المنفلوطي والشاب الظريف وظلم ذوي القربى

منذ 2015-12-27

ليس لقِدَمِ العهدِ يُفضَّل القائل، ولا لحدثانِ العهد يُهتضَمُ المصيب، ولكن يُعطَى كل ذي حقٍّ حقَّه.

قال شيخنا الأديب الأريب مصطفى لطفي المنفلوطي في مقالة له بعنوان: (خداع العناوين): "لقد جهل الذين قالوا: إن الكتاب يُعرَف بعنوانه، فإني لم أرَ بين كتب التاريخ أكذبَ من كتاب (بدائع الزهور) ولا أعذبَ من عنوانه، ولا بين كتب الأدب أسخفَ من كتاب (جواهر الأدب) ولا أرقَّ من اسمه، كما لم أرَ بين الشعراء أعذبَ اسمًا وأحطَّ شعرًا من ابن مليك، وابن النبيه، والشاب الظريف".[1] انتهى.

فهالني هذا القول الذي لم أرَ فيه من الإنصاف ما عهدته من هذا الرجل الذي كان عفيفَ اللسان، أنيقَ البيان، منصفًا في غير شَطَطٍ ولا مبالغة... وسأناقشه هنا مع احترامي الشديد له في قوله عن (الشاب الظريف) الذي لم يَرَ أعذبَ من اسمه، وأحطَّ من شعره، وهو كلام بعيد كلَّ البعد عن الإنصاف والنقد الصحيح، وكم كنت أتمنَّى لو يعرض لنا مواطنَ النقص والضعف في شعره الذي رماه بهذا الحكم القاسي؛ لعلَّنا نقتنع أو نجيل النظرَ فيما قال؛ فنكون على بيِّنة من أمرنا، أو يذكر لنا الدافعَ الذي جعله يطلق هذا الكلام بهذه الصورة القاتمة، ولكنه للأسف الشديد لم يفعل، وليته ذكر محاسنَه ومساوئه؛ كما فعل الصَّفَدي رحمه الله الذي ترجم له قائلًا:

شاعر مجيدٌ ابنُ شاعر مجيد، وكان فيه لَعِب وعشرة وانخلاع؛ وذلك لما ورد في ديوانه من مقطعات صغيرة تجاوز فيها الحدَّ الذي يقف عنده كلُّ تقيٍّ وَرِع، ولكننا مع ذلك نجد له بعضَ الأبيات في مديح النبي صلى الله عليه وسلم تُؤكِّد حبَّه للنبي صلى الله عليه وسلم، وصحَّة اتباعه لتعالميه.[2]

قلت: ولعل شيخَنا المنفلوطيَّ أغلظَ له في القول لهذا السبب، ربما كان يراه ماجنًا، قليلَ الحياء، رقيقَ الدين، كثيرَ العبث واللهو في بعض أشعاره، وإلا فها هم كبار العلماء والأدباء يصفونه بأنه شاعرٌ مجيد؛ كما قال الصَّفَدي، أو كما قال ابن العماد الحنبليُّ في (شذرات الذهب) في وفيات سنة ثمان وثمانين وستمائة: كان ظريفًا لعابًا معاشرًا، وشعره في غاية الحسن[3].

وشاعر مُترقق، شعره مقبول، كما قال العلامة الزركلي فيما سنعرضه بعد قليل، وقد نتفق معه لو قيد هذا الحكم وربطه بذوقه، فالأذواقُ تختلف كما لا يخفى، فما لم يُصادِف هوًى في فؤاده وفي ذوقه هو، قد يذهب غيره من الناس في الثناء عليه كلَّ مذهب، وهذا شيء معروفٌ ليس من الحكمة الإسهاب فيه هنا، والحال كما قال الكاتب عبدالحكيم خيران في مقالة له بعنوان: (ولقواعد النقد أيضًا شواذ): ربما كانت معضلةُ البحث مكمنها في إصدار الأحكام الإطلاقيَّة والتعميم، فالمُسلَّم به أن لكلِّ قاعدة شواذَّ، فكيف إذا كان الرأي والحكم مبنيَّيْنِ على محضِ الاستقراء، أو الانطباع على نحو لا ينهضُ الدليل على صحته في الأصل.

يقول الزِّرِكلي: محمد بن سليمان بن علي بن عبدالله التلمساني، شمسُ الدين المعروف بــ(الشاب الظريف)، ويقال له: ابن العفيف، شاعرٌ مُترقق، مقبولُ الشعر. وهو ابن عفيفِ الدين التلمساني الشاعر أيضًا، ولد بالقاهرة، لما كان أبوه صوفيًّا فيها بخانقاه سعيد السعداء، وولي عمالة الخزانة بدمشق، وتُوفِّي بها، له (ديوان شعر - ط) و(مقامات العشاق - خ) رسالة في ورقتين[4].

قلت: فالزركليُّ شاعرٌ، وناقد، ومُتذوِّقٌ، وأحكامه معتدلة، ومَن يطالع موسوعتَه "الأعلام"، سيدرك ذلك لا محالةَ، إذًا فقوله: (شاعر مترقق، مقبول الشعر) ليس حبرًا على ورق، أو إطلاقَ الحكم على عواهنه دون روية أو بصيرة؛ فكثيرًا ما يقول في بعض الشعراء أقوالًا تدلُّك على احترافية الرجل، وطولِ باعِه في مجال النقد والشعر، يقولُ مثلًا: (فلان له نظم كثير، ولكنه ليس بشاعر)، فهو لا يُحابي ولا يجامل، ولا يظلم أحدًا فيما هو من اختصاصه، ولكنه لم يقل هذه العبارة أو مثلها في الشاب الظريف، ولم يبخسْه حقَّه - كما فعل أستاذنا المنفلوطي - وإني أعلمُ يقينًا أن الزركليَّ أعلمُ وأحكم وأسلم من المنفلوطي بمراحل، وهذا شيء لا أظن أحدًا سيخالفني الرأي فيه، على الرغم من تقدم المنفلوطي على الزركلي في السنِّ وفي ميدان الأدب، وجزى الله الإمامَ أبا العباس المبرِّدَ الذي قال في كتابه (الكامل في اللغة والأدب): وليس لقِدَمِ العهدِ يُفضَّل القائل، ولا لحدثانِ العهد يُهتضَمُ المصيب، ولكن يُعطَى كل ذي حقٍّ حقَّه.

تقول إحدى الباحثات في مقالة لها على مجلة العربي: وشاعرُنا امتلك موهبة شعرية عالية؛ حلَّقت به بعيدًا عن عصره برفقة مجموعة من مُجايليه من الشعراء والأدباء الآخرين... شاعرنا هو الشاب الظريف، هكذا عُرف في كتب الأدب وبين محبِّي الشعر، فقد رحل عن دنيانا شابًّا ولم يَكَدْ يبلغ السابعةَ والعشرين من عمره، بعد أن ملأ أجواء القاهرة والشام بشعره وترققه وتظرفه، فكان بحق هو الشاب الظريف في ديوان الأدب العربي، أما اسمُه في التاريخ فهو محمد بن سليمان بن علي بن عبدالله التلمساني.

ولد الشاب الظريف في مدينة القاهرة في العام 661 هـ (1263م)، أما دمشق فقد كانت مرتعَ الطفولة ومهدَ الصِّبا ومكان الدراسة الأول، فقد تلقَّى دروسه الأولى في تلك المدينة العريقة، حيث كان أبوه عاملًا على خزانة المال فيه؛ ولأن والده من أهل العلم المعروفين، فقد تتلمذ الفتى في البداية على يدي والده قبل أن يستشعر حاجتَه لمصدر مختلف، فقصَدَ أهل العلم والأدب، ومن أشهرهم ابنُ الأثير الحلبي؛ ليتعلَّم على أيديهم في سنٍّ مبكرة علومًا مختلفة، ظهرت آثارها واضحة جليَّة عبر قصيده الذي ازدحم بالمحسِّنات البديعية على عادة شعراء العصر كله آنذاك، ولكن هذه المحسِّنات لم تنجح في طمس عُذوبة شاعريَّته التي تبدَّت في غزله الشعري الفاتن، ومدائحه فيمن اتصل بهم من مسؤولي الدولة، لكن مديحَه النبويَّ ذا العاطفة المتأججة في نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم - هو درة ديوانه الشعري - كما يبدو لنا [5].

قال ربيع: ومن ملاحظاتي على كتاب النظراتِ للأستاذ المنفلوطي أنه دبَّج مقالة طويلة يرثي فيها عدوَّ المسلمين، العابث بتراثهم، الكاذب على تاريخهم، الطاعنَ في أسيادهم، المدعو جرجي زيدان، فمن الغريب حقًّا أن يرميَ الشابَّ الظريف وغيره من المسلمين بمنجنيق الثَّلْب والذمِّ، ويَسْلم منه هذا النصرانيُّ المقبوح الذي ذهب في مدحه والثناء عليه مذهبَ مَن لا يفرِّق بين عقيدة الكفار وعقيدة المسلمين، فخذ مثلًا قوله هذا الشنيع، وقِس عليه المقالةَ كلها فهي على هذا المنوال تسير: مات جرجي زيدان، فنحن نبكيه جميعًا، أما هو فيبتسمُ لبكائنا، ويرى في تفجُّعنا عليه والْتياعِنا لفراقه منظرًا من أجمل المناظر وأبهاها؛ لأنه يعلمُ أن هذه الدموع التي ترسلها أجفاننا وراءَ نعشه أو فوق ضريحِه إنما هي ألسنة ناطقة بحبِّه، وإعظامه والاعتراف بفضله والثناء على عمله، وأنها المددُ الإلهي النورانيُّ الذي تكتب به في صحيفة تاريخه البيضاء آياتُ مجدِه الخالد، وعظمته الباقية، وذلك ما كان يريد أن يكون.

وقال: "كان بطلًا من أبطال الجدِّ والعمل والهمة والنشاط، يكتب أحسنَ المجلَّات، ويُؤلِّف أفضل الكتب، وينشئ أجمل الروايات، ويُناقِشُ ويناضل ويبحث وينقِّب ويستنتِجُ ويستنبط، ويجيب السائل، ويفيد الطالبَ في آنٍ واحد، لا يشغله أمرٌ من تلك الأمور عن أمر غيره، ولا يشكو مللًا ولا ضجرًا، ولا يحس بخَوَرٍ ولا فتور" [6].

قال ربيع: أبعدتَ النُّجْعةَ يا شيخ، وتجاوزت الحدَّ، وبالغت مبالغةً لا تليق بأمثالك من الكتاب الفضلاء غفر الله لك، ورحم الله أستاذنا الدكتور صبحي الصالح الذي نطق بالحقِّ في مقدمة كتابه الرائد (دراسات في فقه اللغة): وكان في جرجي زيدان عيب أقبح يتمثل في سطحيَّة علمه بهذه الأمور- إن صحَّ التعبير - وفي تطفُّله على ميدان اللغة - كما كان شأنه في أكثر الميادين - فما من بحثٍ إلا خاض فيه، ولم يكن في واحد منها من أهليه"[7].

وفي الختام يروق لي أن أثبِتَ في هذه الورقات رائعةً من روائع شاعرنا الشاب الظريف، وأترك الحكم للقارئ الكريم، ومن أراد المزيد فعليه بديوانه الجميل بتحقيق الأستاذ شاكر هادي شكر.

لي من هواك بعيده وقريبه
ولك الجمال بديعه وغريبُه
يا مَن أعيذ جمالَه بجلاله
حذ رًا عليه من العيون تصيبُه
إن لم تكن عيني فإنك نورُها
أو لَمْ تكنْ قلبي فأنت حبيبُه
هل حرمةٌ أو رحمةٌ لمتيَّمٍ
قد قلَّ فيك نصيرُه ونصيبُه
أَلِف القصائد في هواك تغزُّلًا
حتى كأنَّ بك النسيبَ نسيبُه
هبْ لي فؤادًا بالغرام تُشِبُّه
واستبقِ فودًا بالصدودِ تُشِيبُه
لم يبقَ لي سرٌّ أقول تذيعُه
عني، ولا قلب أقول تُذيبُه
كم ليلة قضَّيْتها متسهِّدًا
والدمع يجرحُ مقلتي مسكوبُه
والنجم أقرب من لقاك منالُه
عندي وأبعدُ من رضاك مغيبُه
والجو قد رقَّت عليَّ عيونه
وجفونه، وشماله، وجنوبُه
هي مقلةٌ سهم الفراق يصيبُها
ويسحُّ وابل دمعِها فيصوبُه

_________________________

[1] "النظرات" ج 2 ص: 62.
[2] في كتابه العظيم : "الوافي بالوفيات" ج 3 ص: 129.
[3] "شذرات الذهب في أخبار من ذهب" ج 5 ص: 405.
[4] "الأعلام" ج 6 ص: 150.
[5] العدد 659، ص: 38.
[6] النظرات" ج3 ص: 74.
[7] دراسات في اللغة ص: 11، طبعته دار العلم للملايين.

ربيع بن المدني السملالي

كاتب و أديب إسلامي مغربي

  • 11
  • 0
  • 20,537

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً