خطب مختارة - [70] التوكل

منذ 2016-03-04

الأخذ بالأسباب من التوكل على الله؛ لكن المهم أن يبقى قلبُ العبد بعد أن يعمل بالأسباب معلقًا بالله تعالى؛ لأنه سبحانه مسبب الأسباب؛ والقادر على كل شيء، أما المخلوق فليس عنده للعبد نفع ولا ضر ولا عطاء ولا منع ولا هدى ولا ضلال ولا نصر ولا خذلان ولا خفض ولا رفع ولا عز ولا ذل، إنما ذلك بيد الله الذي خلقه ورزقه ونصره وهداه، فأسبغ عليه نعمه، فإذا مسّه الله بضر فلا يكشفه عنه غيره، وإذا أصابه بنعمة لم يرفعها عنه سواه، وأما العبد فلا ينفعه ولا يضره إلا بإذن الله.

الخطبة الأولى:

حديثنا عن عبادة قلبية عظيمة القدر، ضل عنها كثير من المسلمين؛ إما للجهل بحقيقتها؛ وإما للعجز والتفريط فيها، إنها عبادة التوكل، قال الله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنكُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [المائدة: 23]، وقال تعالى: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3]، قال بعض أهل العلم: التوكل نصف الدين والنصف الثاني الإنابة، فإن الدين استعانة وعبادة؛ فالتوكل هو الاستعانة؛ والإنابة هي العبادة، ومصداق ذلك في قوله تعالى:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]، ومعناها: نحن لا نعبد إلا أنت يا الله، وبك نستعين على عبادتك؛ وعلى سائر أمورنا، فإنه لا معين لنا إلا أنت. وفي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «حسبنا الله ونعم الوكيل» [4563]؛ قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا له {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173]

وعند الترمذي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرفوعًا: "لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لزرقكم كما يرزق الطير تغدو خماصًا وتروح بطانًا"، وفي السنن من حديث أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قال حين يخرج من بيته: «بسم الله توكلت على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله.يقال له: هديت ووقيت وكفيت، فيقول الشيطان لشيطان آخر: كيف لك برجل قد هدي ووقي وكفي» [صحيح الجامع: 499]

ما هي حقيقة التوكل؟ الجواب: حقيقة التوكل هو صدقُ اعتمادِ القلب على الله عز وجل؛ وانطراحِه بين يديه في استجلاب المصالح ودفع المضار من أمور الدنيا والآخرة كلّها، وتفويضُ الأمور كلها إليه، وتحقيقُ الإيمان بأنه لا يعطي ولا يمنع ولا يضر ولا ينفع سواه، مع الرضا بما قدَّره سبحانه.

عباد الله، إن المعرفة واليقين بقدرة الله ونفاذ مشيئته هي أول درجة يضع بها العبدُ قدمَه في مقام التوكل؛ فكل من كان بالله أعلمَ وأعرف كان توكلُه أصحَّ وأقوى. ومن جهل بعض الناس أنهم تركوا الأخذ بالأسباب؛ وهذا هو العجز الذي نهى عنه صلى الله عليه وسلم ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم: «احرص على ما ينفعك؛ واستعن بالله؛ ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل ؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان» [صحيح مسلم: 2664]، ولكن ليعلم المتوكل أنه يأخذ بالأسباب ولا يتعلق قلبه بها إنما القلب متعلق بالله. فأنت تطلب الوظيفة ولكن لا يتعلق قلبك بها، وتجمع مالا تُغني به ورثتَك من أهلٍ وأبناء؛ ولكن يبقى تعلقك بالله لا بهذا المال.

والأخذ بالأسباب من سنة المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام فقد لبس درعين يوم أحد ولم يترك لُبس الدروع محتجًا بأنه متوكل على الله. وقد كان صلى الله عليه وسلم وهو سيد المتوكلين يدخر لأهله قوت سنة -كما ورد ذلك في صحيح البخاري-.

من علامة التوكل الحق أن لا يبالي الإنسان بوجود الأسباب وعدمها؛ وإن كان يأخذ بها لأنه يعلم أن الأمر كله لله؛ وأن الأمر بيده؛ يقول للشيء كن فيكون. ومن يعتقد أن مخلوقًا حيًا كان أو ميتًا ينفع ويضر من دون الله فقد أفسد توكله على الله وأفسد توحيده ودينه.

ومن علامات التوكل التفويض، وهو روحُ التوكل ولبُّه؛ وحقيقته جعل أمورك كلها إلى الله وإنزالها به طلبًا واختيارًا لا كُرهًا واضطرارًا؛ بل كتفويض الابن العاجز الضعيف المغلوب على أمره كلَّ أموره إلى أبيه العالم بشفقته عليه ورحمته به وتمام كفايته وحسن ولايته وتدبيره له؛ فهو يرى أن تدبير أبيه له خير من تدبيره لنفسه؛ وقيام أبيه بمصالحه وتوليه لها خير من قيامه هو بمصالح نفسه وتوليه لها. والمفوض يفوض أمره إلى الله وهو يعلم أن ما يقضيه له الله خير؛ ولو كان قضاء الله بخلاف ما يظنه خيرًا أو يظهر له أنه ليس بخير، فهو يرضى به؛ لأنه يوقن بأنه خير؛ ولو خفيت عليه جهة المصلحة فيه.

ومن علامات التوكل الرضا؛ وهي ثمرة للتفويض وثمرة للتوكل؛ ولذلك فسر بعض العلماء التوكل بأنه الرضا بما يقضيه الله للعبد. وكان بعض العلماء يقول: المقدور يحيط به أمران: التوكل قبله والرضا بعده. فمن توكل على الله قبل الفعل ورضي بالمقضي له بعد الفعل فقد قام بالعبودية. وهذا هو معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء الاستخارة: «اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم»، فهذا توكل وتفويض ثم قال: «فإنك تعلم ولا أعلم، وتقدر ولا أقدر وأنت علام الغيوب» [صحيح البخاري: 1162]، فهذا تبرؤ إلى الله من العلم والحول والقوة؛ ثم توسل إليه بأسمائه وصفاته ثم سؤاله أن يقضي ويقدر له الخير. وهكذا عباد الله يعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم التوكل من خلال دعاء الاستخارة. فنسأل الله أن يجعلنا من المتوكلين؟ الذين قد تعلقت قلوبهم بالله فلا يرجون إلا الله ولا يدعون إلا الله، الذين يعملون الأسباب وتعلقهم بمسبب الأسباب. يعاملون الخلق واعتمادهم على الخالق. وبذلك نكون آوينا إلى من بيده مقاليد السماوات والأرض. ولم نتعلق بمخلوق لا يملك لنفسه ضرًا ولا نفعًا، فضلًا عن أن يملكه لغيره. 

الخطبة الثانية:

معاشر المؤمنين، إن المتوكل على الله لا يطلب رزق الله بمعصيته، ولا يخاف في هذه المسألة إلا الله. يعلم أن رزقه بيد الله لا بيد فلان، يعلم أن رزقه قد كُتب له وهو في بطن أمه، يقول صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: «إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً وأربعين ليلة ثم يكون علقة مثله ثم يكون مضغة مثله ثم يُبعث إليه الملك فيُؤْذَن بأربع كلمات فيكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد ثم ينفخ فيه الروح» [صحيح البخاري: 7454]

 فإذا كان الرزق قد كتب لك، وهو آت إليك، فلماذا الخوف ولماذا الوقوع في المشتبهات والمحرمات من أجل كسب الرزق. في الحديث عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيها الناس اتقوا الله وأجملوا في الطلب، فإن نفساً لن تموت حتى تستوفيَ رزقها؛ وإن أبطأ عنها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، خذوا ما حل؛ ودعوا ما حرم» [صحيح الجامع: 2742]

أيها المؤمنون، خَرقٌ للتوكل أن يترك العبدُ العملَ بالأسباب؛ كما أن التعلق بالأسباب أيضًا خرق للتوكل. فبعض الناس يترك العمل بالأسباب زعمًا منه أنه متوكل على الله، وقد ذم الله ترك العمل بالأسباب؛ وأنه ليست علامة توكل. روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون: نحن المتوكلون، فإذا قدموا مكة سألوا الناس فأنزل الله تعالى: {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة:197])» [1523]

فالأخذ بالأسباب من التوكل على الله؛ لكن المهم أن يبقى قلبُ العبد بعد أن يعمل بالأسباب معلقًا بالله تعالى؛ لأنه سبحانه مسبب الأسباب؛ والقادر على كل شيء، أما المخلوق فليس عنده للعبد نفع ولا ضر ولا عطاء ولا منع ولا هدى ولا ضلال ولا نصر ولا خذلان ولا خفض ولا رفع ولا عز ولا ذل، إنما ذلك بيد الله الذي خلقه ورزقه ونصره وهداه، فأسبغ عليه نعمه، فإذا مسّه الله بضر فلا يكشفه عنه غيره، وإذا أصابه بنعمة لم يرفعها عنه سواه، وأما العبد فلا ينفعه ولا يضره إلا بإذن الله.

فإذا كان الأمر كذلك فالواجب على العبد التوكلُ على الله والاستعانةُ به ودعاؤُه ومسألتُه دون ما سواه ؛ فهو الغني ونحن الفقراء إليه؛ وهو المحسن إلى عباده الذي أسبغ نعمه عليهم، فواجب على العبد أن يحب الله ويجتهد في عبادته بما شرع؛ ويتوكل عليه دائمًا وأبدًا

  • 35
  • 2
  • 70,911
المقال السابق
[69] التوبة
المقال التالي
[71] الجنة

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً