خطب مختارة - [58] آداب المساجد والمشي إليها (1-2)

منذ 2016-03-02

ولِعظيمِ فضل المساجد وشريفِ مكانتها شُرِع لقاصدها من الآداب والسُنَن والأحكام ما يحسُن التنبيهُ عليه؛ رعايةً لحرمتها وتذكيرًا بحقِّها، وتعظيمًا لشأن الصلاة.

الخطبة الأولى:

فإن المساجِدُ بيوتُ الله، بُنِيت جُدُرُها ورفِعَت قواعدُها على اسمه وحدَه لا شريك له، يُعبَد فيها ويوحَّد، ويعظم فيها ويمجَّد، ويُركَعُ له فيها ويُسجَد، {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18]. أذِنَ الله برَفعِها وعِمارتها، وأمَرَ ببنائها وصِيانَتِها، {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور: 36]. وقد جاءت التوجيهات الشرعية بتطهِيرِ المساجد وتنظيفِها وتطيِيبِها. فهي أحبُّ البقاع إلى الله.

ولِعظيمِ فضل المساجد وشريفِ مكانتها شُرِع لقاصدها من الآداب والسُنَن والأحكام ما يحسُن التنبيهُ عليه؛ رعايةً لحرمتها وتذكيرًا بحقِّها، وتعظيمًا لشأن الصلاة.

1- يُستَحَبُّ لقاصِدِ المسجد أن يتجمَّل لصلاتِه بما يستطيع من ثيابِه وطيبِه وسِواكه، قال ربنا جل في علاه: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31]. ولا يجوز أن يصلِّيَ في ثوبٍ رقيق أو ضيّقٍ أو قصيرٍ يكشف أو يَشِفُّ عن عورته، ويحرُمُ أن يصليَ في ثوبٍ فيه صورة أو ثوبٍ مسبِل، فالأحاديث في تحريم الإسبال ثابتة، ويزداد إثم الإسبال إذا كان معه خيلاء، وكذلك إذا كان في صلاة، للوعيد الوارد في ذلك.

أكرِم بعبدٍ يأتي بيوتَ الله مُتطهِّرًا مُتنظِّفًا، تفوح رائحته طيبًا. وعلى المصلِّي اجتنابُ الروائحِ الكريهة في ملبسِه ومأكله، حتى لا يؤذِي إخوانَه المصلين بأي رائحة تنبعث من جسمه أو ملابسه، فعن جابر رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَن أكَلَ البصلَ والثومَ والكرّات فلا يقربنَّ مسجدنا؛ فإنَّ الملائكة تتأذَّى مما يتأذَّى منه بنو آدم» [صحيح مسلم: 564]، وينبه هنا مِن باب أولى مَن ابتلي بالتدخين ونحوه من المحرمات أن يجتنب ذلك قرب الصلاة.

وينبه الإخوةُ العاملون في المهن التي تؤثر على الملابس بأن يجتهد في نظافة لباسه حينما يأتي للصلاة في المسجد، والأمر يسير لمن وفقه الله، فقد رأيت بعضَ الإخوة العاملين في المهن إذا أذّن المؤذنُ بادر بالنظافة والوضوء وغيّر ملابسَه بملابس أخرى - يأخذها معه في مقر عمله - لتكون للصلاة.

2- من الآداب في المشي للصلاة أن يخرج المسلم لها بسكينة ووقار، ولا يسرع حتى لو أقيمت الصلاة، بل ويقارب خُطاه، لثبوت الأجر العظيم في كثرة الخطى إلى المساجد، ويقول الأذكار الواردة، ومنها: «اللهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا، وَفِي لِسَانِي نُورًا، وَاجْعَلْ فِي سَمْعِي نُورًا، وَاجْعَلْ فِي بَصَرِي نُورًا، وَاجْعَلْ مِنْ خَلْفِي نُورًا، وَمِنْ أَمَامِي نُورًا، وَاجْعَلْ مِنْ فَوْقِي نُورًا، وَمِنْ تَحْتِي نُورًا، اللهُمَّ أَعْطِنِي نُورًا» [صحيح مسلم: 763].

3- يستَحَبّ التبكير إلى الصلاة، فعن أبي هريرةَ رضي الله عنه أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو يعلَم الناسُ ما في النداءِ (يعني: الأجر الأذان) والصفِّ الأول ثم لم يجِدوا إلا أن يستهِموا عليه لاستَهَموا، ولو يعلمون ما في التهجير (أي التبكير) لاستبقوا إليه، ولو يعلمون ما في العتَمَة (أي العشاء) والصبح (يعني من عظيم الأجر) لأتوهما ولو حبوًا» [صحيح البخاري: 615]. أما المشروع في حق الإمام فالتأخر إلى وقت الإقامة؛ فلا يدخل المسجد إلا إذا أراد أن تُقام الصلاة .

4- يقدِّمُ الداخلُ للمسجد رجلَه اليمنى، ويقول: أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم، ويسلِّمُ على النبيِّ صلى اللله عليه وسلم، ويقول: اللّهمّ افتح لي أبوابَ رحمتك، وإذا خرَج قدّم رجله اليسرى ويسلّم على النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ويقول: اللّهمّ اعصمني من الشيطان، أو اللّهمّ أجِرني من الشيطان الرجيم، اللّهمّ افتح لي أبواب فضلك.

5- لا يجلِسُ الداخل للمسجد حتى يصّلِيَ تحيّةَ المسجد ركعتين، حتى وإن كان الإمام يخطب، فعن أبي قتادةَ رضي الله عنه أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا دخل أحدُكم المسجدَ فليركع ركعتين قبل أن يجلِس» [صحيح البخاري: 444]. وهذا الحديث دعوة للمبادرة لصلاة تحية المسجد، وليس لأجل الجلوس، ولذلك فمن الخطأ الوقوفُ عند دخول المسجد لانتظار الإقامة، ولو كان برفع اليدين والدعاء، فالسنة للداخل للمسجد أن يبادر لصلاة تحية المسجد، فإذا حصل أن أقيمت الصلاة وهو يصلي فإن كان في الركعة الأولى قطعها بدون تسليم لأنها لم تتم الصلاة -وهو مأجور-، وإن كان في آخرها أتمها خفيفة. لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أقِيمَت الصلاةُ فلا صلاةَ إلا المكتوبة» [صحيح مسلم: 710]. ولذلك يقال أيضًا: إذا أقيمَت الصّلاةُ فلا يجوز الشروع في نافلةٍ أو سنّة راتبة، ومَن فاتَته سنّةُ الفجر فيُستَحَبّ له قضاؤها بعدَ ارتفاع الشمس قيدَ رُمح؛ وإن قضاها بعد صلاةِ الفجر وقبل أن تطلع الشمس جازَ له ذلك.

أقول ما سمعتم، وأستغفر الله.

الخطبة الثانية:

6- المصلون في المسجدِ كلُّهم سواء، فمن سبَقَ إلى مكان في المسجدِ استحقَّه، ومن أقامه منه فهو مغتصِب، فعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «لا يقيمَنَّ أحدُكم الرجلَ من مجلسِه ثم يجلسُ فيه» [صحيح مسلم: 2177]. وليس لأحدٍ أن يتحجَّرَ من المسجد شيئًا، فيضَعَ سُجّادةً أو عصا أو كرسيًا أو غير ذلك قبل حضورِه، أو يوكِّلَ من يحجزُ له، وما وُضع يُزَال ويُصلَّى مكانَه. ومَن سبَق إلى مكانٍ في المسجدِ ثم فارَقَه لتجديدِ وُضوء ونحوِه فلا يبطُلُ اختصاصُه به، وله أن يقيمَ من قعد فيه.

7- ينبغي للداخل للمسجد أن يتجنب الصلاة في طرقات المسجد وأبوابه لئلا يمنعَ المصلين من دخولَ المسجد – وكذلك الخروج منه بعد الصلاة- أو يشقَّ عليهم، بل يتقدَّم إلى الصفوف المتقدِّمة، فعن أنس رضي الله عنه أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «أتمُّوا الصفَّ المتقدِّم ثم الذي يليه، فما كان من نقصٍ فليكن في الصفِّ المؤخَّر» [صحيح أبي داود: 671]. ولا يُصَلَّى بين السواري والأعمدة؛ إلا إذا ضاقَ المسجِد.

8- يُستَحَبُّ صلاة الإمام والمنفرد إلى سترةٍ ؛ ودنوُّهما منها ولو لم يخشيا مارًّا، وإن أراد أحدٌ المرور بين يديه فله منعُه، فإن أبى فلَه دفعُه، فإن أبي فلَه المبالغةُ في دفعه، فعن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا كان أحدُكم في صلاة فأراد إنسان يمرُّ بين يديه فيدرؤه ما استطاع ؛ فإن أبى فليقاتله فإنّه شيطان» [صحيح النسائي: 4877]

ولذلك يحرُم المرور بين يدَيِ المصلّي حتى ولو لم يجِدِ المارّ مَساغًا وسبيلاً غيرَه، إلاّ لضرورة أو مشقّة عظيمة لا يمكِن دفعُها؛ عن أبي جهيم الأنصاريّ رضي الله عنه قال: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «لو يعلم المارّ بَين يديِ المصلّي ماذا عليه (أي: من الإثم) لكان أن يقفَ أربعين  خيرًا له من أن يمرَّ بين يديه» [صحيح البخاري: 510]، ومعنى أربعين: ربما أربعين يومًا أو أسبوع أو شهرًا .. الله أعلم ) وهذا يدل على خطورة التساهل في ذلك.

9- على قاصِد المسجد أن لاَ يؤذِيَ إخوانه المصلّين بتخطِّي رقابهم ومضايَقَتهم ومزاحمَتِهم، فعن عبد الله بن بسر رضي الله عنه قال: جاء رجل يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «اجلس فقد آذيت» [سنن أبي داود: 1118]، وكذلك القارئ والذاكر يترك التشويشِ على الآخرين بالجهر بالقراءةِ والدعاء، فعن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال: اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجدِ، فسمعهم يجهرون بالقراءةِ، فكشف السترَ فقال: «ألا إنَّ كلَّكم مناجٍ ربَّه، فلا يؤذِيَنَّ بعضكم بعضًا، ولا يرفَع بعضكم على بَعضٍ في القراءة» [صحيح الجامع: 2639]. كما يجب أن يُصان المسجد عن الأقوال الرذيلَة والأحاديثِ السيّئة واللَّغط والأصوات المرتفعة، قال سعيد بن المسيّب رحمه الله: "من جَلَس في المسجد فإنما يجالِس ربَّه، فما حقُّه أن يقولَ إلا خيرًا".

لهذه الآداب تتمة في الأسبوع القادم إن شاء الله، اللهم وفقنا لتعظيم شعائر ديننا، اللهم علمنا ما ينفعنا.

  • 14
  • 5
  • 14,281
المقال السابق
[57] التذكير بخطورة التكفير
المقال التالي
[59] آداب المساجد والمشي إليها (2-2)

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً