ثقافة التلبيس - (16) تعظيم الفلسفة والمطالبة بتدريسها
ولم يتقحم قلة من شبابنا هذا الطريق للأسف إلا محبة للتفرد والتميز على أقرانهم، وامتثالا لمقولة: "وإني لآتٍ بما لم تستطعه الأوائل".
بسم الله الرحمن الرحيم
كتب الأستاذ عبد الله المطيري هداه الله وهو أحد الصحفيين المنكفئين على كتب الفلسفة، يقول: "لا يزال الفكر الفلسفي بعيدًا عن التأثير، ولا يحظى بمشروعية واعتراف داخل المنظومة الفكرية المسيطرة، بل إنه، أكثر من ذلك، يواجه إقصاءً حادًا ورفضًا مسبقًا، وتُشن على متبني هذا الفكر الحروب المتتالية..."؛ إلى أن يقول: "المشكلة العميقة في ثقافتنا هذه أن مصادر المعرفة التي يستقي منها الناس عادة معارفهم لا تحتوي مصدر العقل بمعناه الواسع والشامل والفاعل!"؛ إلى أن يختم: "إذن تبدو الحاجة إلى الفلسفة اليوم أشد من أي وقت آخر ".
وقبل أيام نُشر خبر يقول: "ضمن الفعاليات التي يحتويها نادي الرياض الأدبي، اعتمد النادي تأسيس قسم (للحلقة الفلسفية) حيث تنعقد جلسات بشكل دوري لمناقشة مفاهيم وأبحاث وإصدارات فلسفية، وهي ندوة دورية تتم داخل النادي الأدبي بأعضائها التأسيسيين، وتعتبر هذه الحلقة الدورية أول نشاط فلسفي رسمي في السعودية، حيث تُستبعد الفلسفة من المناهج التعليمية، بما فيها التعليم العالي، وتقتصر المناهج على التحذير من الفلسفة، كما تدرس آراء تكفّر الفلاسفة مثل آراء ابن تيمية عن ابن عربي والغزالي عن ابن رشد.. يشار إلى أن الحلقة الفلسفية بدأت أنشطتها بورش حوارية (مغلقة)"!
تذكرت حين قرأت ما سبق مقولة واحد من أذكياء العالم، قالها بعد أن خبر حقيقة الفلسفة، وحقيقة معظميها أعني أبا حامدٍ الغزالي - في مقدمة رسالته الشهيرة (تهافت الفلاسفة: ص 26-28)، حيث قال: "أما بعد فإني قد رأيت طائفة يعتقدون في أنفسهم التميز عن الأتراب والنظراء بمزيد الفطنة والذكاء، قد رفضوا وظائف الإسلام من العبادات، واستحقروا شعائر الدين: من وظائف الصلوات، والتوقي عن المحظورات، واستهانوا بتعبدات الشرع وحدوده، ولم يقفوا عند توقيفاته وقيوده، بل خلعوا بالكلية ربقة الدين بفنون من الظنون، يتبعون فيها رهطًا يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجًا وهم بالآخرة هم كافرون، ولا مستند لكفرهم غير تقليد سماعي إلفي؛ كتقليد اليهود والنصارى، إذا جرى على غير دين الإسلام نشؤهم وأولادهم، وعليه درج آباؤهم وأجدادهم، ولا غيرُ بحث نظري صادر عن التعثر بأذيال الشُبه، الصارفة عن صَوب الصواب، والانخداع بالخيالات المزخرفة كلامع السراب، كما اتفق لطوائف من النظّار في البحث عن العقائد والآراء، من أهل البدع والأهواء. وإنما مصدر كفرهم سماعهم أسماء هائلة، كسقراط وبقراط وأفلاطون وأرسطوطاليس وأمثالهم، وإطناب طوائف من متبعيهم وضُلالهم في وصف عقولهم، وحسن أصولهم، ودقة علومهم الهندسية والمنطقية والطبيعية والإلهية، واستبدادهم -لفرط الذكاء والفطنة- باستخراج تلك الأمور الخفية، وحكايتهم عنهم أنهم مع رزانة عقولهم وغزارة فضلهم منكرون للشرائع والنحل، وجاحدون لتفاصيل الأديان والملل، ومعتقدون أنها نواميس مؤلفة، وحيل مزخرفة.
فلما قرع ذلك سمعهم، ووافق ما حكي من عقائدهم طبعهم، تجملوا باعتقاد الكفر تحيزًا إلى غمار الفضلاء بزعمهم، وانخراطًا في سلكهم، وترفعًا عن مسايرة الجماهير والدهماء، واستنكافًا من القناعة بأديان الآباء، ظنًا بأن إظهار التكايس في النزوع عن تقليد الحق بالشروع في تقليد الباطل جمال، وغفلة منهم عن أن الانتقال إلى تقليدٍ عن تقليدٍ خرقٌ وخبال. فأية رتبة في عالم الله أخس من رتبة من يتجمل بترك الحق المعتقد تقليدًا بالتسارع إلى قبول الباطل تصديقًا، دون أن يقبله خبرًا وتحقيقًا! والبله من العوام بمعزل عن فضيحة هذه المهواة، فليس في سجيتهم حب التكايس بالتشبه بذوي الضلالات، فالبلاهة أدنى إلى الخلاص من فطانةٍ بتراء، والعمى أقرب إلى السلامة من بصيرةٍ حولاء".
قلت: هذه هي الحقيقة وإن كانت مرّة عند البعض، فلم يجنِ العالم الإسلامي بل العالم كله من الفلسفة والتفلسف سوى المزيد من النزاعات والحيرة والتشكيكات؛ لأنها أقحمت نفسها في جوانب كثيرة من مسائلها في مجال ليس مجالها، مجالٍ لا يمكن التعرف عليه عن غير طريق الوحي الإلهي؛ ولهذا ضلت وأضلت، وقد قال تعالى منبهًا أهل الإسلام أن لا يتبعوا أثرهم: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36].
ولم يتقحم قلة من شبابنا هذا الطريق للأسف إلا محبة للتفرد والتميز على أقرانهم، وامتثالا لمقولة: "وإني لآتٍ بما لم تستطعه الأوائل". وللأسف أن يكون هذا على حساب دين المرء وعقيدته. فليتقِ الله هؤلاء أن يكونوا ممن قال الله عنهم: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۙ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ ۗ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل:25]، وليُسخروا كتاباتهم وجهودهم إن كان عندهم شيء من حب التميز والتفرد فيما ينفع الأمة؛ من مجالات العلم المفيد: الرياضي والطبي والتقني... إلخ، فهذا خيرٌ لهم في الدنيا والأخرى.
ولبيان أن الفلسفة حشرت نفسها في أمور لا تُعرف إلا بالوحي، يُقال:
- أهم مباحث الفلسفة كما يقول الدكتور عرفان عبد الحميد فتاح في رسالته (المدخل إلى معاني الفلسفة: ص 2734 باختصار):
"أولًا: مباحث الوجود (الميتافيزيقا) الأنطولوجيا:حيث يبحث الفيلسوف في أصل العالم وصفة هذا الأصل وعدده: هل الأصل المنشئ للموجودات عنصر واحد (المذاهب الواحدية)، أم عنصران (المذاهب الثنائية)، أم متعددة وكثيرة (مذاهب التعدد)؟
وما طبيعة هذا العنصر أو العناصر التي تقوّم بها الأشياء، أهو مادي خالص فلا شيء في الوجود غير المادة، وأن الحركة والحياة، وغيرهما مما يظن البعض أنها تشهد بوجود النفس أو الروح ليست في الحقيقة إلا وظيفة من وظائف المادة التي تتميز بطبيعتها بالتنوع والحركة والقوة والتفكير (المذهب العقلي)، أم روحي خالص (المذهب الروحي)؟
وهل هذه المادة الجوهرية المنشئة للأشياء قديمة أزلية أبدية فلا شيء يكون عن عدم، ولا شيء مما هو موجود ينتهي إلى العدم (المذهب الإلحادي)، فيمتنع القول بالخلق والحدوث، بل وبالخالق المبدع المصور للأشياء أيضًا؟ أم أن الموجودات سواء كانت من طبيعة مادية أو عقلية أو روحية لها بداية في الزمان، فهي مخلوقة حادثة خلقتها إرادة عليها، تعلم ما تفعل وتخلق ما تشاء (مذهب التأليه)؟
وهل الموجودات في تغير متصل وسيلان دائم، يستحيل معه الدوام المطلق والمؤقت والنسبي، أم أن الأشياء والموجودات: واحد، كل ثابت، وأن التغير عرضي فيها.
وإذا كان العالم مخلوقًا لله: فما صلة الإله الخالق بالعالم المخلوق؟ هل خلقه وركز فيه قوانينه ثم تركه وشأنه.. إلخ.
ثانيًا: مباحث المعرفة (الأبستمولوجيا): ينصرف الفلاسفة في هذا المبحث إلى دراسة: المعرفة الإنسانية وهل هي ممكنة؟ أم ممتنعة. وإذا كانت ممكنة، فما حدود هذه المعرفة، أهي احتمالية ترجيحية، أم يقينية ومطلقة، وما وسائل اكتسابها، وما طبيعتها. وإذا كانت المعرفة ممكنة. فما مصدرها وما طبيعتها ووسيلة اكتسابها: أهي معارف مصدرها العقل الذي فيه مبادئ فطرية موروثة لم تشتق من تجربة، أم أن المعارف مصدرها الحس، أم أن مصادر المعرفة هي الحس والعقل معًا، أم أن مصدر المعرفة اليقينية لا الحس ولا العقل وإنما: الذوق الباطني والتجربة الروحية، والكشف والإلهام والبصيرة؟!
ثالثًا: مباحث القيم (الأكسيولوجيا): وفيها ينصرف الفكر إلى دراسة القيم الأخلاقية؛ مثل: الحق والخير والجمال، وهل هذه القيم: مبادئ ومثل مجردة، عامة غير مشخصة؛ تتجاوز الزمان والمكان؛ ومن ثم فهي: أزلية أبدية متغيرة؟ أم أن ما يسمى بالقيم المطلقة، ليست إلا عوائد وضعية، وعادات اجتماعية وانفعالات شخصية ومشاعر ذاتية ووجدانية فردية؟ وإذا كانت ثمة قيمة مطلقة، فهل هي عينية موضوعية؛ بمعنى أن لها وجودًا مستقلًا عن العقل الذي يدركها؛ وأن الأشياء والموجودات لها صفات ذاتية لازمة لها، وأن مهمة العقل الكشف عنها بالرؤية المباشرة وبالحدس، أم أن هذه القيم ليس إلا معان تتبع الإرادة الإلهية فالحُسْنُ ما أمر به الله وأراده، والقبح ما نهى عنه الله ولم يرده؛ لأن العقل عاجز عن إدراك ذلك لنفسه وبنفسه؟".
قلت: وكل هذه المباحث الثلاثة وتفصيلاتها السابقة، إما: قد كفانا الشرع مؤنتها؛ فوضحها وبينها، أو: لم يُكلفنا تطلب بعضها، والخوض فيها؛ لسببين: الأول: أنه غير مجدٍ ولا موصلٍ لنتيجة كما سبق، بل ستظل العقول تتخالف وتتضارب فيه دائمًا وأبدًا؛ لأنها حشرت نفسها في أمر قد حُجب عنها، وفي خاتمة أمرها ستكون كما قال القائل:
يُحللون بزعم منهمُ عُقَدًا *** وبالذي وضعوه زادت العُقَدُ
السبب الثاني: أن الأولى والأجدى والأوجب أن تخوض العقول في عالم الشهادة؛ تعتبر به، وتكتشفه، وتُبدع من خلاله ما ينفعها في دينها ودنياها.
جنايات الفلسفة:
يقول الدكتور عبد القادر الغامدي: "قد عُلم وتبين أن الأوروبيين لم يتقدموا في الصناعة والعلوم التقنية ونحوها، المعاصرة إلا لما تخلوا عن فكر اليونانيين، وخاصة منطق أرسطو، وما قام المنطق الحديث عند الأوروبيين إلا على أنقاض ذلك، يقول بوشنسكي: "الفلسفة الأوروبية الحديثة أهملت المنطق الصوري إهمالًا كبيرًا، حتى لقد سقط في زاوية النسيان المهين". وقد هاجم المنطق الأرسطي كبارُ الفلاسفة الأوروبيين المحدثين والمعاصرين الذين قدموا شيئًا في مجال العلوم الدنيوية هجومًا عنيفًا. فقد ثار فرانسيس بيكون (أبو الحضارة الأوروبية) ضد تراثهم، وكان يرى ومن وافقه أن فكر اليونانيين هو سبب جمود العلم، لذلك كان مشروعه العلمي الذي سماه (الإحياء العظيم) في جانب كبير منه (الأورجانون الجديد) يعارض فيه منهج اليونانيين. وقال واصفًا جميع اليونانيين أنهم: "يشتركون مع الأطفال في الميل إلى الكلام والعجز عن الإنجاب (المثمر) بحيث كانت حكمتهم لفظية لا تثمر أي نتائج". ويقول في وصف دقيق ومشهور لفلسفة أفلاطون: "حديث عجائز عاطلين إلى شبان جاهلين". ويرى أن هذا الوصف ينطبق على جميع الفلاسفة اليونانيين المتأخرين" ( عبد الرحمن بدوي ومذهبه الفلسفي- ص 86-88).
الإسلام أطلق العقول في النافع، وفطمها عن غير النافع، لكن الفلاسفة وأتباعهم عكسوا الأمر:
يقول الدكتور محمد الصوياني عن الإسلام: "في الشأن العقدي: أعيد التوحيد نقيًا، وتم نفي الصفات البشرية عن الله؛ كالزوجة والابن والبنت والولادة. في الجانب العبادي: جعل العبادة كلها محرمة ما لم يكن مصدرها الكتاب والسنة، وبذلك أنشئت سياج بالغة القوة للإبقاء على نقاء العبادات، والاحتفاظ بالنسخ الأصلية لكل عبادة؛ كنتيجة للاحتفاظ بالنسخة الأصلية للقرآن والسنة. في الجانب الدنيوي: أُطلق يد الإنسان في هذا الكون ليبتكر ويبدع ويعمر ويصنع ويخترع ويكتشف، تحت القاعدة التي غيرت وجه الكون، وأطلقت أوروبا من ظلمتها، تلك القاعدة التي قالها النبي صلى الله عليه وسلم: "أنتم أعلم بأمور دنياكم" وبالآيات التي تحث على العلم التجريبي عند الجاهلية والمسيحية" (العقل العربي، ص 493).
ويقول الدكتور سليمان دنيا رحمه الله، وهو خبير بالفلسفة: "ومما هو جدير بالاعتبار أن الدين قد قصر أمر الاعتقاد على: معرفة مصير الإنسان، وهو البعث والحياة والآخرة. والطريق التي حملت هذه المعرفة إليه، وهو الأنبياء والكتب والملائكة. والمصدر الذي بعث إليه بهذه المعرفة، وهو الله سبحانه وتعالى، وقصر أمر الشريعة على ما به صيانة الدماء والأرواح، والعقول والأعراض، والأموال"، {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف:33]، {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف:32].
أما الكون -فيما عدا ذلك- بمجالاته الفسيحة: من فلك، وطب، ورياضيات، وعلوم أحياء، وعلم طبقات الأرض، وعلم الذرة، وعلم الفضاء، والإشعاعات الكونية، وغيرها، وغيرها، فهي كلها حق للإنسان يمارسها بكل ما يملك من حرية.
وإذا كان للدين شيء يقوله بصددها فهو الحث على طلبها، والتشجيع على معرفتها؛ فقد رفع الإسلام شأن العالم إلى مدى تنحط دونه جميع الشؤون؛ {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9]، {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ} [آل عمران:18]، {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28].
نعم لم يكن شأن الإسلام في هذه الناحية شأن الكنيسة التي ادعت علم كل شيء، وحق احتكار العلم بكل شيء.
إن الإسلام ترك للناس كل شيء، وحثهم على معرفة كل شيء، لأن العلم بالكون طريق إلى العلم بخالقه، وكلما كانت المعرفة بالخلق أتم وأكمل، كانت المعرفة بالخالق أتم وأكمل كذلك. وسنرى فيما بعد أن العلم والدين أخوان متضامنان، لا عدوان متخاصمان" (التفكير الفلسفي في الإسلام، ص 245-246).
قلت: ولهذا؛ عقد ابن خلدون فصلا في مقدمته عنونه بـ"في إبطال الفلسفة وفساد منتحليها ".يقول الدكتور محمد جابر الأنصاري: "إن ابن خلدون، لرسوخ إيمانه الديني الأصولي، قد هاجم الفلاسفة الميتافيزيقيين في الإسلام؛ كالفارابي وابن سينا، واتفق مع الإمام الحافظ حجة الإسلام الغزالي في تخطئة الفلسفة التي تتعاطى بما وراء الوجود، وبالميتافيزيقيا وبالغيبيات، باعتبار أن هذه الأمور من اختصاص الدين لا من اختصاص العقل. أما العقل فمجاله الطبيعي دراسة التاريخ، وعلم الاجتماع، وعلوم المنطق والرياضيات، والفيزياء، أي باختصار: العلوم العلمية الداخلة في نطاق التجربة الإنسانية، وقدرات العقل الإنساني" (لقاء التاريخ بالعصر، ص 119).
فصلٌ بديع عن أضرار الفلسفة وأهلها على الأمة:
وأختم بفصل بديع خطه قلم الشيخ عائض الدوسري في كتابه (هكذا تحدث ابن تيمية)، قال فيه:
"نعى ابن تيمية على الفلاسفة ومَن تابعهم من رُوَّاد المدارس الكلامية والعقلية إعمالهم العقل كأصل في هذا العالم الغيبي؛ إذ إنَّ هذا العالم غيب وغير مشهود، والعقل ليس من وظيفته الصعود إلى هذا العالم؛ إذ هو عالم موقوف على نزول الوحي، فأسماء الله وصفاته وسائر أمور الغيب توقيفية، ودور العقل فيها التلقي والفهم والاستيعاب، ثم العمل.
لكن الفلاسفة ومن تابعهم راموا الوصول لعالم الغيب بعقولهم المجردة، فضَلُّوا وأضَلُّوا، وأضاعوا أوقات الأمة وجهودها، وعطلوا عقولها الذكية في تسطير الأوهام، فكتبت آلاف الكتب في الفلسفة وعلم الكلام والمنطق، وعشرات الآلاف من الشروح، وتناظر الناس وتصارعوا فيما دخل عليهم منها.
وضاعت على الأمة مئات السنين وعقلها مخدر في تلك الأوراق الصفراء، تعيد وتكرر في كلام أرسطو وأفلاطون في الإلهيات، وفي الماهية والذات، والوجود والعدم، فعطل عقل الأمة عن مسرحه الحقيقي، ونقل إلى مكان ليس له إطلاقًا، فضاع العقل وضاع الدين!
يقول ابن خلدون عن الفلسفة: "تصفحها كثير من أهل الملة، وأخذ من مذهبهم من أضله الله من منتحلي العلوم، وجادلوا عنها واختلفوا في مسائل من تفاريعها".
ولو أن تلك الجهود الجبارة والعقول الذكية وُجِّهت إلى دراسة الهندسة والرياضيات والطب ونحوها، لعاد ذلك على الأمة بخير كبير ومنفعة عظيمة، تعود على الأمة بخير في دنياها، ولا تمس دينها بشيء؛ لأن تلك العلوم يقينية.
يقول ابن تيمية: "إنَّ علم الحساب الذي هو علم بالكمِّ المنفصل، والهندسة التي هي علم بالكمِّ المتصل، علم يقيني لا يحتمل النقيض ألبتة".
وفي المقابل يقول عن الفلسفة: "وأساطين الفلسفة يزعمون أنَّهم لا يصلون فيه العلم الإلهي- إلى اليقين، وإنَّما يتكلمون فيه بالأولى والأحرى والأخلق، وأكثر الفضلاء العارفين بالكلام والفلسفة، بل وبالتصوف الذين لم يحققوا ما جاء به الرسول تجدهم فيه حيارى ". ومن يتأمل حقيقة الفلسفة اليونانية التي هي مصدر علوم فلاسفة الإسلام، يجد مدى تفاهة ما وصلت له في الإلهيات، فهؤلاء اليونان يعتقدون أنَّ الأفلاك آلهة تتصارع في السماء، وتلك مرحلة وثنية بدائية هي أقرب للأساطير (ميثولوجيا) منها للعقل، فما كان يدور فيها من خرافات وأساطير الأورفية، والإلياذة، والأوديسا ونحوها، يدل على ذلك بوضوح تام.
ولم تختلف المدارس الفلسفية اليونانية (700 ق. م- 150م) التي يزعم أنَّها فلسفية عن تلك الروايات والأساطير، فما اعتقده طاليس الملقب بأبي الفلسفة، وتلاميذه: انكسمدريس، وانكسمنس، وديمقريطس، وما ذهب إليه رواد المدرسة الفيثاغورسية اليونانية، ورواد المدرسة الإليائية: زينون، واكسانوفان، ورواد المدرسة الأيونية: هيروقليطس، وغيرهم في الإلهيات ليس إلا وثنية وخرافات.
وما ذهب إليه أفلاطون، وإن كانت مدرسته أقل خرافة ممن سبقها، إلا أنَّها لا تختلف كثيرًا في الإلهيات عمن سبقها، فنظرية (المُثل) و(العقول) وغيرها ليست إلا خرافات وثنية.
صحيح أنَّه حصل التطور الكبير في الفلسفة اليونانية، وخاصة في الجانب الطبيعي على يد أرسطو الذي برع في الرياضيات إلى جانب براعته في المنطق والفلسفة، لكنه لم يختلف في تصوراته في الإلهيات عن تصورات قومه اليونان.
والتصور الفلسفي اليوناني للعقل تصور في قمة السذاجة؛ حيث إنَّهم اعتقدوا أنَّ العقل كائن مستقل، أي: ليس حالة ذهنية مجردة، وإنما جوهر مستقل بذاته، حتى وصل بهم الأمر إلى اعتقاد أنَّ العقل الجوهر ليس إلَّا إله، ولذلك ذهب أرسطو إلى أنَّ كينونة الله هي عبارة عن ثلاثية الأبعاد: عقل، عاقل، معقول.
هذا التصور (الميثولوجي) كان موجودًا في الروايات (الأورفية) قبل وجود المدارس الفلسفية اليونانية؛ حيث كان اليونان يعتقدون أنَّ الأفلاك والنجوم والأجرام السماوية (آلهة) تُدَبِّر الكون، فالشمس، والقمر، والزهرة، وعطارد... إلخ، ليست سوى آلهة يونانية مكونة من قسمين: هيكل الأفلاك، وعقولها.
ولذلك تطور هذا الفكر الخرافي منذ ذلك الزمن، ومرورًا بأرسطو، حتى وصل إلى الفيلسوف الغنوصي أفلوطين، الذي طوَّر نظرية (الفيض الإلهي)، وصاغها في نظريته (العقول العشرة)، أي: الأفلاك وعقولها، وأنَّها هي التي تدبر العالم، وأنَّ الله تعالى أوكل لها تنظيم العالم وتدبيره، وأما الله -تعالى عما يقولون- فقد جلس في برجه العاجي بعيدًا عن أحداث العالم، تاركًا أمر تصريف الكون الفسيح لهذه العقول (الأفلاك)، وأصبح فلك (القمر) هو المسؤول عن تدبير أمر العالم السفلي (الأرض) وما حولها.
هذه النظرية الخرافية تلقفها فلاسفة العالم الإسلامي؛ كالفارابي وابن سينا، وفسَّروا بها (النبوة) على أنَّها قوة قُدسيَّة تستخدم قوة التخييل والقوى النفسانية لتلقي المعلومات عبر عملية (الفيض) اللاإرادي من العقول العشرة، ولذلك ذهب الفارابي وابن سينا إلى أنَّ الفيلسوف أفضل من النبي؛ لأنَّ النبي معلوماته قائمة على قوة التخييل، أما الفيلسوف فقائمة على القوة العقلية، وهذا خير دليل على الحصاد المر للفلسفات الوثنية التي توصف بأنَّها عقلية يعارض بها النقل وتقدم عليه.
يقول ابن تيمية: فلسفة القدماء، فإنَّ فيها من التقصير والجهل في العلوم الإلهية ما لا يخفى على أحدٍ. وبيَّن ابن تيمية أنَّ العقلاء الذين خبروا كلام أرسطو وغيره من الفلاسفة في العلم الإلهي؛ علموا أنَّهم من أقلِّ الناس نصيبًا في معرفة العلم الإلهي، وأنَّهم أكثر الناس اضطرابًا وضلالًا، وكلامهم في الإلهيات ففي غاية الاضطراب.
ويقول ابن تيمية مبينًا حال الفلاسفة الذين استقوا دينهم من تلك الفلسفات: إنَّ الله قد أرسل رُسُله بالحقِّ، وخلق عباده على الفطرة، فمن كمل فطرته بما أرسل الله به رُسُله وجد الهدى واليقين الذي لا ريب فيه ولم يتناقض، لكن هؤلاء -أي: الفلاسفة وأهل الكلام- أفسدوا فطرتهم العقلية، وشِرعتهم السمعية، بما حصل لهم من الشبهات والاختلاف الذي لم يهتدوا معه إلى الحق.
وإذا كان العقل ليس مكانه عالم الغيب، إذ دوره محصور في هذا العالم بالتلقي والفهم والعمل بما ينزل به الوحي؛ لأنَّ الله سبحانه وتعالى قد تكفل ببيان دينه، وتيسير شريعته لكل مدَّكِرٍ، وقد جاء الأنبياء بالدين أبيضًا ونقيًّا وسهلًا واضحًا لعموم الناس.ولذا فلا حاجة للبشر لأن يُضيعوا أوقاتهم وأعمارهم وعقولهم في تقصي حقائق الغيب من طريق غير طريق الوحي، الذي هو المعين الصافي.
وما ضل من ضل في الأمة إلا حينما صرف عقله من محله الصحيح إلى غير محله -أي: من عالم الشهادة إلى عالم الغيب- فبدلًا من أن تذهب الجهود وتوجه العقول الذكية لعالم الطبيعة وعلومها: كالهندسة، والرياضيات، والطب، والعمران ونحوها مما ينفع الأمة، وُجِّهت العقول الذكية للفلسفة والمنطق بحثًا عن الله، وعن صفاته وحقيقته.
فلا الحياة عُمِّرت، ولا الدين حُفِظ وصِين من عبث العابثين، بل زاد فيه العبث والتحريف والأوهام، ونشبت الخلافات والصراعات الدينية بين أبناء الأمة الإسلامية، وسالت الدماء، وقُتلت الأنفس، ولم يهتد هؤلاء إلى الحق، ولا ذاقوا برد اليقين.
يقول ابن تيمية: وهكذا كل من أمعن في معرفة هذه الكلاميات والفلسفيات التي تعارض بها النصوص من غير معرفة تامة بالنصوص ولوازمها، وكمال المعرفة بما فيها، وبالأقوال التي تنافيها؛ فإنَّه لا يصل إلى يقين يطمئن إليه، وإنَّما تفيده الشك والحيرة، بل هؤلاء الحذَّاق الذين يدَّعون أنَّ النصوص عارضها من معقولاتهم ما يجب تقديمه؛ تجدهم حيارى في أصول مسائل الإلهيات، حتى مسألة وجود الرب تعالى وحقيقته، حاروا فيها حيرة أوجبت أن يتناقض هذا كتناقض الرازي، وأن يتوقف هذا كتوقف الآمدي.
ويُبيِّن شيخ الإسلام أنَّ أرباب العقول والمناهج الفلسفية هم من أكثر الناس حيرةً وضلالًا واضطرابًا، فهذا ابن واصل الحموي أفضل أهل زمانه في المنطق والفلسفة والكلام، يقول: أضطجع على فراشي، وأضع الملحفة على وجهي، وأُقابل بين أدلة هؤلاء وهؤلاء حتى يطلع الفجر، ولم يترجح عندي شيء.
ثم يُعلق شيخ الإسلام عليه منبهًا ومشيرًا إلى اشتغاله فيما بعد فيما فيه فائدة له، قائلًا: ولهذا انتهى أمره إلى كثرة النظر في الهيئة -العمارة والهندسة- لكونه تبين له فيه من العلم ما لم يتبين له في العلوم الإلهية.
ثم يُبيّن الفرق بين إنتاج الفلاسفة العقلي وإنتاجهم الطبيعي، موضحًا أنَّ إنتاج الفلاسفة الطبيعي كالطب والهندسة والرياضيات جيِّد وصحيح، بخلاف إنتاجهم في الجانب المِيتَافِيزِيقِي الذي يزعمون أنَّه عقلي.
يقول ابن تيمية: فإنَّ الفلاسفة كلامهم في الإلهيات والكليات العقلية كلام قاصرٌ جدًّا، وفيه تخليطٌ كثيرٌ، إنَّما يتكلمون جيدًا في الأمور الحسية الطبيعية وفي كلياتها، فكلامهم فيها في الغالب جيِّد.
وبيَّن ابن تيمية أنَّ العقلاء الذين خُبِّروا مذاهب الفلاسفة في العلم، يعلمون أنَّهم أقل نصيبًا في معرفة العلم الإلهي، وأنَّهم أكثر الناس اضطرابًا وضلالًا، أمَّا كلامهم في الحساب والعدد والرياضيات فغلطهم في ذلك قليل نادر، وكلامهم في الطبيعيات غالبه جيِّد.
فلو وُجِّهت عقول الأمة قديمًا وحديثًا إلى الإبداع في العالم الطبيعي، والاتباع في العالم الغيبي لكان لها اليوم شأن آخر غير الذي هي عليه الآن، لكنها وللأسف الشديد - غلب على عقولها الذكية الابتداع في العالم الغيبي، والاتباع في العالم الطبيعي، وأهدرت العقول والكتب في مؤلفات الفلسفة وعلم الكلام والمنطق وشروحه وحواشيه وتعليقاته، فصارت العقيدة صعبة المنال، وخاصَّة بِقِلِّةٍِ قليلة من أهل فنون المنطق والكلام". انتهى.
أسأل الله أن يهدي شباب المسلمين إلى ما فيه الخير لهم ولأمتهم، وأن يصرفهم عن تضييع وتكرار الجهود فيما يضر ولا ينفع، وأن يوفق القائمين على النوادي الفكرية والأدبية إلى ما يُحب ويرضى.
كتابان مهمان يتعلقان بالموضوع:
1- موقف شيخ الإسلام من آرء الفلاسفة، للدكتور صالح الغامدي وفقه الله.
2- جناية التأويل الفاسد على العقيدة الإسلامية؛ للدكتور محمد أحمد لوح وفقه الله. فقد عقد فصلًا طويلًا مهمًا (ص 397- 479) عن جناياتهم.
- المصدر: