خطب مختارة - [14] أصحاب الأخدود

منذ 2016-01-19

غلام صغير يبتلى ويؤذى ويُعرّضُ للقتل مرارًا؛ بل يُذهب به إلى القتل؛ فيمشي وكأنه يُزَفُّ ليومِ زفافه، غلامٌ داعية إلى الله، غلامٌ يحمل في نفسه همَّ إصلاحِ الناس، يحمل في طيَّاتِه وكوامِنَ نفسه همَّ هدايةِ الناس إلى الدّين وإلى عبادة الله وحده لا شريك له، ويجودُ هذا الغلامُ بكل وسيلةٍ وطريقةٍ لإصلاح الناس؛ حتى إذا نَفَدَ ما لديه من ذلك جاد بأعلى ما يملك؛ جاد بحياته؛ جاد بروحه؛ رجاء هداية الناس، فكان ما أراد، وثبت أتباعه كما ثبت؛ وضحوا كما ضحى، وإذا كانت النفوس كبارًا تعبت في مرادها الأجسام.

الخطبة الأولى

أيها المسلمون: سنعيش هذه الجمعة حدثًا حدث في تاريخ العالم، إنه بلاء عظيم ثبت فيه المؤمنون الصادقون، إنه الإيمان حينما تخالطُ بشاشتُه القلوب. فيُهوِّن عليها كلَّ عسير، ويُلَذِّذُ لها كلَّ صَعْبٍ وخطير. في هذا الحدث العظيم بيانٌ لما يصنعه الإيمان بالرجال؛ حتى وإن كانوا صغارًا في السن؛ وربما ازدرتهم الأعين؛ واستقلتهم النفوس.

غلام صغير يبتلى ويؤذى ويُعرّضُ للقتل مرارًا؛ بل يُذهب به إلى القتل؛ فيمشي وكأنه يُزَفُّ ليومِ زفافه، غلامٌ داعية إلى الله، غلامٌ يحمل في نفسه همَّ إصلاحِ الناس، يحمل في طيَّاتِه وكوامِنَ نفسه همَّ هدايةِ الناس إلى الدّين وإلى عبادة الله وحده لا شريك له، ويجودُ هذا الغلامُ بكل وسيلةٍ وطريقةٍ لإصلاح الناس؛ حتى إذا نَفَدَ ما لديه من ذلك جاد بأعلى ما يملك؛ جاد بحياته؛ جاد بروحه؛ رجاء هداية الناس، فكان ما أراد، وثبت أتباعه كما ثبت؛ وضحوا كما ضحى، وإذا  كانت  النفوس كبارًا تعبت في مرادها الأجسام.

روى الإمام مسلم [3005] في صحيحه عن صهيب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كان مَلِك فيمن كان قبلكم؛ وكان له ساحر؛ فلما كبر قال للمَلِك: إني قد كبرت؛ فابعث إليّ غلامًا أعلمه السحر، فبعث إليه غلامًا يعلمه، فكان في طريقه إذا سلك راهب؛ فقعد إليه وسمع كلامه؛ فأعجبه، فكان إذا أتى الساحر مرّ بالراهب وقعد إليه، فإذا أتى الساحر ضربه ضربة لأنه تأخر عليه، فشكى ذلك إلى الراهب فقال إذا خشيت الساحر فقل حبسني أهلي؛ وإذا خشيت أهلك فقل: حبسني الساحر. فبينما هو كذلك إذ أتى على دابة عظيمة (يعني: حبست جماعة من الناس)، فقال: اليوم أعلم الساحر أفضل أم الراهب أفضل؟ فأخذ حجرًا، فقال: اللهم إن كان أمرُ الراهب أحبَّ إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة؛ حتى يمضيَ الناس، فرماها (أي: بالحجارة) فقتلها ومضى الناس، فأتى الراهبَ فأخبره، فقال له الراهبُ: أي بني؛ أنت اليوم أفضل مني؛ قد بلغ من أمرك ما أرى؛ وإنك ستبتلى فإن ابتليت فلا تدلّ عليّ. وكان الغلام يُبرئ الأكمه والأبرص (ومعنى: الأكمه الذي خلق أعمى) ويداوي الناس من سائر الأدواء، فسمع جليسٌ للملِك كان قد عمي؛ فأتاه بهدايا كثيرة، فقال: ما هاهنا لك أجمعُ إن أنت شفيتني؛ فقال: إني لا أشفي أحدًا؛ إنما يشفي الله، فإن أنتَ آمنتَ بالله دعوتُ الله فشفاك، فآمن بالله ؛ فشفاه الله».

نعم، أعطاه الشفائين شفاء القلوب وشفاء الأجساد، وصف له الدواء الإيماني وثم أعطاه الدواء الجسماني، نعم، هكذا ينبغي أن يكون المجتمع بأسره يحمل هم إصلاح بعضه بعضًا؛ كلٌّ بما فتح الله عليه، فالطبيب في عيادته، والمدرس في فصله، والمهندس في عمله، والموظف في وزارته، وهكذا ينبغي أن يكون أهل الإيمان؛ بشتى مواقع أعمالهم؛ يدعون إلى الله بالحكمة والبصيرة والموعظة الحسنة، بجانب إتقان أعمالهم.

نعود إلى الحديث :«فآمن بالله (يعني جليسُ الملك)؛ فشفاه الله، فأتى الملك؛ فجلس إليه كما كان يجلس؛ فقال له الملك: من رد عليك بصرَك؟ قال: ربي، قال: ولك ربٌ غيري؟ قال: ربي وربك الله، فأخذه فلم يزل يعذّبُه؛ حتى دل على الغلام، فجيء بالغلام؛ فقال له الملك: أي بني قد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمه والأبرص، وتفعل وتفعل، (يسميها الملك سحرًا؛ وما هو إلا دعاء الله) فقال: إني لا أشفي أحدًا إنما يشفي الله، فأخذه لم يزل يعذبه حتى دل على الراهب، فجيء بالراهب فقيل له: ارجع عن دينك؛ فأبى، فدعا بالمنشار فوضع المنشار في مَفْرِقِ رأسه؛ فشقه؛ حتى وقع شقاه، ثم جيء بجليس الملك فقيل له: ارجع عن دينك فأبى، فوَضَع المنشار في مَفْرِقِ رأسه فشقه به حتى وقع شقاه».

انظروا للبلاء أيها الأخوة؛ يُوقف الرجلُ؛ فيُبدأ بالنشر من مَفْرِق رأسه حتى يقع شقاه؛ ما يرده ذلك عن دينه، سبحان الله، أي إيمان بلغ بهؤلاء حتى صبروا هذا الصبر العظيم، فأين أولئك الذين يشق عليهم حتى المجيء للمسجد للصلاة مع الناس بضع دقائق.

نعود إلى القصة: «ثم جيء بالغلام؛ فقيل له: ارجع عن دينك، فأبى، فدفعه إلى نفر من أصحابه؛ فقال: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا، فاصعدوا به الجبل؛ فإذا بلغتم ذروته؛ فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه؛ فذهبوا به؛ فصعدوا به الجبل، فقال: اللهم اكفينهم بما شئت، فرجف بهم الجبل؛ فسقطوا، وجاء يمشي إلى الملك».

أيها الأخوة؛ رجع إلى الملك؛ ليبين له أن ربُّه وربُّ الناس جميعًا هو الله، وكان بإمكانه أن يهرب؛ لكنه يؤدي مهمة عظيمة في التضحية؛ من أجل نصرة هذا الدين.

«وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟! قال: كفانيهم الله، فدفعه إلى نفر من أصحابه؛ فقال: اذهبوا به؛ فاحملوه في قرقور أي (السفينة الصغيرة)؛ فتوسطوا به البحر؛ فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه، فذهبوا به؛ فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فانكفأت بهم السفينة؛ فغرقوا، وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟! قال: كفانيهم الله، فقال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرُك به، قال: وما هو؟، قال: تجمع الناس في صعيد واحد؛ وتصلبُني على جذع؛ ثم خذ سهمًا من كنانتي؛ ثم ضع السهم في كبد القوس؛ ثم قل: باسم الله رب الغلام؛ ثم ارمني؛ فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني».

عباد الله، أيها الشباب انظروا اهتمامات هذا الغلام الصغير، تمسك بالدين ودعوة إليه؛ وتضحية حتى بالنفس من أجله، ويا للأسف من اهتمامات بعض شبابنا هذه الأيام.

«فجمع الناسَ في صعيد واحد؛ وصلبه على جذع؛ ثم أخذ سهمًا من كنانته؛ ثم وضع السهم في كبد القوس؛ ثم قال: باسم الله رب الغلام، ثم رماه فوقع السهم في صُدْغِه، فوضع يده في صُدْغِه في موضع السهم؛ فمات، فقال الناس: آمنا برب الغلام؛ آمنا برب الغلام؛ آمنا برب الغلام، فأُتي الملك؛ فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر؛ قد والله نزل بك حَذَرُك، قد آمن الناس، فأمر بالأخدود في أفواه السكك؛ فخدت؛ وأضرم النيران، وقال: من لم يرجع عن دينه فأحموه فيها»، أي: اطرحوه فيه كرهًا. وعلا لهيب النار ليغطيَ الأخدود فكانت النار على سطح الأرض؛ والناس طوابير؛ من ربك؟ فإن قال: الله، ألقوه فيها؛ أو قيل له: ألقِ نفسك، فاقتحم الناسُ النارَ وتسابقوا إليها؛ وكأنهم يَرِدُون ماءًا عذبًا أو يُدعون إلى وليمة، لكنها والله الجنة التي يَرخُصُ في سبيلها كلُّ غال؛ ويُبذَل لنيلها كلُّ نفيس. (ثم قالت الرواية): «حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها، فتقاعست (أي توقفت) أن تقع فيها، فقال لها الغلام: يا أُمّه اصبري فإنك على الحق». 

رزقنا الله الثبات والصبر ......

الخطبة الثانية

أيها المسلمون: هكذا سجَّل هذا الغلام ومن آمن معه هذه التضحية العظيمة، والتي نزلت فيها سورةٌ تتلى إلى يوم القيامة؛ سورة البروج، أخبر الله فيه بأنهم من أهل الفوز الكبير.

عباد الله؛ وهكذا أهل الإيمان يُبْتلون في كل زمان ومكان، فيصبروا، فيكون الظفر والعاقبة لهم بل يبُتلى المؤمن على قدر إيمانه؛ وأشد الناس بلاءً الأنبياء؛ ثم الأمثل فالأمثل. ليرفع الله درجاتهم في جنات عدن.

  • 48
  • 11
  • 10,525
المقال السابق
[13] أسماء الله الحسنى 2-2
المقال التالي
[15] أظلم الناس

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً