خطب مختارة - [60] آفة العصر (المسكرات والمخدرات)

منذ 2016-03-02

العقل جوهرة ثمينة، يحوطها العقلاء بالرعاية والحماية؛ اعترافًا بفضلها، وخوفًا من ضياعها وفقدانها. بالعقل يشرف العقلاء، فيستعملون عقولهم فيما خلقت له، وإذا ما فقد الإنسان عقله، لم يفرق بينه وبين سائر الحيوانات والجمادات، بل لربما فاقه الحيوان الأعجم بعلة الانتفاع. ومن فقد عقله، لا نفع فيه ولا ينتفع به، بل هو عالة على أهله ومجتمعه.

الخطبة الأولى:

أما بعد: فاتقوا الله أيها الناس، اتقوا ربكم وراقبوه في السر والعلن، فبتقوى الله عز وجل، تصلح الأمور، وتتلاشى الشرور، ويصلح للناس أمر الدنيا والآخرة.

عباد الله، لقد كرم الله عز وجل، بني الإنسان على كثير من مخلوقاته {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ وَحَمَلْنَـاهُمْ فِى الْبَرّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَـاهُمْ مّنَ الطَّيّبَـاتِ وَفَضَّلْنَـاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء:70]

كرم الله عز وجل بني آدم بخلال كثيرة، امتاز بها عن غيره من المخلوقات، من جماد وحيوان ونبات وجان؛ كرمه بالعقل، وزينه بالفهم، ووجهه بالتدبر والتفكر، فكان العقل من أكبر نعم الله على الإنسان، به يميز بين الخير والشر، والضار والنافع، به يسعد في حياته، وبه يدبر أموره وشئونه، به يتمتع ويهنأ، به ترتقي الأمم وتتقدم الحياة، وينتظم المجتمع الإنساني العام، وبالعقل يكون مناط التكليف.

العقل جوهرة ثمينة، يحوطها العقلاء بالرعاية والحماية؛ اعترافًا بفضلها، وخوفًا من ضياعها وفقدانها. بالعقل يشرف العقلاء، فيستعملون عقولهم فيما خلقت له، كما قال تعالى: {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الحديد:17]. وقال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:100]. وقال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُولِي النُّهَى} [طه:128]. وقال تعالى: {هَلْ فِى ذَلِكَ قَسَمٌ لّذِى حِجْرٍ} [الفجر:5]. وإذا ما فقد الإنسان عقله، لم يفرق بينه وبين سائر الحيوانات والجمادات، بل لربما فاقه الحيوان الأعجم بعلة الانتفاع. ومن فقد عقله، لا نفع فيه ولا ينتفع به، بل هو عالة على أهله ومجتمعه.

هذا العقل الثمين، الذي هو مناط التكليف، يوجد في بني الإنسان، من لا يعتني بأمره، ولا يحيطه بسياج الحفظ والحماية، بل هناك من يضعه تحت قدميه، ويتبع شهوته، وتعمى بصيرته، كل هذا يبدو ظاهرًا جليًا، في مثل كأسة خمر، أو جرعة مخدر، أو استنشاق مسكر وشرب مفتر، تفقد الإنسان عقله؛ فينسلخ من عالم الإنسانية، ويتقمص شخصية الإجرام والفتك والفاحشة؛ فتشل الحياة، ويهدم صرح الأمة، وينسى السكران ربه، ويظلم نفسه، ويهيم على وجهه، ويقتل إرادته، ويمزق حياءه، أيتم أطفاله، وأرمل زوجته وأزرى بأهله لما فقد عقله، فعربد ولهى ولغى. وبذلك كله يطرح ضرورة من الضروريات الخمس، التي أجمعت الشرائع السماوية على وجوب حفظها، ألا وهي ضرورة العقل. إنها واجبة الحفظ والرعاية؛ لأن في حفظها قوام مصلحة البشرية؛ ففاقد العقل بالسكر، يسيء إلى نفسه ومجتمعه، ويوقع مجتمعه وبني ملته في وهدة الذل والدمار؛ فيخل بالأمن، ويروع المجتمع.

أيها الناس، إن أمة لا تحافظ على عقول بنيها لأمة ضائعة، ماذا فعل السكر بأهل الجاهلية؟ هل أعاد لهم مجدًا تليدًا أو وطنًا سليبًا؟ هل أخرجوا الناس من ظلمات الجهل والتيه إلى نور الهدى والاستقامة؟ لا، وكلا وألف لا.

عباد الله، فقدان العقل بالسكر عادة قبيحة، كانت تلازم أهل الجاهلية، عند معاقرتهم الخمرة، يقضون الليالي الساهرة، مع الأصحاب والخلان على احتسائها. وهم مع ذلك يعدونها وسيلة من وسائل الفخر والكرم، على حين فترة من الرسل، فصدرت الخمرة في مطلع معلقة هي من أشهر معلقات العرب السبع، التي قيل: إنها علقت على أستار الكعبة.

ثم يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم معلنا لأمته قولَه: «ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع » [صحيح الجامع: 2068]، ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم في حادث الإسراء، أنه قال:  «وأتيت بإناءين، في أحدهما لبن، وفي الآخر خمر، فقيل لي: خذ أيهما شئت، فأخذت اللبن، فشربت، فقيل لي: هديت الفطرة، أو أصبت الفطرة، أما إنك لو أخذت الخمر، غوت أمتك» [صحيح البخاري: 3437]، وفي بعض روايات ابن جرير رحمه الله أن جبريل قال: "أما إنها ستحرم على أمتك، ولو شربت منها لم يتبعك من أمتك إلا القليل". الله أكبر! إن قول جبريل عليه السلام  يؤكد أن الأمة المسلمة الحقة، لا يمكن أن تتبع شارب خمر، حتى ولو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاشاه عن ذلك ـ بأبي هو وأمي ـ صلوات الله وسلامه عليه.

إذًا لا يجتمع في الأمة لبن وخمر، بمعنى أنه لا تجتمع فطرة وخمر، فإما فطرة صالحة بلا خمر، وإما خمر وتيه بلا فطرة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن» [صحيح مسلم: 57]

عباد الله، إن الخمر التي كانت من مفاخر الجاهلية ومن تقاليدهم المألوفة، جاء الإسلام بإلغائها، وخلص الجماعة المسلمة من رواسب الخمرة، بعد أن رسخ دعائم التوحيد والعقيدة في نفوسهم، وأخرجهم من عبادة العباد وعبادة الشهوة والجسد، إلى عبادة الله وحده. وأخرج كثيرًا من الصحابة ـرضي الله عنهم من منادمة الخمرة، فصقلهم الإسلام صقلا هجروا بسببه كل عادة تغضب الله ورسوله.

أيها الناس، إن رذيلة المخدرات والمسكرات آفة خبيثة، لم تفش في عصر من العصور كما فشت في عصرنا الحاضر، شنها أعداء الإسلام على جميع بلاد المسلمين، بهدف تخديرهم، وإهدار طاقاتهم، وشل جهودهم، و عقولهم. لقد قام أعداء الإسلام، بزج كميات مخيفة من جميع أصناف المخدرات، إلى بلاد المسلمين حسدًا من عند أنفسهم، يريدون للأمة المسلمة أن تتورط بهذه السموم، فلا تخرج منها إلا بعد شدائد، وتعب مضن، وتوبة صادقة.

وقع جمع من الناس في براثنها، ورضعوا من أثداء المخدرات والمسكرات؛ فنقضوا بناء المجتمعات ونثروا أعضاءها، وبددوها شذر مذر، نفخت روح الحضارة العصرية في بعضهم نفخة كاذبة، وخيلت إليهم أنهم خلق وجيل، مغاير لما مر من الأجيال في التاريخ كله، زعم المتفننون منهم، أنهم خلق لا تنطبق عليهم سنة، ولا يخضعون لسابقة، رأوا في عصر الذرة، وعصر المعلومات، فقالوا للناس أجمع: أما علمتم أن الدنيا دخان وكأس سكر وغانية ؟!.

أمة الإسلام، كم من الآلاف في أمتنا، يعكفون على المسكرات والمخدرات، يهلكون أنفسهم عن طريق هذه السموم القتاكة، فأخذوا يزهقون أرواحهم، ويحفرون قبورهم بأيديهم حتى صاروا أشباحًا بلا أرواح، وأجسامًا بلا عقول.

أيها المسلمون، إن للمسكرات والمخدرات مضارَّ كثيرةً أثبتها الطب العصري، وأكدتها تجارب المجتمعات، وذكروا فيها أكثر من مائة وعشرين مضرة، دينية ودنيوية. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إن الحشيشة حرام، يحد متناولها كما يحد شارب الخمر، وهي أخبث من الخمر، من جهة أنها تفسد العقل والمزاج، حتى يصير في الرجل تخنث ودياثة، وغير ذلك من الفساد، وأنها تصد عن ذكر الله " .أ.هـ كلامه ـ رحمه الله ـ.

ومن أعظم مضار المسكرات والمخدرات، أنها تفسد العقل والمزاج. وما قيمة المرء إذا فسد عقله ومزاجه؟ يتعاطى المسكرات والمخدرات، فيرتكب الآثام والخطايا، وما يندم عليه حين يصحو، ولات ساعة مندم، ولقد روى القرطبي رحمه الله في تفسيره، أن أحد السكارى جعل يبول، ويأخذ بوله بيديه ليغسل به وجهه وهو يقول: اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين.

قال الضحاك بن مزاحم رحمه الله لرجل: ما تصنع بالخمر؟ قال: يهضم طعامي. قال: أما إنه يهضم من دينك وعقلك أكثر. وقال الحسن البصري رحمه الله: لو كان العقل يشترى، لتغالى الناس في ثمنه، فالعجب ممن يشتري بماله ما يفسده!

أيها الناس، في بلاد المسلمين، كثرت حوادث المخدرات، من مروجين ومدمنين، وكثرت الجرائم بتعاطيها، وأصبحت مكافحة المخدرات قضية تشغل الحكومات المختلفة. وكل هذا يتم في غياب وازع الإيمان. فاتقوا الله أيها المسلمون، اتقوا المسكرات المخدرات، واتقوا الخمر فإنها أم الخبائث.

أخرج النسائي وابن حبان في صحيحه، أن عثمان رضي الله عنه قام خطيبًا فقال: "أيها الناس، اتقوا الخمر؛ فإنها أم الخبائث، وإن رجلًا ممن كان قبلكم من العباد، كان يختلف إلى المسجد، فلقيته امرأة سوء، فأمرت جاريتها فأدخلته المنزل. فأغلقت الباب، وعندها باطية من خمر، وعندها صبي، فقالت له: لا تفارقني حتى تشرب كأسًا من هذا الخمر، أو تواقعني، أو تقتل الصبي، وإلا صحت، تعني: صرخت، وقلت: دخل علي في بيتي، فمن الذي يصدقك؟ فضعف الرجل عند ذلك وقال: أما الفاحشة فلا آتيها، وأما النفس فلا أقتلها، فشرب كأسًا من الخمر. فقال: زيديني. فزادته، فوالله ما برح، حتى واقع المرأة وقتل الصبي".

قال عثمان رضي الله عن: "فاجتنبوها، فإنها أم الخبائث، وإنه والله لا يجتمع الإيمان والخمر في قلب رجل، إلا يوشك أحدهما أن يذهب بالآخر". {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ .  إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ ۖ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} [المائدة:90، 91].

الخطبة الثانية:

الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله أيها المسلمون، واعلموا أن الإسلام تدرج في الخمر، حتى ختمها الله بالتحريم، ثم قال عز وجل: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} [المائدة:91]؛ فقال الصحابة رضوان الله عليهم: "انتهينا انتهينا".

ويشمل تحريم الخمر، جميعَ أنواعِ المسكرات؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام» [صحيح مسلم: 2003]. وشارب الخمر مستحق للعقوبة الدنيوية وهو أن يجلد ثمانين جلدة، ويحد شاربها وإن لم يسكر سواء أشرب الكثير أم القليل، بإجماع الصحابة رضوان الله عليهم. وإذا تكرر من الشارب الشرب، وهو يعاقب ولا يرتدع، فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " يقتل في الرابعة عند الحاجة إليه، إذا لم ينته الناس بدون القتل ".

وشارب الخمر فاسق، لا يسلَّم عليه، ولا يعاد إذا مرض، ولا تجاب دعوته، قال البخاري رحمه الله في الأدب المفرد: (باب لا يسلم على فاسق) وساق بإسناده إلى عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: "لا تسلموا على شرّاب الخمر". وقال أيضًا: "لا تعودوا شُرّاب الخمر إذا مرضوا".

وأما العقوبة الأخروية، فقد روى أبو داود وابن ماجه والترمذي، عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لعن الله الخمر، وشاربها، وساقيها، ومبتاعها، وبائعها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه» [صحيح الترغيب: 2356]. وقال صلى الله عليه وسلم: «من شرب الخمر في الدنيا، ثم لم يتب منها، حرمها في الآخرة» [صحيح البخاري: 5575]. وقال صلى الله عليه وسلم: «مدمن الخمر إن مات، لقي الله كعابد وثن» [صحيح الترغيب: 2364]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كل مسكر حرام، إن على الله عز وجل  عهدا لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال، قالوا: يا رسول الله، وما طينة الخبال؟ قال: عرق أهل النار، أو: عصارة أهل النار» [صحيح مسلم: 2002].

فاتقوا الله أيها المسلمون، وصلوا ـ رحمكم الله ـ على خير البرية وأفضل البشرية.

  • 14
  • 4
  • 36,458
المقال السابق
[59] آداب المساجد والمشي إليها (2-2)
المقال التالي
[61] آفة العين وطرق الوقاية والعلاج

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً