شجرة الكراهية.. من الذي زرعها، ومن الذي يسقيها ؟!
أما حرب فيتنام فقد بلغت ضحاياها أكثر من مليون نسمة، استخدمت لقتلهم كل الوسائل -بما في ذلك الأسلحة المحرّمة- وقد كان الجنود الأمريكيون يقتلون كل ذي روح..
1/11/1426هـ - 03/12/2005م
قال جورج بوش -تعالى الله عما يقول علواً كبيراً-: "إن الله أمره أن يخوض الحرب في أفغانستان والعراق"، وقال أيضاً -حسب جريدة (الحياة) عدد 15529، الجمعة 7/9/1426هـ-: "إنه يشعر بكلمات الله تصل إليه وهي تقول: اذهب، وأعط الفلسطينيين دولتهم (كان يقول ذلك لمحمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية)، واحصل للإسرائيليين على أمنهم، وأقم السلام في الشرق الأوسط، وأقسم أنه سيفعل ذلك. إلا أنه تراجع عن قسمه، وحنث بيمينه عندما تخلى عن تعهده بإقامة دولة فلسطينية قبل نهاية ولايته، وكان ذلك التخلي أمام محمود عباس أيضاً أثناء زيارته الأخيرة لواشنطن -كما ورد في جريدة (الجزيرة) عدد السبت 19/9/1426هـ-.
والأمر الذي يستوقف المتابع لمتعلقات الحراك الأمريكي ليست هذه
الوعود أو النكوص والتراجع عنها؛ فتلك أمور مألوفة ومعتادة عند هؤلاء
القوم، وإنما ما يهمنا هنا هذا الادعاء والتقوّل على الله بأن ما
فعلته وما تفعله أمريكا استجابة وتنفيذ لأمر إلهي تلقاه جورج بوش من
الله سبحانه وتعالى عما يقول.
وإنك لتأخذك الحيرة بتفسير مثل هذه الأقوال، وتتساءل وأنت غارق في حيرتك: أحقاً أن هذه الدولة العظيمة القوية والمهيمنة تُقاد وتُسيّر بمثل هذه التصورات، وتتعامل مع الآخرين من هذا المنطلق الخطر؟! وهي التي تدعي أنها الأكثر علمية وعقلانية وتثبتاً بهذا العالم!!
ولمحاولة فهم هذه الأقوال واستيعابها أرى أننا أمام أحد تفسيرين أو
كليهما معاً:
فإما أن تكون أمريكا -وهذا هو التفسير الأول- تسعى من وراء هذا
الادعاء لإقناع ذاتها ومواطنيها بنزاهة وعدالة خطها، وبشرعية أفعالها
لكي تتجاوز بهذه القناعة وخز الضمير من بشاعة الأفعال التي ترتكبها
-إن كان هناك وخز أو كان هناك ضمير-. وهذا التفسير أشار إليه (ماكس
ليرنر) في كتابه (أمريكا كحضارة)، ترجمة الدكتور راشد البراوي، وهو
يرد ذلك الوخز إلى عبادة المال والنجاح.
أو أن أمريكا -وهذا هو التفسير الآخر- تسعى من خلال ما تدعيه إلى إقناع الآخرين بأن نهجها وخط سيرها توجيه إلهي ورسالة مقدسة لا يصح الاعتراض عليها. وأن الهيمنة الأمريكية قدر أمام شعوب العالم لا مفر منه.
ومن هنا -ولكون القوم صدّقوا أنفسهم بما يدّعونه- فهم يتساءلون
مستنكرين ومستغربين كراهية الآخرين لهم "لماذا يكرهوننا؟!"، وكأنهم لم
يقرؤوا تاريخ بلادهم، ولا واقعها الحاضر والمشاهد، وعلى كل الأصعدة
الاقتصادية والسياسية والعسكرية والثقافية!!
والإقرار والتصديق لهذا التصور، وهذا المفهوم الغيبي الذي يدّعونه يصلح أن يكون تفسيراً لكثير من الممارسات والسياسات غير المسوّغة وغير المنطقية التي تجترحها الإدارة الأمريكية، بكل هذا القدر من العنف والصلف والهياج الثوري نسبة إلى الثور، وليس إلى الثورة، والذي يبدو وكأنه تطبيق واقعي وعملي لما يدور في أفلام رعاة البقر السينمائية، وهنا تكمن الخطورة.
غير أنك وعندما تقرأ في تاريخ هذه الدولة ستجد أن ما ادّعاه جورج بوش لم يكن حصراً على هذا الرجل، ولم يكن أمراً محدثاً تفرّد به هذا الرئيس، واخترعه من بنات أفكاره! بل إنك ستجد كثيراً من النخب والزعامات والمنظرين الذين يزخر بهم التاريخ الأمريكي سبقوه إلى ذلك، ابتداء من جورج واشنطن المؤسس ومتابعة على أثره من عدد غير محدود من رجالات الفكر والسياسة الأمريكية.
يقول الدكتور فهد العرابي الحارثي في كتابه (أمريكا التي تعلمنا الديمقراطية والعدل) صفحة (311): "إن الرئيس الأمريكي (ويليام ماكينلي) عندما أمر بغزو الفلبين عام 1898م وقف يخطب في شعبه علناً، ويقول: نحن لم نذهب إلى الفلبين بهدف احتلالها, لكن المسألة أن السيد المسيح زارني في المنام، وطلب مني أن نتصرف كأمريكيين ونذهب إلى الفلبين لكي نجعل شعبها يتمتع بالحضارة. ويذكر -والكلام مازال للدكتور الحارثي- أن رونالد ريغان أعلن ذات يوم أن ثراء ورخاء الولايات المتحدة يرجع لكونها (أمة مباركة من الله)، وهذه مغالطة غير مقبولة، كما يقول روجيه غارودي؛ لأن هذا الثراء يرجع إلى استغلال العالم، وخاصة العالم الثالث عبر فرض المنتجات الأمريكية بالقوة، وعبر غزو رؤوس الأموال الأمريكية للدول التي تنخفض فيها المرتبات، وعبر الفوائد الاستغلالية للقروض. ويقود كل ذلك ويباركه علامة الصليب على أسنة السيوف كصنم يمثل الذهب والموت كما يقول غارودي".
ومع كل هذه الهرطقات المكشوفة وغير المنطقية، والادعاءات الباطلة بإلوهية التوجّه الأمريكي -والتي إن قبلها وأقر بها الآخرون- فإن العقلية القرآنية، والمنطق الإيماني الذي يتحلى به المسلم حتى في أدنى مراتبه الثقافية والعلمية يرفض قبول هذا المنطق والتصديق به.
مع هذا كله نرى واحداً من مثقفينا يستحي من هؤلاء الذين هذا
منطقهم، ويدعونا إلى الخجل والاستحياء من القول بأن ما أصاب أمريكا من
أعاصير مدمرة قد يكون غضباً إلهياً أرسله الله على هؤلاء القوم.
وإنه لمن حقنا -كمتلقين وكقراء - أن نتساءل: عمن هو الأجدر بأن
يكون مثيراً للخجل والضحك؟ أهو هذا المنتصر -كما يسميه بعض إخواننا
الكتّاب-، والذي يدّعي أحدهم بأن الله يقول له: اذهب، وحارب الآخرين،
ودمر ديارهم، وسق الذرائع كل الذرائع حتى وإن كانت كاذبة، حتى وإن
قتلت المدنيين، حتى وإن عارضك العالم كله.. أمضِ إلى كل ذلك بأمر إلهي
مباشر من الله!! أهذا الذي يقول مثل هذا القول، ويبني عليه كل هذا
الفعل المتوحش المشين، أجدر بأن يكون مثيراً للاستهجان والاستنكار؟
ولا أقول للضحك إلا إذا كان ضحكاً كالبكاء كما يقول المتنبي، وشر
البلية ما يضحك!!
أم أن هؤلاء القائلين بأن أعاصير كاترينا وريتا قد تكون عقاباً إلهياً
حل على أمريكا لقاء استكبارها وجرمها هم من يثير الخجل والضحك؟ ولا
أعتقد بأن هناك مقارنة بين ما ادّعاه بوش مما لا يقبله عقل ولا منطق
وهو الرجل الأخطر الذي يملك زمام أقوى قوى الحرب والتدمير في
العالم؟
وبين ما قال به هؤلاء الذين لا يملكون سوى كلام لا يقتل أحداً، ولا
يدمر بيوتاً، والذين يُكال لهم بتعالم واستعلاء ظاهر كل صفات التحقير
والتسفيه والسذاجة، وهو الذي يدعو إلى احترام الآخرين. علماً أن ما
قالوه لا يستدعي كل هذا التشنج والاستخفاف والخجل، لا لكون هذا التهجم
أسلوباً متدنياً للنقاش والمحاورة فحسب، بل لكون ما يقولون به رأي له
ما يسنده من الدين، كما وأن له ما يبرره من الواقع والتاريخ
الأمريكيين.
وإن كنا نرى كمسلمين أن ليس لأحد الحق بأن يجزم بتفسير ظواهر الكون
وكوارث الطبيعة تفسيراً يتقول به على الله فيما لا يعلم، ولكننا -وفي
الوقت ذاته- نعلم أيضاً أن الله سبحانه وتعالى قد أهلك أقواماً بكوارث
مناخية كان من بينها الريح الصرصر العاتية، كما وطوفان المياه وخسف
الأرض، وقد كان كل ذلك عقاباً إلهياً لأفعال مشينة ومعاصٍ ترتكب
أمريكا المعاصرة أمثالها، بل وعلى مستوى الدولة وكنظم وقوانين تبيح
المحرمات كالشذوذ والزنا والاستكبار في الأرض، وأكل أموال الناس
بالباطل، بل وتدافع عن كل ذلك وتسعى لفرضه على الآخرين كقيم أمريكية
راقية وحضارية!! حتى وإن عارضه هؤلاء الآخرون، وعارضته عقائدهم
ودياناتهم وقيمهم الحضارية، كما حدث ذلك عندما تدخلت لما تسميه حماية
حقوق المثليين (الشواذ) في مصر المسلمة على سبيل المثال.
إن ممارسات أمريكا عبر تاريخها منذ التأسيس وحتى اليوم هي وحدها ما يدعو لكراهيتها والتوجس منها، فالعبرة بالممارسات والأفعال والوقائع.
وتعالوا معنا نقلّب صفحات الواقع والتاريخ الأمريكيين: حديثه وقديمه علناً لنرى الصورة بوضوح.
أما واقع اليوم، فأمريكا تقول وعلى لسان جورج دبليو بوش: "إن من
ليس معنا فهو ضدنا"، وهذا عين الكراهية، وعين الإطاحة وإقصاء الآخر.
وهي تسوق العالم بكل وسائل القوة والتهديد والابتزاز لغرض الهيمنة
والتعالي والاستكبار على هذا الآخر. لا تلتفت في هذه السبيل لاعتبارات
الحق والعدل، ولا للشرائع والمواثيق الدولية، ولا تقيم وزناً
واحتراماً لخصوصيات الآخرين. وأقرب الأمثلة على ذلك وأوضحها هو ما
فعلته وما تفعله في العراق وفي أفغانستان، وتباركه وتدعمه وتدافع عنه
من أعمال إسرائيل بفلسطين من القتل والتدمير واحتلال الأراضي
ومصادرتها والتشريد والقهر للإنسان الفلسطيني على مدى أكثر من خمسين
عاماً خلت وحتى اليوم.
أما التاريخ كشاهد على تنامي كراهية أمريكا لدى الآخرين، وليس لدينا وحدنا، فحدّث ولا حرج! ابتداءً من حرب الاستقلال "كما يسمونها" والتي هي في حقيقتها حرب استئصال، ومحو لأهل البلاد الأصليين؛ حيث تعرض الهنود الحمر لعملية إبادة متوحشة يندى لها جبين الإنسانية جمعاء، ولا يمكن للتاريخ الأمريكي أن يتخلص من عارها.
يقول نعوم تشو مسكي في تواريخ الانشقاق، وهي حوارات أُجريت معه وطُبعت في كتاب ترجمه محمد نجار يقول: "الولايات المتحدة وُجدت وأُسست على دمار السكان الأصليين للبلاد. فقبل أن يكتشف كولومبس أمريكا، فقد قدّر السكان الذين كانوا يعيشون شمال (ريوجراند) من (12-15) مليون نسمة، إلا أنهم تقلّصوا مع بداية هذا القرن -يعني القرن العشرين- إلى مائتي ألف نسمة فقط". وكتب جورج واشنطن في إحدى رسائله إلى المفوض للشؤون الهندية يقول: "إن طرد الهنود من أوطانهم بقوة السلاح لا يختلف عن طرد الوحوش المفترسة من غاباتها". وسنّ الكونغرس عام 1830م قانون ترحيل الهنود بالقوة من شرق المسيسبي إلى غربه، فصار من حق كل مستوطن أن يطرد الهندي من بيته وأرضه، وأن يقتله إذا لم يستجب لصوت العقل".
وقد استخدم الأمريكيون لإبادة سكان البلاد الأصليين بالإضافة إلى
القتل وهدم المدن والقرى استخدموا وسائل أكثر وحشية وحقداً؛ فقد قاموا
بنشر وباء الجدري بين قبائل الهنود بوساطة التلويث المتعمد بجراثيم
هذا الوباء للأغطية التي أُرسلت لهم، كما اعترف بذلك (وليم براد فور)،
حاكم ولاية بليموت الذي يرى أن نشر الجدري بين الهنود يدخل السرور
والبهجة على قلب الله!! راجع كتاب الدكتور الحارثي. ولم يحصل بقايا
هؤلاء الهنود الحمر على الجنسية الأمريكية إلا عام 1924م. وفي عام
1976م فقط أقرّ الكونغرس للهنود الحمر بحق ممارسة دياناتهم الخاصة
بهم.
وفي أواخر القرن التاسع عشر اجتاحت القوات الأمريكية الفلبين
وارتكبت أبشع الفظائع هناك. يقول أحد أعضاء الكونغرس ضمن تقرير له على
إثر زيارة قام بها للفلبين: "إن الجنود الأمريكيين قتلوا كل رجل
وامرأة، وكل سجين وأسير، وكل مشتبه به ابتداءً من سن العاشرة، وهم -أي
الجنود الأمريكيون- يعتقدون أن الفلبيني ليس أفضل كثيراً من كلبه!
وخصوصاً أن الأوامر الصادرة لهم من قائدهم فرانكين قالت لهم: "لا أريد
أسرى، ولا أريد سجلات مكتوبة". والجنرال (جاكوب سميث) أمر بذبح (8249)
طفلاً وَ(2714) امرأة، وَ(420) رجلاً في جزيرة ساما أيام الاحتلال
الأمريكي للفلبين.
(راجع كتاب أمريكا التي تعلمنا الديمقراطية والعدل).
وفي ألمانيا وبعد انهيار قوات الرايخ، أسفر القصف الجوي العشوائي الأمريكي على المدنيين عن خمسمائة وسبعين ألف قتيل، وثمانمائة ألف جريح.
وفي هيروشيما باليابان، قُتل مئات الآلاف من المدنيين بالقنبلة
النووية، وبعد ثلاثة أيام من ذلك الحدث أُلقيت على ناجازاكي قنبلة
أخرى مماثلة، ولم يكن لفظاعة قنبلة هيروشيما وما نجم عنها من أهوال
وفواجع، لم يكن لذلك رادع من ضمير عن تكرار ذلك العمل الرهيب؛ مما
يعني الإصرار على القتل والتدمير، وبدم بارد كما يُقال، علماً بأن
إمبراطور اليابان قد اقترح قبل ذلك أي قبل إلقاء القنابل الدخول في
مفاوضات الاستسلام.
أما حرب فيتنام فقد بلغت ضحاياها أكثر من مليون نسمة، استخدمت
لقتلهم كل الوسائل -بما في ذلك الأسلحة المحرّمة- وقد كان الجنود
الأمريكيون يقتلون كل ذي روح. يقول (روبرت كرش) وهو أحد المشاركين
بمذبحة (ماي لاي) يقول: إنه تنفيذاً لأمر رئيسهم الذي قال لا أريد
أسرى، أريد إحصاء للجثث، إننا كنا نعدّ كل من هو فوق الثانية عشرة
مشروع جثة، وكانوا يحرقون القرى والبيوت والأكواخ بمن فيها من البشر،
ويحرقون الشجر والجواميس وكل ماله روح. وقال (هيومانكه) رئيس قسم
المتطوعين الدوليين أمام الكونغرس: "إننا سنحل مشكلتهم كما فعلنا مع
الهنود"، ويعني بذلك الفيتناميين.
(كتاب الدكتور الحارثي).
هذه صور وملامح مختصرة مأخوذة من حاضر أمريكا، ومن تاريخها القريب والبعيد. من أراد الاستزادة فإن المكتبة العربية غنية بذلك؛ فأمريكا اليوم هي شاغلة الدنيا، وشاغلة الصحافة والإذاعة المرئية والمسموعة، وشاغلة الكتَّاب والدارسين والمفكرين، غير أنها لا تملك أن تحمل الآخرين على حبّها وعلى القبول بها واتخاذها أنموذجاً يُحتذى متى كان هؤلاء الآخرون يرفلون بعافيتهم الروحية والأخلاقية والحضارية، ومتى كانوا كذلك يعرفون حاضر أمريكا وتاريخها.
إن من يسقي شجرة الكراهية هو من يسفك الدماء، وينتهك الأعراض، ويحتل البلاد، وينهب ثروات الشعوب، ثم هو بعد ذلك -تعالياً واستكباراً- يطالب ضحاياه بأن يحبوه ولا يكرهوه!!
- التصنيف: