خطب مختارة - [64] أوصاف النار وأحوالها

منذ 2016-03-02

خلق الله الخلقَ ليعبدوه، ونصبَ لهم الأدلةَ على عظمته ليخافوه، ووصف لهم شدة عذابه ودار عقابه ليكون ذلك قامعًا للنفوس عن غيِّها وفسادها، وباعثًا لها إلى فلاحها ورشادها، فلنحذر ما حذَّرنا ربُّنا، وإن جهنم لهي أعظم ما حذرنا؛ فهي التي يُعذب الله فيها بعدله من شاء العذابَ الشديد، عباد الله نقف مع وصف هذه النار وأحوال أهلها؛ ليكون ذلك موقظًا لنا فنتقيَها.

الخطبة الأولى:

عباد الله، خلق الله الخلقَ ليعبدوه، ونصبَ لهم الأدلةَ على عظمته ليخافوه، ووصف لهم شدة عذابه ودار عقابه ليكون ذلك قامعًا للنفوس عن غيِّها وفسادها، وباعثًا لها إلى فلاحها ورشادها، فلنحذر ما حذَّرنا ربُّنا، وإن جهنم لهي أعظم ما حذرنا؛ فهي التي يُعذب الله فيها بعدله من شاء العذابَ الشديد، عباد الله نقف مع وصف هذه النار وأحوال أهلها؛ ليكون ذلك موقظًا لنا فنتقيَها.

إنها – يا عباد الله - دارٌ اشتدَّ غيظُها وزفيرها، وتفاقمت فظاعتها وحمي سعيرُها، سوداءُ مظلمة، شعثاء موحشة، دهماء محرقة، {لاَ تُبْقِى وَلاَ تَذَرُ} [المدثر: 28] لا يَطفأ لهبُها، ولا يَخمَد جمرُها، دارٌ خُصَّ أهلُها بالإبعاد، وحُرموا لذة المُنى والإسعاد، {جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ} [ص:56].

عباد الله، سالت العبرات، وترادفت الزفرات؛ بما ذكر الله جل وعلا وبما ذكر رسولُه صلى الله عليه وسلم؛ مِن أوصاف هذه النار ومَن يعذب فيها، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده؛ لو رأيتم ما رأيتُ لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرا، قالوا: وما رأيتَ يا رسول الله؟ قال: رأيتُ الجنةَ والنار» [صحيح مسلم: 426]، ويقول النعمان بن بشير رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطُب ويقول: «أنذرتكم النار، أنذرتكم النار، حتى وقعت خميصةٌ كانت على عاتقه عند رجليه» [صحيح الترغيب: 3659]

 إخوة الإيمان، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الجنة أقربُ إلى أحدكم من شراك نعله، والنارُ مثل ذلك» [صحيح البخاري: 6488]، وقال صلى الله عليه وسلم: «نارُكم هذه التي توقِدون جزءٌ واحد من سبعين جزءاً من نار جهنم، فُضِّلت عليها بتسعة وستين جزءاً، كُلُّهن مثل حرِّها» [صحيح الترمذي: 2589]. ألا وإنَّ ما تجدون من حرِّ الصيف وهجير القيظ نفسٌ من أنفاسها يذكِّركم بها، روى البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اشتكت النار إلى ربها فقالت: يا رب، أكل بعضي بعضاً، فأذِن لها بنفسين: نفسٍ في الشتاء ونفسٍ في الصيف، فأشدُّ ما تجدون من الحرِّ ؛ وأشدُّ ما تجدون من الزمهرير» [صحيح البخاري: 3260]

وفي عظمة خِلقة هذه النار روى الإمام مسلم على النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يؤتَى بجهنمَ يوم القيامة لها سبعون ألفَ زمام، مع كل زمام سبعون ألفَ ملكٍ يجرونها» [صحيح مسلم: 2842]، يؤتى بها – عباد الله - تَطْفَح عن شدة الغيظ والغضب، ويوقنُ المجرمون حين يرونها بالعطب، ويجثو الأمم حينئذ على الركب، ويتذكر الإنسان سعيه، {وَأَنَّى لَهُ الذّكْرَى . يَقُولُ يلَيْتَنِى قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى . فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ . وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} [الفجر: 23:26]

نارٌ قعرها وعمقها سبعون سنة، سمع النبيُ صلى الله عليه وسلم وجبةً (أي صوت شيء سقط) فقال لأصحابه: «هذا حجرٌ رُمي به في النار مُنذ سبعين خريفًا، فهو يهوي في النار الآن؛ حتى انتهى إلى قعرها» [صحيح مسلم: 2844]. ويُنصب الصراط على متن جهنم؛ ولا يدخل أحد الجنة حتى يمرَّ عليه، فيمرُ المؤمنون على قدر أعمالهم، فناجٍ مسلَّم، ومخدوشٍ مُرسل، ومكدوسٍ في نار جهنم.

مِن أهل النار من تأخذُه النار إلى كعبيه، ومنهم من تأخذُه إلى ركبتيه، ومنهم من تأخذُه إلى حُجْزَتِه، ومنهم من تأخذه النار إلى تَرْقُوته. يُساق أهلُها إليها، نَصِبون وَجِلون، يُدَعُّون إليها دعًّا، ويُدفعون إليها دفعًا، يُسحبون في الحميم ثم في النار يُسجَرون، النار تغلي بهم كغلي القدور، {إِذَا أُلْقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقًا وَهِىَ تَفُورُ} [الملك:7].

يستغيثون من الجوع، فيغاثون بأخبث طعام أُعِدَّ لأهل المعاصي والآثام، {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ . طَعَامُ الأَثِيمِ . كَٱلْمُهْلِ يَغْلِى فِى الْبُطُونِ . كَغَلْىِ الْحَمِيمِ} [الدخان:43-46]، ويُغاثون بطعام من ضريع، لا يسمن ولا يغني من جوع، شوكٍ يأخذ بهم لا يدخل في أجوافهم ولا يخرج من حلوقهم، ويغاثون بغِسلينِ أهل النار، وهو صديدهم ودمهم الذي يسيل من لحومهم، فإذا انقطعت أعناقهم عطشًا وظمأ سُقوا من عين آنية، قد بلغت منهى الحَرّ، واشتدَّ لفحها، وأُغيثوا بحميم يقطِّع منهم أمعاءً طالما ولعت بأكل الحرام، ويحرق منهم أعضاء طالما أسرعت إلى اكتساب الآثام، ويشوي منهم وجوها طالما توجَّهت إلى معصية الملك العلام، {بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف: 29]، «وإن أهونَ أهلِ النار عذابًا من له نعلان وشراكان من نار يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل ( يعني القدر )، ما يرى أن أحداً أشد منه عذاباً، وإنه لأهونهم عذابًا» [صحيح مسلم: 213].

يعانون في جهنم ما بين النيران وسرابيل القطران ما يقطِّع الأكباد؛ ولا تطيقه الجبالُ الشداد، ويتحطَّمون في دركاتها، مقرَّنين في الأصفاد، أثقلتهم السلاسلُ والأغلال، قد شُدَّت أقدامهم إلى النواصي، واسودَّت وجوههم من ذلِّ المعاصي، لهم فيها بالويل ضجيج، وبالخلاص عجيج، أمانيهم الهلاك، وما لهم من أسر جهنم فكاك، {وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} [الحج:21]، {كُلَّمَا أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمّ أُعِيدُواْ فِيهَا وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الحج: 22]

وتُؤصَدُ عليهم الأبواب، ويَعظُم هناك الخَطْب والمُصاب، {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلّ بَابٍ مّنْهُمْ جُزْء مَّقْسُومٌ}  [الحجر:44]، ويُلقى عليهم البكاء والحزن، فيصيحون بُكِيًّا من شدَّة العذاب، وهم في فجاجها وشعوبها وأوديتها يهيمون، يُنادُون خازنَ النار: {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف: 77]، فيجابُون:{لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف:77]. فحُزنُهم دائمٌ فما يفرحون، ومقامهم محتومٌ فما يبرحون، يبكون على ضياع الحياة بلا زاد، فيا حسرتهم لغضب الخالق، ويا فضيحتهم بين الخلائق، ينادُون ويصطرخون: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَـالِحاً غَيْرَ الَّذِى كُـنَّا نَعْمَلُ} [فاطر:37]، {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَـالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة:12]، {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالّينَ . رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَـالِمُونَ} [المؤمنون: 106:107]، ينادُون إلهاً طالما خالفوا أمرَه، وانتهكوا حدودَه، وعادَوا أولياءَه، ينادُون إلهًا حقَّ عليهم في الآجلة حكمُه، ونزل بهم سخطه وعذابه،والجواب: {قَالَ اخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ} [المؤمنون: 108]

لا يُرحَم باكِيهم، ولا يُجاب داعيهم، قد فاتَهم مرادَهم، وأحاطت بهم ذنوبُهم، ولا يزالون في رجاء الفرج والمخرج حتى ينادي مناد: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت، {لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مّنْ عَذَابِهَا} [فاطر : 36]. 

نعوذ بالله من أليم عذابه؛ ومن سخطه وغضبه وناره، أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية:

عباد الله، تلك بعضُ أوصافِ النارِ وأحوالِ أهلِها، فاحذروا من النار، ومن قولٍ أو فعلٍ يقرِّب إلى النار، فإنكم اليوم في عصرِ فتنٍ والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: « حُجبت الجنة بالمكاره، وحجبت النار بالشهوات» [صحيح البخاري: 6487].

فاقطعوا مفاوزَ المكاره، واعدِلَوا بالنفوس عن موارد شهواتها، واحتموا بالعمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، واعلموا أنكم في أيام مُهل، من ورائها أجل، فمن لم ينفعه حاضرُه؛ هلك في آجله، وإنه لا نومَ أثقلُ من الغفلة، ولا رِقَّ أملكُ من الشهوة، ولا مُصيبةَ كموت القلب، ولا نذيرَ أبلغُ من الشيب، ولا مصيرَ أسوءُ من النار.

فيا عباد الله، اتقوا الله وراقبوه، وأطيعُوه ولا تعصُوه ؛ أنقذوا أنفسكم وأزواجَكم وأولادكم ومن تحت ولايتكم من النار، واتّعِظوا بمن كان قبلكم؛ قبل أن يتعِظ بكم من بعدكم، واقتفوا آثار التوَّابين، واسلكوا مسالكَ الأوَّابين، فهذا أوانُ الرجوع والاستغفار، والتوبة من الذنوب والأوزار.

يا عبد الله، يا من تعدَّى الحدود؛ وغاب عن الصواب، بادر بالمتاب، واغسل دنس الذنوب، وأنقذ نفسك من النار، قال صلى الله عيه وسلم: «ما منكم من أحد إلا سيكلِّمه ربُّه ليس بينه وبينه تَرجمُان ، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدَّم من عمله، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدَّم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاءَ وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة، ولو بكلمة طيبة» [صحيح البخاري: 7512]

اللهم إنا نسألك الجنة؛ ونعوذ بك من النار.

                                                                                            

  • 20
  • 2
  • 10,750
المقال السابق
[63] أهمية التوبة
المقال التالي
[65] التراحم

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً