لماذا نقرأ التاريخ؟

منذ 2016-01-13

إن علينا أن نبتعد عن التعامل مع التاريخ وكأنه حكايات للتسلية، وقصائد صاغها الزمان في مدح فرد أو جماعة، وطن أو أمة

تدأب غالبية الناس في العالم المسلم على الطريقة العجائزية في التعامل مع التاريخ؛ طريقةِ السرد من أجل التسلية والتمجيد. بل إن هناك كثيرين -ومن النخب للأسف- يتعاملون مع التاريخ بطريقة تخيله مصدرًا لإيقاظ الثارات، وتأزيم الحاضر، وحرق المستقبل!

وقليلون في عالمنا من يتعاطون مع التاريخ بطريقة يقظة إيجابية، فيتجاوزون السرد السطحي، والثناء المبالِغ، والاستغلال التوتِيري، عابرين إلى التأمل والتركيب والتحليل، قصْد استثمار المخزون التاريخي، لصالح الإنسان وقضاياه في الحاضر والمستقبل.

إنه لجدير بنا تجاه هذا التاريخ -تاريخنا الإسلامي بالدرجة الأولى- الغني بالمعطيات الهائلة، والطاقات الجبارة، أن نقرأ ما وراء الحروف، وما بين السطور، وأن نعمل جهدنا لجعله فاعلًا في حياتنا الخاصة والعامة، بأفضل وجه ممكن.

ورغم أن مقاصد قراءة التاريخ -أيِّ تاريخ- تدبَّج فيها الأسفار فلا تسعها، إلا أن ثمة مقاصد بارزة، وثمارًا عظيمة لقراءة التاريخ يمكن أن نجملها في النقاط الأربع الآتية.

 

أولاً مِثالٌ للقدوات الصالحة:

يجد الدارس للتاريخ ثراءً فياضًا، في القُدوات المثالية، التي تمثل النموذج الحي الجذاب الدافع، لكل متطلع للسمو؛ في الأخلاق، والقيادة، والفكر، والإبداع، وفي العلم، والدعوة...!

ويأتي في مقدمة قدوات التاريخ، رسل الله وأنبياؤه عليهم السلام وورثتهم من العلماء، فهم أئمةُ كل متسامٍ لهدى الدين، وسنن التقوى، وقيم الخير {أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۖ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90].

ولأن المومن باحث عن الحكمة هو أولى بها أينما وجدها، فإن أمامه إمْكان الاقتداء بكل عظماء البشرية، وأهل الائتساء من أبنائها. فأمَامه العلماء الذين يجسدون المثال المعْجِب في الصبر والمثابرة توْقًا للاكتشاف، واستحصالًا لمعارف الحياة، وهناك القادة الملهمون الذين يحددون وجهة التاريخ، ويسيرون أحداثه، ودرْس سير هؤلاء وأمثالهم من عظماء التاريخ جميعًا، وتتبع مواقفهم، له أبْلغ الأثر في تكوين الشخصية المتميزة.

 

ثانياً مَثلٌ للاعتبار:

والاعتبار على نوعين أساسيين:

- اعتبار بالغير.

- اعتبار بالذات.

وكلاهما بمعنييهما الفردي والجماعي يشمل مجالين للاعتبار؛ مجال الاعتبار بالسبب، ومجال الاعتبار بالنتيجة. فمن اعتبر بالسبب أمكنه اتقاء الخطأ، ومن اعتبر بالنتيجة وعظَتْه أن يقارف السبب!

ومن تأمل القرآن لقيه حافلًا بكل ذلك، وبالدعوة بأسلوب آسر دافع إلى استنباط العبرة، وفهم الدرس، وتكييف الحياة وفقه.

{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف:111]، {وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ} [إبراهيم:45].

والقرآن حافل بنظائر هاتين الآيتين، تأكيدًا على أهمية الاعتبار، ونظرًا لقلة المعتبرين رغم كثرة الأسباب الباعثة على ذلك، فكأيِّن من أمة هلكت لم تكن بدعًا في الهالكين.

 

ثالثاً مداخلُ للحل:

يقرّرُ الباحثون في التاريخ، وعلماء النظر في المسيرة البشرية، -مُحقِّين- أن كلّ المشكلات التاريخية لأي أمة، أو مجتمع ترتبط على مستوى الحل بالعودة إلى مبادئ هذه المشكلات، وما رافقها من أحداث، وما يقف وراء نشوئها الأول من أسباب، فبذلك نتمكّن من الوقوف بالتحديد على الأعراض الكاشفة عن ماهية المرض التاريخي، والعوامل التي أدت إليه، وهو ما ينطبق على أي مشكل تاريخي، بغض النظر عن اندماجه في دائرة الدين أو الاجتماع أو الاقتصاد أو السياسة أو الفكر، فإن متابعة خط الانحراف رجوعًا إلى حيث بدأ، هو طريق سابلٌ نحو إدراك جوهري للمشكل، ومعرفة ما حصل بالتحديد، ولماذا حصل، وكيف يتعالج إذن!

وإن ما أمكَن قوله في أي مشكل تاريخي، من المساهمة في مواجهته بإيجاد مدخل تاريخي، للكشف عن سببه طريقا إلى حلّه هو ممكن القول في كل مشكل تاريخي، وفي أي صعيد!

 

رابعاً قواعدُ للمسار:

لا ريب أن التاريخ حين يُقرَأ بعقل كلي النظر، عميق الغوص، واقعي القصد، يمثّل مصدرًا ثريًا لاستنباط القوانين، وتجريد القواعد التي تنير مسار الجمع البشري المتشوّف للنهوض، إذ يمنح قادة الأمم والدول لياقة فكرية فريدة، في توقي الأخطاء القاتلة، ويضع في أيديهم أسلحة ماضية لمقارعة الظروف والتحديات، ويمكنهم من مقاليد القرار الموفق.

 

ويكفينا أن نشير هنا مجرد إشارة إلى بعض هذه القواعد أو النظريات التي صاغها بعض من خيرة عقول البشرية، اعتمادًا على معطيات التاريخ.

نظرية العصبية:

هذه نظرية ابن خلدون الشهيرة، ودورها العملي هو لفت نظر القادة، إلى أهمية الوعي العميق بأن الاجتماع البشري الفاعل والمتسالم والمذعن للنظام، لا يمكن أن يتحقق إلا بالحفاظ على قضية جامعة للمجتمع، يحس بكل مكوناته التعصبَ لها، والانتماء إليها.

 

نظرية القابلية للاستعمار:

في لحظة من أحلك لحظات العرب والمسلمين تخلفًا، واستعمارًا، وتشتتًا قدّم مالك بن نبي رحمه الله نظرية القابلية للاستعمار، والتي تكمن أهميتها في تحويل نظر الساعين للإصلاح الإسلامي للتركيز على مواجهة عيوب الذات المسلمة التي هيأتها لاستعمار العدو، بدل التركيز على تحميل العدو كل المصائب. فهي فقه سنني في قوله تعالى: {قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا ۖ قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ} [آل عمران:165].

 

نظرية سيكولوجيا الجماهير:

طرَح هذه النظرية الفرنسي جوستاف لوبون، ولقيتْ قبولًا واسعًا، واهتمامًا تطبيقيًا كبيرًا. وأهميتها العملية تكمن في إيقاظها عقول قادة الرأي العام، وزعامات الدول إلى خطورة النفسية الجماهيرية، في الظروف الأمنية المضطربة، فأي خطاب تحريضي يمكن أن يقود هذه الجماهير إلى تحريك أعنف موجات التخريب، وارتكاب أفظع الجرائم، وإشعال أسوء الحروب الأهلية، بسبب نفسيتها القائمة على الرغبة في العنف، والإقصاء، والتدمير، وهشاشة وازع الضمير، وضعف مهارات التفكير، فضلًا عن سلطتها ضد الوعي بالحق.

إن علينا أن نبتعد عن التعامل مع التاريخ وكأنه حكايات للتسلية، وقصائد صاغها الزمان في مدح فرد أو جماعة، وطن أو أمة، ونحذر من التعامل معه بطريقة تسيء إلى مصير حضارنا. وفي نفس الآن علينا أن نوجه جهدا ضخمًا ومخلصًا وعميقًا للتعامل مع مخزوننا التاريخي ومع التاريخ البشري عمومًا حتى يساهم في صياغةٍ أفضلَ لحياتنا، من خلال ما يمنحنا من شحذ قابليات التميز، واستخلاص العِبَر، ومعالجة الأزمات.

  • 0
  • 0
  • 5,216

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً