الإعلام الحر

منذ 2015-11-28

من غريب التعليقات على أمثال هذه الحرية الإعلامية الشوهاء رفع البعض شعار "ثقافة المناعة، لا سياسة المنع" وهذا قول حق أريد به باطل، فنحنُ لا نقول بإهمال المناعة، وتحصينِ العقول، وزيادةِ ترسانة الوعي لدى الفرد، وتدعيم الحصانة الإعلامية لدى المتلقي؛ ولكنَّنا ضد تأجيج الشهوات، وقذف بالمجتمع الباطل، وإغارة سافرة على ثوابت الدين، ودعوة للمجون والحرية السافرة التي لا هّم لأصحابها إلا الظهور أمام الغير من المستغْربين والغرب أنَّه انفتاحي العصر، مروني السّلوك، عقلاني النَّظرة، لا يعارض الغير وإن كان كافرًا، ويقلِّده وإن كان ملحدًا أو مشركًا.

الحرية معنى عظيم وهدف نبيل تسعى إليه الأمم في القديم والحديث، وتتباهى به الدول أن لها منها الحظ الأوفر والمكان الأفسح، وما نزلت الأديان وأرسلت الرسل إلا لإخراج الناس من عبودية الخلق إلى عبودية الخالق وحده، ولطيب عبق الحرية ادعاها الجميع، وهم في ذلك بين صادق وكاذب، فأما الصادق فقد أخذها بحقها وحسابه على الله تعالى، وأما الكاذب فتزين بها في الظاهر وهو من أبعد الناس عنها واقعا وسلوكا.

ومن هذا المنطلق ينبغي أن نعلم أن ليس كل مدعي للحرية قد أصابها، وليس كل من تسربل بها فهي رداؤه الحقيقي، بل لابد من وزن الأقوال والأفعال بميزان الحق والإنصاف، وعدم الاغترار بالشعارات والهتافات والدعاوى، فميزان الحق لا يحابي أحدا، وليس كل من طلب خيرا ناله.

"الإعلام الحر" .. أحد القضايا المعاصرة الشائكة، خاصة أنها دعوى لكل من يعمل في الحقل الإعلامي، حتى الروافد الإعلامية الإباحية والإلحادية، لأن الجميع يرى الحرية من زاويته ورؤيته الخاصة لمفهوم الحرية، لكن رؤيتنا الإسلامية للحرية -وغيرها من المفاهيم والسلوكيات- تنبثق من أصلين عظيمين هما الكتاب والسنة، فهما المقياس الجليل والميزان القويم.

فليس من الحرية إخضاع ثوابت هذا الدين للاستبْيان واستطلاع الرأي، كما يحدث في بعض القنوات الفضائية أو المواقع الالكترونية أو الصحف.. حيث تطرح أحد ثوابت الدين للنقاش، من أمثال: ما رأيك في نظام المواريث الإسلامي؟ هل توافق على منع تقديم الخمور للسائحين؟ هل يمكن أن تجبر زوجتك أو ابنتك على ارتداء الحجاب؟...

وأمثال هذه التساؤلات التي هي من ثوابت الدين ولا مجال للرأي فيها، أو حتى فتح بابا للنقاش والحوار بين مَن يعلم ومَن لا يعلم، لأن الإسلام بالأصل هو مرجع لكلّ نقاش وكلّ خلاف، كما قال تعالى مبينًا ذلك في كتابه: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [الشورى: 10]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: 59].

ثمَّ إنَّ هذا تعدٍّ على حكم الله تعالى ورسوله -صلَّى الله عليه وسلَّم- كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا} [الأحزاب: 36]، وقال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور:51].

ثمَّ إنَّه طريق إلى الفتنة، وخَلخَلة صفوفِ الأمّة، وإيجاد الفرقةِ بين أبنائها، وإحداثِ ما يقطَع صلةَ الأمّةِ حاضرَها بماضيها، ويجعَلها متنكِّرةً لماضيها مخالِفَة له.

وعن الحرية الفنية يقول الأستاذ مصطفى عاشور: "من الأعمال التي ظهرت في مصر –مثلاً- فيلمان قصيران الأول بعنوان "الأسانسير" ويحكي قصة فتاة محجبة تعطل بها الأسانسير، ثم تتلقى مكالمة تلفونية، وتتطرق بعد فترة إلى مسائل ساخنة (جنسية)، وينتهي الأمر بأن تخلع تلك الفتاة حجابها، أما الفيلم الثاني فهو "الجنيه الخامس" ومدته (14) دقيقة ويصور مشاهد مبتذلة بين فتاة محجبة وشاب داخل أتوبيس يجوب القاهرة!!

ويسعى الفيلمان لتصوير المشاعر الجنسية المكبوتة لدى المحجبات، وسهولة تخليهن عن الحجاب وربما عن العفة مع أول نداء للجنس، حيث إن الفيلمين بيّنا أن العلاقة الساخنة التي وقعت بين المحجبة عبر التلفون في فيلم الأسانسير كانت مصادفة، كما أن العلاقة المادية الساخنة التي نشأت بين المحجبة وبين الشاب في "الجنيه الخامس" كانت مع شاب لا تعرفه، ولكنه تشجع وبدأ في إثارة غرائزها!!

أما فيلم "ماروك" بالمغرب، فقد كان أشد الأفلام سخونة وإثارة للجدل، ليس في الأوساط الدينية والمجتمعية، ولكن أيضاً في الوسط الفني والنقدي المغربي، وكذلك في الوسط السياسي. ويحكي الفيلم قصة حب ساخنة جداً بين فتاة مسلمة منفلتة للغاية من الطبقة الراقية المغربية المتأثرة بفرنسا وتسمى "غيثة" وبين شاب يهودي يدعى "يوري"، لكن الأحكام الإسلامية والتقاليد المغربية تحول دون زواجهما، رغم العلاقة غير الشرعية التي نشأت بينهما، وينتهي الفيلم بموت "يوري" في حادث سير ليكون ضحية التقاليد التي حالت بين زواج مسلمة بيهودي.

وما طرحه الفيلم من أحداث درامية وتوظيف للسيناريو والمشاهد، يشير إلى معانٍ أخرى، ويمكن أن نركزها في النقاط التالية:

  • دارت معظم مشاهد الفيلم أثناء الليل، وفي شهر رمضان على وجه التحديد، وكان الأذان للصلاة خلفية حاضرة في بعض المشاهد التي تصور حالة المجون الموجودة في الملاهي، بل وأثناء ممارسة بعض العاشقين للجنس في السيارات، وهو ما يشير إلى وجود حالة من الانفصال بين القيم والرغبات في المجتمع، وحالة من البرود الشديد تجاه القيم الإسلامية، حتى إن "غيثة" التي كانت تفطر في رمضان بحجة أنها حائض، وكانت تختار وقت الإفطار لكي تمارس الرذيلة مع يوري، وكأنها تقول: "إن الجميع مشغولون بإشباع البطون أما أنا فمشغولة بممارسة الحب"، ويومئ أيضاً بلحظات الغفلة التي تصيب المسلمين عندما يحضر وقت الإفطار في رمضان، حتى إنهم يغفلون عن تحسس بناتهم ولا يدرون بخروجهن.
  • صوّر الفيلم المغاربة على أنهم إما خدم أو ممن يعملون في الأعمال الدنيئة أو حتى يتناولون الحشيش، كما أن غالبيتهم منفصل عن روح القيم الإسلامية، فمثلاً حارس يصلي بينما هناك ممارسة للجنس بجواره في السيارات.
  • أظهر الفيلم "يوري" اليهودي بصورة إيجابية عالية للغاية، فهو متمسك بهوديته، ويهدي إلى "غيثة" النجمة اليهودية، كما أنها تقسم عليه بالتوراة التي يحترمها للغاية، و"يوري" متفوق يتغلب على غيره في المسابقات، وأخيراً مات في حادث سير، ليكون ضحية الحب، وليترك القضية بدون حل، بل ليترك ألماً في نفس "ماوو" أو "محمد" شقيق "غيثة" المتدين الذي وقف حائلاً أمام زواجهما.

ومن غريب التعليقات على أمثال هذه الحرية الإعلامية الشوهاء رفع البعض شعار "ثقافة المناعة، لا سياسة المنع" وهذا قول حق أريد به باطل، فنحنُ لا نقول بإهمال المناعة، وتحصينِ العقول، وزيادةِ ترسانة الوعي لدى الفرد، وتدعيم الحصانة الإعلامية لدى المتلقي؛ ولكنَّنا ضد تأجيج الشهوات، وقذف بالمجتمع الباطل، وإغارة سافرة على ثوابت الدين، ودعوة للمجون والحرية السافرة التي لا هّم لأصحابها إلا الظهور أمام الغير من المستغْربين والغرب أنَّه انفتاحي العصر، مروني السّلوك، عقلاني النَّظرة، لا يعارض الغير وإن كان كافرًا، ويقلِّده وإن كان ملحدًا أو مشركًا.

ولله درُّ رويم بن أحمد -رحمه الله- إذ يقول: "إذا وهب الله لك مقالًا وفعالًا فأخذ منك المقال وترك عليك الفعال؛ فلا تُبال فإنها نعمة، وإن أخذ منك الفعال وترك عليك المقال؛ فنُحْ على نفسكَ فإنها مصيبة، وإن أخذ منك المقال والفعال فاعلم أنها نقمة".

أما من يدعوا إلى "حرية منضبطة" فأي ضابط يمكن أن يضبط الحرية، خاصة وأن الليبرالي له ضوابطه، والشيوعي له ضوابطه، بل والملحد له ضوابطه، ولكن الأحسن أن يقال: "حرية منضبطة بضابط الشرع"، حرية ربانية الضابط، لأنه لا أصدق ولا أطهر من ضابط الوحي {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً} [النساء:122] {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثاً} [النساء:87]

نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فمن ابتغى العزة في غيره أذله الله، ولذلك يقع العبء الأكبر على رجال الإعلام الإسلامي ليقدموا للناس إعلاما حرا بمعنى الكلمة، إعلاما يأخذ بالفضائل ويطرح الرذائل، ويقود الناس للتي هي أقوم، وما أنبلها من مهمة، وما أعظمها من رسالة.

خالد سعد النجار

كاتب وباحث مصري متميز

  • 1
  • 0
  • 3,716

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً