الوقف نِعم التجارة الرابحة

منذ 2016-02-24

أبو الدحداح رضي الله عنه من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين سارعوا إلى البذل والإنفاق في سبيل الله، بعد ما علموا أن ما عندهم ينفد وما عند الله باق، وتيقنوا بأن من في الدنيا ضيف، وما في يده عارية والضيف مرتحل والعارية مؤداة.

قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: لما نزلت: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة:245]، قال أبو الدحداح الأنصاري: يا رسول الله! وإن الله ليريد منا القرض؟

قال: «نعم؛ يا أبا الدحداح!».
قال: أرني يدك يا رسول الله! فناوله يده، قال: فإني قد أقرضت ربي حائطي.
قال ابن مسعود: وحائط له فيه ستمائة نخلة، وأم الدحداح فيه وعيالها.
قال: فجاء أبو الدحداح فناداها: يا أم الدحداح! قالت: لبيك! قال: اخرجي! فقد أقرضته ربي.[1]

وفي رواية أخرى عن زيد بن أسلم قال: لما نزلت: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة:245]، جاء أبو الدحداح الأنصاري إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله! ألا أرى ربنا يستقرضنا؟ إنما أعطانا لأنفسنا! وإن لي أرضين: إحداهما بالعالية، والأخرى بالسافلة، وإني قد جعلت خيرهما صدقة.

قال: فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «كم من عذق مذلل لأبي الدحداح في الجنة؟» [2].

أبو الدحداح رضي الله عنه [3] من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين سارعوا إلى البذل والإنفاق في سبيل الله، بعد ما علموا أن ما عندهم ينفد وما عند الله باق، وتيقنوا بأن من في الدنيا ضيف، وما في يده عارية والضيف مرتحل والعارية مؤداة.

فكان مثالاً يحتذى في التضحية والفداء، وقد عرف بين الصحابة بـ (صاحب التجارة الرابحة).

لما نزلت هذه الآية والتي فيها الحث على الصدقة وإنفاق المال في سبيل الله ونصرة الدين، وعلى الفقراء والمحتاجين والتوسعة عليهم؛ بادر أبو الدحداح ا إلى التصدق ببستانه ابتغاء ثواب ربه، وهو على يقين بأن ذلك لا يضيع عند الله، بل يرد الثواب مضاعفاً إلى سبعمائة ضعف وأكثر، وتكون تلك الصدقة مفتاحاً للجنة.

لقد عرف المسلمون معنى الآية، ووثقوا بثواب الله ووعده؛ فبادروا إلى الصدقات، لقد كان لأبي الدحداح بستانين مثمرين، وقد جعل خيرهما صدقة لله، فجاء إلى أفضل بستان يملكه واسمه (الجنينة)، وطلب من أم الدحداح أن تخرج منه، فقد جعله صدقة جارية لله؛ فأبقى بستان لدنياه، وجعل الآخر لأخراه.

وهذا من توفيق الله لأبي الدحداح أن يُسر له هذا الأمر العظيم، وهذا لم يتيسر لأناس كُثر، فالخير توفيق من الله، والوقف فضل من الله على عباده.

فيا فوز من وفق إلى عمل الخير! ويا حسرة لمن جمع المال والعقار والمراكب والبساتين، ومضى من الدنيا بعد أن عمر فيها متاعه إلى آخرةٍ خربها، ولم يستثمر بها شيئاً يذكر من صدقة أو عمل ينفعه!

وفي (صحيح مسلم): أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كم من عِذْقٍ[2] معلق -أو مدلى- في الجنة لأبي الدحداح» [4].

وهكذا كان أبو الدحداح من المسارعين في الخيرات، المتسابقين في الباقيات الصالحات، وقد كان كذلك من الفرسان الشجعان؛ قاتل في أحد حتى أصيب إصاباتٍ بالغة، وبقي شجاعاً مقداماً حتى آخر أنفاسه يدافع عن الإسلام والمسلمين.

لقد أعطى أبو الدحداح رضي الله عنه درسين لمن بعده:
الأول: في الجود والسخاء، والبذل والعطاء.
والثاني: في الثبات في مواقف الفتنة والبلاء، وعدم النكوص؛ فقد قدم أنفس أمواله لله، وقدم نفسه في سبيل الله؛ فـرضي الله عنه وأرضاه.

مات أبو الدحداح رضي الله عنه، ولكن ذكره وعمله استمر إلى يوم الدين، وصدقته ستبقى دافعاً للأمة للبذل والعطاء.

فالموفق: من وفق للخير، والتعيس: الذي عطل يداه عن البذل والعطاء وفعل الخيرات.

وصدق الشاعر:

وما المال والأهلون إلا وديعة *** ولا بد يوما أن ترد الودائع

ما سبق يدلنا على أن صحابة رسول الله رضوان الله عليهم امتازوا بسرعة الاستجابة لأمر الله، وكانوا مثالاً للسخاء والعطاء، وكانوا يختارون أجود أموالهم وأنفسها لتكون صدقة ووقفاً لله. وكانوا يبذلون الخير والسعادة تملأ قلوبهم بوعد الله لهم الأجر العظيم، ولا يتبعون ذلك الإنفاق مناً ولا أذى.

وفي العهود الإسلامية أنشئت أوقاف خلدها التاريخ، حققت مقاصدها، وكانت روائع وثقها التاريخ، وما خطه الرحالة في كتبهم، وكتب التراجم وكتب السير أرشدنا إلى أوقاف لم تكن في الحسبان، فقد خصص في أوج حضارتنا وقف لكل مطلب وحاجة، ووراء كل وقف دافع وحكاية.

فالوقف دلالة على أن هناك واقف، وموقوف عليه -الجهة التي ستستفيد من الوقف أو ريعه-، ووقف -عقار أو بستان أو كتاب...-، ووثيقة وقف -حدد فيها الواقف شروطه-، وناظر يرعى الوقف، وأحياناً مجلس للنظارة، وعاملين في الوقف، ومنتفعين منه".
____________________
 [1] - صححه العلامة الألباني في «تخريج أحاديث مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام»، برقم: (120)، وقال: "رواه أبو يعلى والطبراني ورجالهما ثقات، ورجال أبي يعلى رجال «الصحيح»، وله شواهد أخرى".
[2] - أخرجه عبد الرزاق وابن جرير، والطبراني في «الأوسط»، انظر: «الدر المنثور»، وجلال الدين السيوطي، (١/ ٣١٢).
[3] - صحابي جليل، أنصاري، يقال له: أبو الدحداح، ويقال: أبو الدحداحة.
قال ابن عبد البر : "لا يعرف اسمه"، انظر: «صحيح مسلم بشرح النووي» (4/ 29)، وفي «الإصابة» (4/ 95) فرق المؤلف في الكنى بين أبي الدحداح صاحب الصدقة، وبين أبي دحداح من اسمه ثابت، وفي بعض الشروح أنه: ثابت بن الدحداح، أو الدحداحة بن نعيم بن غنم بن إياس.
[4] - العِذْق هو: الغصن من النخلة، أما العَذق فهو: النخلة بكاملها، وليس مراداً هنا. انظر: «صحيح مسلم بشرح النووي» (4/30).
[5] - أخرجه مسلم في «صحيحه»، برقم: (965).

عيسى صوفان القدومي

- بكالوريس - تربية 1987م . - ماجستير - دراسات إسلامية 1998م . - دكتوراه - التاريخ والفكر الإسلامي 2012م.

  • 0
  • 0
  • 7,097

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً