أعمال القلوب - [12] الرضا 2-3

منذ 2015-12-19

الرضا شأنه عظيم وأمره كبير ومنزلته في الدين عالية، هذا الرضا عليه مدار أمورٍ كثيرةٍ من الأمور الصالحات، هذا الرضا الذي هو من منازل السائرين والسالكين، ما حكمه؟ هل هو واجبٌ؟! أم مستحبٌ؟!

الرضا شأنه عظيم وأمره كبير ومنزلته في الدين عالية، هذا الرضا عليه مدار أمورٍ كثيرةٍ من الأمور الصالحات، هذا الرضا الذي هو من منازل السائرين والسالكين، ما حكمه؟ هل هو واجبٌ؟! أم مستحبٌ؟!

قال شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله: "وأما الرضا فقد تنازع العلماء والمشايخ من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم في الرضا بالقضاء، هل هو واجبٌ أو مستحبٌ على قولين: فعلى الأول يكون من أعمال المقتصدين، وعلى الثاني يكون من أعمال المقرَّبي. والخلاصة: أن أصل الرضا واجب ومنازله العليا مستحبّة. والرضا له أصلٌ ومراتبٌ أعلى من الأصل. فيجب الرضا من جهة الأصل، فالذي ليس عنده رضا عن الله والدين والشرع والأحكام فهذا ليس بمسلمٍ، فلابد لكلِّ مسلمٍ موحّدٍ يؤمن بالله واليوم الآخر من درجةٍ من الرضا، أصل الرضا لابد أن يكون متوفّرًا؛ لأنه واجبٌ، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «ذاقَ طعمَ الإِيمانِ مَنْ رَضِىَ باللهِ ربًّا، و بِالإسلامِ دِينًا، و بِمُحمدٍ رسولًا» [صحيح الجامع:3425]".

قال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]، وهذا هو الرضا {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [التوبة:59]، {ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:28]

حتى المنهيّات لابد أن نفهم ما معنى الرضا بالمنهيّات؟! لا يُشْرَع الرضا بالمنهيّات طبعًا، كما لا تُشْرَع محبتها؛ لأن الله لا يرضاها ولا يحبها، والله لا يحب الفساد ولا يرضى لعباده الكفر، وهؤلاء المنافقين يُبَيّتون ما لا يرضى من القول، بل اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم.

فالرضا الثابت بالنص هو أن يرضى بالله ربًا و بالإسلام دينًا و بمحمدٍ صلى الله عليه و سلم نبيًا، يرضى بما شرعه الله لعباده من تحريم حرامٍ أو إيجاب واجبٍ أو إباحة مباحٍ، يرضى عن الله سبحانه وتعالى ويرضى عن قضائه وقدره ويحمده على كل حالٍ و يعلم أن ذلك لحكمةٍ، وإن حصل التألم بوقوع المقدور، فإن قال قائل: لماذا يحمد العبدُ ربَّه على الضراء؟ إذا مسّه الضراء؟ فالجواب من وجهين:

1- أن تعلم أن الله أحسنَ كل شيءٍ خلَقه وأتقنَه، فأنت راضٍ عما يقع في أفعاله؛ لأن هذا من خلقه الذي خلقه ، فالله حكيم لم يفعله إلا لحكمةٍ.

2- أن الله أعلم بما يصلحك وما يصلح لك من نفسك، واختياره لك خيرٌ من اختيارك لنفسك. فالمسلم في أذكار الصباح والمساء وفي أذكار الأذان بعد "أشهد أن محمدًا رسول الله" الثانية يقول: "رضيتُ بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًا". رضا بربوبيته سبحانه و رضا برسوله صلى الله عليه وسلم والانقياد والتسليم ولذلك من حصلت له هذه الأمور الأربعة: الرضا بربوبيته وألوهيته سبحانه والرضا برسوله والانقياد له والرضا بدينه والتسليم له فهو الصدِّيق حقًا.وهي سهلةٌ بالدعوى، و لكن ما أصعبها عند الامتحان!!!

أما الرضا بالله: فيتضمّن الرضا بمحبته وحده والرضا بعبادته وحده أن تخافه وحده ترجوه وتتبتّل إليه وتتذلل إليه عز وجل وتؤمن بتدبيره وتحب ذلك وتفرده بالتوكل عليه والاستعانة به وتكون راضيًا عما يفعل عز وجل فهذا رضا بالله، ترضى بما قدّر و حكم، حَكَم أن الزنا حرامٌ، وأن الربا حرامٌ، و أن بر الوالدين واجبٌ، وأن الزكاة فرضٌ، فيجب أن ترضى بحكمه، قدّر عليك أشياء من فقرٍ، وضيق حالٍ، فيجب أن ترضى.

الرضا بمحمدٍ صلى الله عليه و سلم نبيًا: أن تؤمن به وتنقاد له وتستسلم لأمره ويكون أولى بك من نفسك، وأنه لو كان موجودًا صلى الله عليه وسلم ووجِّهَ إليه سهمٌ وجب عليك أن تتلقاه عنه وأن تفتديه بنفسك، وأن تموت فداءً له. وترضى بسنّته فلا تتحاكم إلا إليها. ترضى بسنّته فلا ترجع إلا إليها ولا تُحَكِّم إلا هي.

الرضا بالإسلام دينًا: فما في الإسلام من حكمٍ أو أمرٍ أو نهيٍ فإنك ترضى عنه تمامًا وليس في نفسك أيّ حرجٍ وتُسَلِّم تسليمًا كاملًا لذلك ولو خالف هواك ولو كان أكثر الناس على خلافه ولو كنتَ في غربةٍ ولو كانت عليك الأعداء مجتمعون فيجب أن ترضى بأحكام الدين وتسعى لتنفيذها وإن خالفتَ العالم.

سؤال: الرضا هل هو شيءٌ موهبيٌّ أم كسبيٌّ؟ أي: هل يُوهَبُ من الله أم يمكن للعبد تحصيله ؟ هل هو فطريٌّ أم العبد يُحَصِّل هذا بالمجاهدة ورياضة النفس إذا روَّض نفسه ؟!!

الرضا كسبيٌّ باعتبار سببه، موهبيٌّ باعتبار حقيقته. فإذا تمكن العبد في أسباب الرضا وغرس شجرة الرضا في قلبه جنى الثمرة. لأن الرضا آخر التوكل. بعدما يعجز التوكل يأتي الرضا. والذي ترسخ قدمه في طريق التوكل ينال الرضا. لأن بعد التوكل والتسليم والتفويض يحصُل الرضا، وبدونها لا يحصل الرضا.

ولذلك لو قال أحدهم: نريد تحصيل الرضا، نقول له: يجب أن يكون لديك توكلٌ صحيحٌ وتسليمٌ وتفويضٌ ثم ينتج الرضا بعد ذلك. ولذلك لم يُوجِب الله على عباده المنازل العالية من الرضا؛ لأن ذلك شيءٌ صعبٌ جدًا، و أكثر النفوس ربما لا يحصُل لها ذلك. فالله ندب إليه ولم يوجبه، ليس أساس الرضا وإنما ما فوق ذلك، فإذا حصل للعبد شيءٌ فإنه لابد أن يكون محفوفًا بنوعيه من الرضا: رضا قبله، ورضا بعده. وكذلك الرضا من الله عز وجل عن العبد إنما هو ثمرة رضا العبد عن الرب سبحانه، فإذا رضيتَ عن الله رضي الله عنك. والرضا باب الله الأعظم وجَنة الدنيا ومُسْتَراح العارفين وحياة المحبين ونعيم العابدين وهو من أعظم أعمال القلوب.

قال يحيى بن معاذ لما سئل: متى يبلغ العبد إلى مقام الرضا؟ قال: "إذا أقام نفسه على أربعةِ أصولٍ يُعامِل بها ربه، يقول: إن أعطيتني قبلتُ، وإن منعتني رضيتُ، وإن تركتني عبدتُ، وإن دعوتني أجبتُ". والرضا إذا باشر القلب؛ فإنه يدل على صحة العلم وليس الرضا والمحبة كالرجاء والخوف، فمن الفروق أن أهل الجنة مثلًا لا يخافون في الجنة ولا يرجون مثل رجاء الدنيا. لكن لا يفارقهم الرضا أبدًا. فإن دخلوا الجنة فارقهم الخوف {فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:38].في الدنيا هناك خوف، إذا دخلوا الجنة زال الخوف، أما الرضا فلا يزول، خارج الجنة وداخلها. الخوف والرجاء في الدنيا ليس موجودًا عند أهل الجنة يفارقون العبد في أحوال".

أما الرضا فلا يفارق العبد لا في الدنيا ولا في البرزخ ولا في الآخرة ولا في الجنة، ينقطع عنهم الخوف؛ لأن الشيء الذي كانوا يخافونه أمِنوه بدخولهم الجنة، وأما الشيء الذي كانوا يرجونه فقد حصل لهم، أما الرضا فإنه لا يزال معهم وإن دخلوا الجنة: معيشتهم راضيةٌ وهم راضون، ورضوا عن الله، وراضون بثوابه وما آتاهم في دار السلام.

 سؤال: هل يشترط أن الرضا إذا حصل لا يكون هناك ألمٌ عند وقوع مصيبة؟!

الجواب: ليس من شروط الرضا ألا يحس العبد بالألم والمكاره، بل من شروط الرضا عدم الاعتراض على الحكم وألا يسخط، ولذلك فإن الرضا لا يتناقض مع وجود التألم وكراهة النفس لما يحصل من مكروه. فالمريض مثلًا يرضى بشرب الدواء مع أنه يشعر بمرارته ويتألم لمرارته، لكنه راضٍ بالدواء مطمئنٌ بأخذه مقبلٌ على أخذه، لكنه في ذات الوقت يَطْعَم مرارة الدواء. الصائم رضي بالصوم وصام وسُرَّ بذلك، لكنه يشعر بألم الجوع، هل بشعوره بألم الجوع يكون غير راضٍ بالصيام ؟! لا، هو راضٍ بالصيام ويشعر بالجوع. المجاهد المخلص في سبيل الله راضٍ عند الخروج للجهاد، ومُقْدِمٌ عليه، مقتنع به، لكن يحس بالألم والتعب والغبار والنعاس والجراح. إذًا لا يشترط أن يزول الألم والكراهية للشيء إذا حصل الرضا، لكن بعض أصحاب المقامات العالية جدًا يستلذّون بالألم إذا حصل في الجهاد أو الصيام. لكن لا يشترط أن الفرد إذا أحس بالألم في العبادة أن يكون غير راضٍ، ليس شرطًا.

وطريق الرضا طريقٌ مختصرٌ قريبةٌ جدًا، لكن فيها مشقةٌ، وليست مشقتها أصعب من مشقة المجاهدة، ولكن تعتريها عقبتان أو ثلاث: 1- همةٌ عاليةٌ، 2- نفسٌ زكيّةٌ، 3- توطين النفس على كل ما يَرِدُ عليها من الله تعالى، ويسهُل ذلك على العبد إذا عرف ضعفه وقوة ربه، وجهله وعلم ربه، وعجزه وقدرة ربه، وأن الله رحيمٌ شفيقٌ به، بارٌّ به، فهو البرُّ الرحيم. فالعبد إذا شهد هذه المقامات رضي، فالله عليمٌ حكيمٌ وهو رؤوفٌ، وهو أعلم بما يُصْلِح العبد من العبد، وتوقن أن ما اختاره لك هوالأفضل والأحسن.

أحياناً هناك مقاماتٌ إيمانيةٌ يبلغها الإنسان بقلبه ويأخذ بها أجرًا عظيمًا يرتقي بها عند الله وهي عبارةٌ عن تفكّراتٍ، يفكّر فيها فيهتدي إليها فيأخذ بها فيحصل على المطلوب فلم يبذل جهدًا بل هي أشياءٌ تأمليةٌ. فالتفكّر من أعظم العبادات، فإذا تفكّر العبد أن ما يختاره له ربه هو الأحسن والأفضل، فإذا آمن بها الإنسان رضي.

وتحصيل الرضا غير معقّدٍ، كيف؟!

أن تؤمن بأن ما اختاره الله لك وقدّره عليك هو أحسن شيءٍ لك، سواءً كان موتُ ولدٍ أو مرضٍ أو تركُ وظيفةٍ، لكن أنت قد تجهل لماذا هو أحسن شيءٍ!! أنت لا تعلم لماذا لو أعطاك ليس مصلحتك!! أنت في حال الفقر لا تعلم لماذا ليس في مصلحتك أن تحصّل المال وهكذا، فنتيجة إذا اعترف العبد بجهله وآمن بعلم ربه وأن اختياره له أولى وأفضل وأحسن من اختياره لنفسه. فطريق المحبة والرضا تسير بالعبد وهو مستلقٍ على فراشه فيصير أمام الركب بمراحل!! هناك أناسٌ يعملون ويجهدون وصاحب الرضا بعبادته القلبية يسبقهم بمراحل،

وهم من خلفه مع أنه على فراشه وهم يعملون؛ لأنه راضٍ عن الله ويتفكّر في هذا الأمر ويؤمن به فيقترب من الله وأناسٌ لم يصلوا لهذا المستوى ويعملون ويجهدون، لذلك أعمال القلوب مهمةٌ جدًا؛ لأن المرء يمكن يبلغ بها مراتب عند الله وهو قاعدٌ، وهذا لا يعني ألا يعمل ولا يصلي، وقد يكون هناك أناسٌ آخرين أكثر منه عملًا (صيام ــ صدقة ــ حج)، لكنهم أقل منه درجةً، لماذا؟!!

لأنك بهذا العلم بأعمال القلوب قد تحصّل مراتب عند الله أكثر منهم؛ لأن عمل القلب نفسه يرفع العبد في كثيرٍ من الأحيان أكثر من عمل الجوارح،فأبو بكر ما سبق أهل هذه الأمة لأنه أكثرهم صلاةً وقيامًا في الليل، هناك أناسٌ أكثر منه في عمل العبادات والجوارح، لكن سبقهم بشيءٍ وَقَرَ في نفسه.

الرضا عن الله لو تحققت في صدر العبد؛ تميز بين مستويات العباد و ترفع هذا فوق هذا، ينبغي التفطّن لها، كما تعمل بالجوارح هناك أعمال قلوبٍ لا تقل أهميةً بل هي أعلى منها، مع الجمع بين الواجب من هذا وذاك. ولكن قد يدرك الإنسان أحيانًا بتفطّنه وتأمله وتفكّره وإيمانه مراتب أعلى من الذي أكثر منه عملًا بالجوارح، ولذلك يقول ابن القيّم: "فطريق الرضا و المحبة تسيّر العبد وهو مستلقٍ على فراشه فيصبح أمام الركب بمراحل".

خالد أبو شادي

طبيبٌ صيدليّ ، و صاحبُ صوتٍ شجيٍّ نديّ. و هو صاحب كُتيّباتٍ دعويّةٍ مُتميّزة

  • 2
  • 0
  • 27,858
المقال السابق
[11] الرضا 1-3
المقال التالي
[13] الرضا 3-3

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً