من أخطائنا الفكرية - (1) الرضا بالدون

منذ 2016-02-13

هل يستطيع شبابنا اليوم أن يصم أذنه؛ ليكون أكبر قدرًا من الضفدعة الصغيرة، حتى يصل بنفسه وأمته إلى مرتبة تجعله محل النظر والتقدير من الآخرين؟

في كثير من الأحيان يركن بعض الشباب إلى الاستسلام والرضا بأقل شيء مطلوب لتحقيق الغرض دون التفكير، أو المحاولة مرة أخرى؛ لتخطي العقبات التي تعرض الوصول إلى أعلى الأهداف، أو المرتبة العليا منها، وهذا في حد ذاته منعطف خطير في التفكير؛ لأنه يقضي على كل الملكات التي وهبها الله تعالى للإنسان، واستعمالها في تحقيق أغراضه المشروعة، ويعطي انطباعًا أخطر من ذلك، هو ترك طلب المعالي لشخص آخر ربما يكون أقل منك في القدرات والمواهب، وفي الوقت نفسه أخطر منك في التصرفات السلبية التي تعود على المجتمع بالشر المستطير إذا تمكن من الوصول لمعالي الأمور، وأماكن اتخاذ القرار.

والشيء المؤلم حقًا أننا أصبحنا نعيش على المؤثرات الخارجية، خصوصًا الدعوات المثبطة التي تنبعث من دعاة اليأس والقنوط، وأصحاب التجارب الفاشلة، أو الطموحات الرديئة، والغايات المحدودة التي يقف منتاها عند حدود الاكتفاء بلقمة العيش، وشربة الماء، حتى لو اشتركنا في ذلك مع بقية الدواب التي تسير على أربع، دون الانطلاق من الثوابت الداخلية التي تقوي الإرادة والعزيمة وترفع الهمة، وتضع رقي الإنسان في مقدمة التكريم الذي اختاره الله تعالى لتميز الإنسان عن سائر الحيوانات.

ومن القصص الطريف لتقريب المعنى للذهن بصورة أكثر واقعية، أن مجموعة من الضفادع اتفقت فيما بينها على خوض مسابقة لصعود برج مرتفع، فتعالت صيحات بقية الضفادع سخرية واستهزاء من التفكير في هذه المسابقة التي تقوم على الصعود لأعلى؛ لأنه يتنافي مع قدرات الضفادع، ولكن مجموعة المتسابقين لم تأبه لهذه الدعوات المثبطة، وبدأت في المسابقة بالفعل، وأثناء السير بدأت بعض الضفادع في التراجع من بداية الطريق، مستجيبة لدعوات المشاهدين بعدم التواصل، والبعض الآخر قطع نصف المسافة صعودًا ثم تراجع تعبًا، وأخيرًا تراجع بقية المتسابقين إلا واحدًا صغير الحجم ظل يتابع القفزات تلو القفزات حتى استطاع الوصول إلى نهاية البرج وسط استغراب من الجميع. وبعد انتهاء المسابقة عقد مؤتمر صحفي لسؤال الضفدع؛ فتسائل الصحفي: كيف وصل إلى نهاية البرج مع أن الصيحات كانت ترتفع من المشاهدين بعدم الصعود وإيثار السلامة! إضافة إلى أن من حوله من المتسابقين قد تراجعوا؟ وكانت الإجابة تتمثل في المفاجأة المدهشة للجميع، وهى أن هذا الصغير كان أصمًا لا يسمع أصلًا، فلما بدأت المسابقة وعزم على الصعود لم يكن يسمع لأصوات المشاهدين المثبطين، فلم يتأثر بهم فكانت النتيجة هي الوصول، بينما باءت محاولات الآخرين بالفشل نتيجة التأثر بسماع دعوات المشاهدين.

هل يستطيع شبابنا اليوم أن يصم أذنه؛ ليكون أكبر قدرًا من الضفدعة الصغيرة، حتى يصل بنفسه وأمته إلى مرتبة تجعله محل النظر والتقدير من الآخرين؟

لقد شاهدت في التلفاز ذات مرة حلقة في برنامج مصري عرض صورة لامرأة مقطوعة الذراعين، وتعمل كل شيء بأرجلها حتى وضع الخيط في ثقب إبرة الخياطة، وخياطة الثوب، فضلا عن صنع الطعام وطهيه، وإن دل ذلك على شيء، فإنما يدل على أن الإنسان لديه من الملكات والمواهب التي تحول بينه وبين العجز والكسل، ولكننا نحاول بكل أسف إخماد حرارة تلك المواهب والملكات، لتصبح متجمدة جمود الثلج، تحتاج مزيدًا من الوقت الحار حتى تصير لمرحلة الذوبان، لكن بعد مضي وقت طويل لا ينفع معه حرارة ولا نار؛ لأن شيب العمر وكبر السن أقوى من حرارة الدنيا وما فيها.

على أن بعض المتفلسفين قد يتطاول بتفكيره الأرعن ويقول: ألم يقل الرسول الكريم عليه السلام: «وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ» (وهو جزء من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، رواه الترمذي وحسنه الألباني)، ولكن هذا التفكير سرعان ما يُدحض لو أنك قلت لصاحبه حال مرضه "ارضَ بما قسمَ اللَّهُ لَكَ"؛ لأنه عندئذ يسخر منك ويجيب عليك أنه لا بد من الذهاب للطبيب، والأخذ بالأسباب حتى يكون الرضا بعد ذلك عن يقين، لا عن شك في عدم الأخذ بالأسباب وقطع وساوس الشيطان.

إن المعنى الحقيقي للرضا بالدون والقليل من الأشياء، يكون بعد بذل الوسع والاجتهاد في طلب معالي الأمور المعنوية والمادية؛ لأن الإنسان في نهاية الأمر له قدرة محدودة، ومواهب محدودة، تقف عند حد معين لا تتعداه، والمشكلة كيف نصل إلى درجة المحدود من قدراتنا ومواهبنا بعد الاجتهاد وبذل الطاقة والقدرة، أما أن نحكم على أنفسنا بأننا قد وصلنا إلى المحدود بدون عمل أو جهد، فهذا هو طيش الفكر واعوجاج في منهج الانطلاق.

 إن الإسلام يأبى أن يكون أتباعه من ذوي النظرات الدونية، حتى ولو كانت الأحداث والوقائع تشهد من حيث الظاهر بالاستسلام لهذا الواقع، بل إن الإسلام ربى أتباعه على اتخاذ هذا الواقع منطلقًا لاستشراف المستقبل وبنائه، وطموحا لبناء مجد الأمة وحضارتها، ولم تكن شدة الأزمات، وأحرج المواقف في حياة المسلم ذريعة لرفع راية الاستسلام، وإنما هي في نظر المسلم بمثابة كبوة فرس، ينطلق بعدها مسابقا ريح التغيير.

ففي شدة المواقف الحرجة وأثناء الحصار في الغزوات كان الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعلمهم ويبشرهم ويطمئنهم أن المستقبل لهذا الدين تقدمًا وانتصارًا ورقيًا، وعليهم أن يهيئوا أنفسهم لذلك، حتى ولو كان الواقع المرئي والظاهري يقول: إنهم محاصرون لا يقدرون على شيء، فعن عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنه، قَالَ: لَمَّا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَالْخَنْدَقِ، فَخَنْدَقَ عَلَى الْمَدِينَةِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّا وَجَدْنَا صَفَاةً، لَا نَسْتَطِيعُ حَفْرَهَا، فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقُمْنَا مَعَهُ، فَلَمَّا أَتَى أَخَذَ الْمِعْوَلَ، فَضَرَبَ بِهِ ضَرْبَةً وَكَبَّرَ، فَسَمِعْتُ هَدَّةً لَمْ أَسْمَعْ مِثْلَهَا قَطُّ، فَقَالَ: «فُتِحَتْ فَارِسُ» ثُمَّ ضَرَبَ أُخْرَى، وَكَبَّرَ، فَسَمِعْتُ هَدَّةً، لَمْ أَسْمَعْ مِثْلَهَا قَطُّ، فَقَالَ: «فُتِحَتِ الرُّومُ» ثُمَّ ضَرَبَ أُخْرَى، وَكَبَّرَ، فَسَمِعْتُ هَدَّةً لَمْ أَسْمَعْ مِثْلَهَا قَطُّ، فَقَالَ: «جَاءَ اللهُ بِحِمْيَرَ، أَعْوَانًا وَأَنْصَارًا» (رواه أحمد وأبو يعلى، والطبراني، والبيهقي وحسنه ابن حجر، والهيثمي).

لقد علمتنا تجارب الحياة أننا أثناء الصعود للسلم الطويل ننظر دائمًا لآخر درجة حتى نصل، وأن من ينظر إلى أطراف أقدامه أثناء الصعود يصاب بالارتعاش والخوف من بُعْدِ المسافة، فيؤثر السلامة قاعدًا مع القاعدين.

إن الرضا بالدون مسبة في جبين المسلم، يجب أن يربأ بنفسه أن يرعى مع الهمل، و أن يجعل لنفسه رَقْما في الوجود يعده العادون، ولا يجوز بحال أن يكون صفرًا يمر عليه القارئ مر الكرام دون أن يعيره اهتمامًا سوى قراءته؛ فقراءة الأصفار لا تعني شيئًا ولو كانت مليون صفر، ولكن قراءة رقم واحد يعني شيئًا ولو كان العدد رقم واحد فقط.

ولنا من بريق الشعر حكمة.

 قال أبو فراس الحمداني:

ونحن قومٌ لا توسط بيننا *** لنا الصدر دونَ العالمين أو القبر

تهون علينا في المعالي نفوسنا *** ومن يخطب الحسناء لم يُغلها المهر

 وقال المعري:

وإني وإن كنت الأخير زمانه *** لآتٍ بما لم تستطعه الأوائل

وقال أبو القاسم الشابي:

إذا ما طمحتُ إلى غاية *** ركبت المنى ونسيت الحذر

ولم أتجنب وعور الشعاب *** ولا كُبَّةَ اللهب المستعر

ومن لا يحب صعود الجبال *** يعش أبد الدهر بين الحفر

أخي الشاب إياك أن ترضى بالدون، فتحفر قبر حياتك بيدك، بل اطلب المعالي وتطلع إليها، فليس من وصل أكثر منك ذكاءً، ولا أنت أغبى منه عقلًا.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

د. عبد التواب مصطفى خالد

المصدر: موقع لها أونلاين
  • 3
  • 0
  • 4,896
 
المقال التالي
(2) تأخير العبادات إلى وقت الحاجة

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً