستطاع؛ كيلا يذهب شيء منه إلى أمه، أو إخوته، أو لأجل ألاّ يبقى عنده فضل مال يتزوج به زوجة أخرى.
ثم بعد ذلك تبدأ آلامها؛ لانتفاع غيرها بزوجها، ثم تنتقل إلى اتهام أهل زوجها، وإلى إثارة المنازعات، وتدبير المكائد، وربما تلجأ إلى السحر عياذاً بالله، إلى غير ذلك من التصرفات الطائشة الشائنة.
إن نيران الغيرة تلتهب بوقود خاص، وهذا الوقود قد يكون نقياً نظيفاً؛ فتمنحنا نيرانه النور، والدفء، والأمل.
وقد يكون قذراً لا ينبعث من نيرانه غير دخان يزكم الأنوف، ويعمي الأبصار.
ومن أسباب ذلك الوقودِ القذرِ ضعفُ التربية الدينية والخلقية، وهذا ما يثير الأطماع، ويحيي الأحقاد.
ومن أسبابه جهلها بالعواقب.
ومن أسباب ذلك -أيضاً- حماقة الرجل، وسوء تصرفاته.
ولهذا يجب على الزوجة التي تروم السعادة لنفسها ولزوجها أن تعتدل في غيرتها.
ولقد أطلت في مسألة الغيرة؛ لما لها من الأهمية، ولما للتفريط في شأنها من العواقب الوبيلة.
وهكذا الشأن في غريزة يشكو كثير من الناس من اتصافهم بها، ويتأذى ممن يتصفون بها فئام من البشر الذين يتعاملون معهم، ذلكم هو شدة التأثر والمبالغة في سوء الظن، وتفسير الأمور على غير مرادها الصحيح، وهو ما يمكن أن يُعرف بالحساسية المفرطة.
فذلك الطبع يُتْعِب أصحابه، ومن يتعاملون معهم؛ لأن الإنسان المرهف الشعور ذا الحساسية المفرطة يلاحظ جميع التصرفات، ويفسر البريء منها وغير البريء، فتقع المآسي تلو المآسي من جرّاء ذلك.
ويمكن لصاحب ذلك الطبع أن يُلَطِّف منه، وأن يضعه في إطاره الصحيح؛ فينبعث إلى احترام الآخرين، وتجنّب ما يثير غضبهم من قريب أو بعيد، ويحرص على مراعاة مشاعرهم؛ لأن شعوره بالتأذي من ذلك التصرف أو غيره - يقوده إلى ألاّ يقع فيه، وهكذا؛ فيفيد من ذلك الطبع المغروز في أصل جِبِلَّتِه.
أما إذا استرسل معه، وصار يلوم الناس على كل تصرف، ويريد منهم أن يعذروه، ولا يعذلوه إذا وقع منه في حقهم ما كان يلومهم عليه - فتلك هي الحماقة التي أعيت من يداويها.
وقل مثل ذلك في سائر الطباع؛ فغريزة التطفل، وحب الاستطلاع يمكن لمن بلي بها أن يشبعها في البحث، واستكشاف الجديد مما هو في دائرة تخصصه، أو غيرها.
والإسراف يمكن للإنسان أن يهذبه، ويلطفه بحيث يجعل ما يصرفه في مكان لا يندم عليه في دنياه وأخراه.
والبخل يمكن للإنسان أن يلطفه، ويفيد منه في تدبير المعيشة، ويسعى للتخلص مما فيه شَرَهٌ، واستئثارٌ، وغلوٌّ في حب الذات.
بل إن العجز والكسل والخمول -وهي من أحط الخصال، وأقبح الخلال- يمكن للإنسان أن يتخلص منها، وأن يأخذ نفسه بشيء من الجد، أو في الأقل ألاّ يكون ثقيلاً بنفسه، فيجتمع -مع عجزه وكسله- ثِقَلُ نَفْسِه.
وذلك بأن يطلق لسانه بالثناء والدعاء على من يحسن إليه، ويقوم بخدمته، وألاّ يكون كَلاًّ على أصحابه بالقول والفعل.
وأذكر أن أحد أعزة الأصحاب له فلسفة في العجز والكسل جعلت منه فاكهة للمجالس والرحلات؛ فهو -باعترافه- كسول ذو عجز، ولكنه يلطف ذلك بروحه المرحة، ونفسه الخفيفة، فصار عجزه وكسله مستعذباً محبباً للنفس، خصوصاً إذا ثارت لديه ثوائر العجز.
وأذكر من طرائف عجزه أنه في يوم من الأيام خرج مع بعض أصحابه لرحلة برية؛ فخشي أن يستشار في مكان الرحلة، فبادر إلى القول: أرجوكم لا يسألْني أحد إلى أين سنذهب؛ لأنه ليس لدي استعداد للتفكير؛ اذهبوا حيث شئتم!
ومرة أتى مع مجموعة من أصدقائه من رحلة بعيدة زاروا خلالها عدداً من المدن بما فيها مكة المكرمة؛ لأداء العمرة.
وفي طريق عودتهم أخذوا يتجاذبون أطراف الحديث، ويقطعون الطريق بالأحاديث المفيدة والمسلية، فلما اقتربوا من الوصول إلى البلد، قال لهم ذلك الصاحب: لقد مللت من الضحك، وليس لديّ استعداد أن أضحك لأي نكتة؛ فرغبت في إخباركم أن النكتة الفسلة -أي التي لا تستحق الضحك- لن أضحك منها؛ فصارت تلك الكلمة أعجب ما قيل في تلك الرحلة.
هذا وإن من أعظم ما يقلق كثيراً من الناس ميلهم بمقتضى طبائعهم إلى بعض الشهوات المحرمة، فيرون أن ذلك نقص في حقهم، وأنهم غير جديرين بأي عمل يسند إليهم، خصوصاً ما كان من أمور الخير والاحتساب وما شاكلها، وكأنهم بذلك يريدون أن يتجردوا من خصائص البشرية إلى عالم الملائكية.
فيُقال لهؤلاء: إن الميل الفطري إلى المحرم لا يُلام عليه الإنسان، وإنما يُلام على فعل ما في طبعه.
أما إذا كان يجد ذلك من نفسه، فيكرهه، ويجاهد نفسه على البعد عنه، والتفكير فيه - فذلك من صميم التقوى، ومما يدخل صاحبه في زمرة من خاف مقام ربه، ونهى النفس عن الهوى.
وإنما حُفّت الجنة بالمكاره، وحُفّت النار بالشهوات، و {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَاْبَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:9-10].
وبالجملة فهذه نبذة يسيرة في شأن الطباع يُقاس عليها الكثير من أمثالها.
"الإنسان لا يُعاب بما في طبعه، إنما يُعاب إذا فعل ما في طبعه".
وقريب منها كلمة لابن حزم -رحمه الله- يقول فيها: "لا عيب على من مال بطبعه إلى بعض القبائح، ولو أنه أشد العيوب وأعظم الرذائل، ما لم يظهره بقول أو فعل، بل يكاد يكون أحمدَ ممن أعانه طبعه على الفضائل، ولا تكون مغالبة الطبع الفاسد إلاّ عن قوة عقل فاضل".
هاتان الكلمتان من هذين الحكيمين تحملان حِكماً، وعِبراً يجدر تأمّلها، والإفادة منها؛ فكل إنسان جُبِل على غرائز كثيرة، بعضها حسن، وبعضها قبيح.
ومن الناس من لا يأبه بما طُبع عليه من الرعونات؛ فلا حديث لنا معه ههنا.
ومنهم من تؤذيه طباعه القبيحة، وربما بلغ به اليأس مبلغه من تغيير تلك الطباع، أو تلطيفها بحجة أنها غرائز لا يمكن تغييرها.
والحقيقة أن الأخلاق والطباع كما أنها غريزية جبلية فهي كذلك اكتسابية تتأتَّى بالمراس، والدُّرْبة.
والمقام ههنا ليس مقام بسط ذلك، وإنما المقصود إحسان التعامل مع طبائع النفس، ومحاولة توجيهها إلى ما ينفع، وصرفها عما يضر.
فالإنسان -كما يقول الجنيد- لا يُلام على طباعه التي فُطِر عليها إذا كانت طباع سوء كالبخل، أو سرعة الغضب، أو ضعة النفس، أو الشَّرَه، أو نحو ذلك.
وإنما يُلام على فعل ما في طبعه الفاسد، واسترساله مع رعوناته، وإطلاقه العنان لنزواته، وتركِه محاولةَ النهوض بنفسه، ورَفْعِها عن دركات الحضيض.
أما أصل الطبع فإنه لا يُلام عليه، ولو أنه -كما يقول ابن حزم- أشدّ العيوب، وأعظم الرذائل؛ لأن ذلك ليس من كسبه، ولا اختياره.
بل يُحمد غاية الحمد إذا قهر نفسه، وسعى للارتقاء بها.
ثم إن مما يجمل بالإنسان أن يعرف نفسه، وطباعه، ويوظفها في الخير غاية ما يستطيعه، وينأى بها عن الشر غاية ما يمكنه.
فمن الناس -على سبيل المثال- مَنْ في طبعه حرارة وحِدَّةُ مزاج، وربما تأذى من ذلك وعدَّه مما يُعاب به، ويُزْرى عليه بسببه.
ولكن لَوْ وَجَّه ذلك الطبع إلى ما ينفع لآتى أُكُله ضعفين؛ بحيث يفيد منه في الحزم، وإنجاز الأعمال، وترك التقصير في الحقوق، والتجافي عن الكسل والخور وهكذا؛ فيكون طَبْعُه بمنزلة النار التي تنفعه، فيطبخ عليها طعامه، ويصطلي بها في البرد دون أن يقترب جداً منها، فتؤذيه حرارتها، وقد تحرق ثيابه أو بدنه.
وقل مثل ذلك في شأن برود الطبع؛ فقد يفيد الإنسان في هدوء الأعصاب، وحسن الاستقبال للحوادث، والبعد عن الغضب، وسوء التصرف.
وذلك إذا وطّن نفسه على الإفادة من ذلك الطبع، وسعى للبعد عن آفات البرود كالاستكانة، وبلادة النفس، وقلة المبالاة بالناس، والتأخر في إنجاز الأعمال.
وهكذا الحال بالنسبة للغيرة؛ فهي غريزة جُبِلت عليها النفوس خصوصاً النساء المتزوجات؛ فالغيرة طبع في النساء، فإذا استرسلت المرأة معها كانت الغيرة مذمومة، وإذا هذبتها وقومتها كانت الغيرة محمودة؛ فالمذموم منها تلك الغيرة التي تتأجج في صدر صاحبتها ناراً موقدة تشعل جيوش الظنون والشكوك؛ فتحيل جوَّ الأسرةِ جحيماً لا يُطاق.
والغيرة المحمودة هي المعتدلة التي لا تتسلط على صاحبتها؛ فلا تثير عندها شكوكاً ولا أوهاماً؛ فهذه غيرة مقبولة، وقد تُستملح أحياناً، بل إن التجرّد من الغيرة لا يُحمد.
فالغيرة -إذاً- ليست شراً محضاً، وإنما الشر فيما كان مبالغاً فيه من الغيرة؛ فغيرة المرأة على الرجل هي -في الحقيقة- إحساس صادق لمدى حبها له، وهي في الوقت نفسه صورة معبرة عن حرصها على الاستئثار به، وهي -كذلك- حالة نفسية تعبر عن خوف المرأة على مستقبلها في الحياة؛ فهذا المزيج من الحب الخالص، والأثرة المفرطة، والخوف الزائد - يصنع في المرأة عاطفة الغيرة.
إن شعور المرأة بحبها لزوجها قد يدفعها إلى إسعاده، وتهيئة الجو المناسب لتحقيق آماله.
غير أن إحساسها بحبها لنفسها، وخوفها على مستقبلها في الحياة قد يقودها إلى فرض القيود على زوجها الذي أحبته؛ مؤملة بذلك أن يكون خيره كله لها، ولأولادها.
وقد تزيد الغيرة عن هذا الحد، فتودي بالمرأة إلى تصرفات غريبة شائنة بدايتُها الشكُّ في الزوج؛ وتفسير تصرفاته على غير وجهها؛ فتشك فيه إذا الْتَفَتَ فرأى امرأة تسير، وتشكُّ فيه إذا رفع سمّاعة الهاتف فخفض صوته، وتشكّ فيه إذا غاب لسفر أو نحوه، وتشكّ فيه إذا تشاغل عنها في بعض الأحيان.
كل ذلك مع أن الزوج لم تظهر عليه علائم الفساد، ولا الجناح إلى الشر.
وقد تزيد في مطالبها لزوجها، فتستنزف ماله قدر المستطاع؛ كيلا يذهب شيء منه إلى أمه، أو إخوته، أو لأجل ألاّ يبقى عنده فضل مال يتزوج به زوجة أخرى.
ثم بعد ذلك تبدأ آلامها؛ لانتفاع غيرها بزوجها، ثم تنتقل إلى اتهام أهل زوجها، وإلى إثارة المنازعات، وتدبير المكائد، وربما تلجأ إلى السحر عياذاً بالله، إلى غير ذلك من التصرفات الطائشة الشائنة.
إن نيران الغيرة تلتهب بوقود خاص، وهذا الوقود قد يكون نقياً نظيفاً؛ فتمنحنا نيرانه النور، والدفء، والأمل.
وقد يكون قذراً لا ينبعث من نيرانه غير دخان يزكم الأنوف، ويعمي الأبصار.
ومن أسباب ذلك الوقودِ القذرِ ضعفُ التربية الدينية والخلقية، وهذا ما يثير الأطماع، ويحيي الأحقاد.
ومن أسبابه جهلها بالعواقب.
ومن أسباب ذلك -أيضاً- حماقة الرجل، وسوء تصرفاته.
ولهذا يجب على الزوجة التي تروم السعادة لنفسها ولزوجها أن تعتدل في غيرتها.
ولقد أطلت في مسألة الغيرة؛ لما لها من الأهمية، ولما للتفريط في شأنها من العواقب الوبيلة.
وهكذا الشأن في غريزة يشكو كثير من الناس من اتصافهم بها، ويتأذى ممن يتصفون بها فئام من البشر الذين يتعاملون معهم، ذلكم هو شدة التأثر والمبالغة في سوء الظن، وتفسير الأمور على غير مرادها الصحيح، وهو ما يمكن أن يُعرف بالحساسية المفرطة.
فذلك الطبع يُتْعِب أصحابه، ومن يتعاملون معهم؛ لأن الإنسان المرهف الشعور ذا الحساسية المفرطة يلاحظ جميع التصرفات، ويفسر البريء منها وغير البريء، فتقع المآسي تلو المآسي من جرّاء ذلك.
ويمكن لصاحب ذلك الطبع أن يُلَطِّف منه، وأن يضعه في إطاره الصحيح؛ فينبعث إلى احترام الآخرين، وتجنّب ما يثير غضبهم من قريب أو بعيد، ويحرص على مراعاة مشاعرهم؛ لأن شعوره بالتأذي من ذلك التصرف أو غيره - يقوده إلى ألاّ يقع فيه، وهكذا؛ فيفيد من ذلك الطبع المغروز في أصل جِبِلَّتِه.
أما إذا استرسل معه، وصار يلوم الناس على كل تصرف، ويريد منهم أن يعذروه، ولا يعذلوه إذا وقع منه في حقهم ما كان يلومهم عليه - فتلك هي الحماقة التي أعيت من يداويها.
وقل مثل ذلك في سائر الطباع؛ فغريزة التطفل، وحب الاستطلاع يمكن لمن بلي بها أن يشبعها في البحث، واستكشاف الجديد مما هو في دائرة تخصصه، أو غيرها.
والإسراف يمكن للإنسان أن يهذبه، ويلطفه بحيث يجعل ما يصرفه في مكان لا يندم عليه في دنياه وأخراه.
والبخل يمكن للإنسان أن يلطفه، ويفيد منه في تدبير المعيشة، ويسعى للتخلص مما فيه شَرَهٌ، واستئثارٌ، وغلوٌّ في حب الذات.
بل إن العجز والكسل والخمول -وهي من أحط الخصال، وأقبح الخلال- يمكن للإنسان أن يتخلص منها، وأن يأخذ نفسه بشيء من الجد، أو في الأقل ألاّ يكون ثقيلاً بنفسه، فيجتمع -مع عجزه وكسله- ثِقَلُ نَفْسِه.
وذلك بأن يطلق لسانه بالثناء والدعاء على من يحسن إليه، ويقوم بخدمته، وألاّ يكون كَلاًّ على أصحابه بالقول والفعل.
وأذكر أن أحد أعزة الأصحاب له فلسفة في العجز والكسل جعلت منه فاكهة للمجالس والرحلات؛ فهو -باعترافه- كسول ذو عجز، ولكنه يلطف ذلك بروحه المرحة، ونفسه الخفيفة، فصار عجزه وكسله مستعذباً محبباً للنفس، خصوصاً إذا ثارت لديه ثوائر العجز.
وأذكر من طرائف عجزه أنه في يوم من الأيام خرج مع بعض أصحابه لرحلة برية؛ فخشي أن يستشار في مكان الرحلة، فبادر إلى القول: أرجوكم لا يسألْني أحد إلى أين سنذهب؛ لأنه ليس لدي استعداد للتفكير؛ اذهبوا حيث شئتم!
ومرة أتى مع مجموعة من أصدقائه من رحلة بعيدة زاروا خلالها عدداً من المدن بما فيها مكة المكرمة؛ لأداء العمرة.
وفي طريق عودتهم أخذوا يتجاذبون أطراف الحديث، ويقطعون الطريق بالأحاديث المفيدة والمسلية، فلما اقتربوا من الوصول إلى البلد، قال لهم ذلك الصاحب: لقد مللت من الضحك، وليس لديّ استعداد أن أضحك لأي نكتة؛ فرغبت في إخباركم أن النكتة الفسلة -أي التي لا تستحق الضحك- لن أضحك منها؛ فصارت تلك الكلمة أعجب ما قيل في تلك الرحلة.
هذا وإن من أعظم ما يقلق كثيراً من الناس ميلهم بمقتضى طبائعهم إلى بعض الشهوات المحرمة، فيرون أن ذلك نقص في حقهم، وأنهم غير جديرين بأي عمل يسند إليهم، خصوصاً ما كان من أمور الخير والاحتساب وما شاكلها، وكأنهم بذلك يريدون أن يتجردوا من خصائص البشرية إلى عالم الملائكية.
فيُقال لهؤلاء: إن الميل الفطري إلى المحرم لا يُلام عليه الإنسان، وإنما يُلام على فعل ما في طبعه.
أما إذا كان يجد ذلك من نفسه، فيكرهه، ويجاهد نفسه على البعد عنه، والتفكير فيه - فذلك من صميم التقوى، ومما يدخل صاحبه في زمرة من خاف مقام ربه، ونهى النفس عن الهوى.
وإنما حُفّت الجنة بالمكاره، وحُفّت النار بالشهوات، و {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَاْبَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:9-10].
وبالجملة فهذه نبذة يسيرة في شأن الطباع يُقاس عليها الكثير من أمثالها.
المصدر: الإسلام اليوم
- التصنيف:
وائل ابراهيم
منذمحمد ادريس
منذ