من يصلح للوعظ؟!

منذ 2016-03-07

فالمواعظ سياط القلوب، و"إنما يصلح التأديب بالسوط من صحيح البدن ثابت القلب قوي الذراعين فيؤلم ضربه فيردع فأما من هو سقيم البدن لا قوة له فماذا ينفع تأديبه بالضرب".

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:

فقد "كانت مجالس النبي -صلى الله عليه وسلم- مع أصحابه عامتها مجالس تذكير بالله وترغيب وترهيب إما بتلاوة القرآن أو بما آتاه الله من الحكمة والموعظة الحسنة وتعليم ما ينفع في الدين كما أمره الله -تعالى- في كتابه أن يذكر ويعظ ويقص وأن يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة" (لطائف المعارف، ص [15]).

وقد كان صلى الله عليه وسلم يعظ أصحابه حتى تذرف عيونهم، وتوجل قلوبهم، وقد سار على ذلك صحابته الكرام، والأئمة الأعلام، فكانوا يعظون الناس ويذكرونهم بالله.

فالمواعظ سياط القلوب، و"إنما يصلح التأديب بالسوط من صحيح البدن ثابت القلب قوي الذراعين فيؤلم ضربه فيردع فأما من هو سقيم البدن لا قوة له فماذا ينفع تأديبه بالضرب".

وقد كان المتقون السابقون يحاسبون أنفسهم، ويخافون من عاقبة الوعظ والتذكير إذا كان الواعظ أو الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر غير عامل بما يأمر وينهى، فقد قال رجل لابن عباس: "أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر؟"، فقال له ابن عباس: "إن لم تخش أن تفضحك هذه الآيات الثلاث فافعل وإلا فابدأ بنفسك"، ثم تلا: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ} [البقرة من الآية:44]، وقوله تعالى: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ . كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف من الآيتين:2-3]، قوله تعالى حكاية عن شعيب -عليه السلام-: {مَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود من الآية:88]"، وقيل لمطرف: "ألا تعظ أصحابك؟"، قال: "أكره أن أقول ما لا أفعل" (المصدر السابق، ص[17]).

وفي هذا الزمن كثر الوعاظ وقلَّ التأثير، ذلك أن البعض يتصدر للوعظ والإرشاد ولا همّ له إلا تحصيل الراتب الشهري الذي يتقاضاه مقابل ذلك، أو ما أشبه ذلك. والإخلاص لله عامل قوي في تأثير الخطيب والواعظ في مستمعيه.

وعليه فليس كل الناس يصلحون للوعظ والإرشاد، وإنما يصلح لذلك من اتصفوا ببعض الصفات المهمة، ومن ذلك ما يلي:
أولاً: الإخلاص لله تعالى، وابتغاء وجه الله في الموعظة، قال بعض السلف: "إن العالم إذا لم يرد بموعظته وجه الله زلت موعظته عن القلوب كما يزل القطر عن الصفا". فلا يكون همه الدنيا ولا الجاه ولا أن يمدح ويثنى عليه.

ثانياً: أن تكون هذه الموعظة نابعة من القلب؛ كما قال بعضهم: "لا تنفع الموعظة إلا إذا خرجت من القلب فإنها تصل إلى القلب، فأما إذا خرجت من اللسان فإنها تدخل من الأذن ثم تخرج من الأخرى".

ثالثاً: أن يكون الواعظ عاملاً بما سيعظ الناس به؛ فقد روي أن بعض الواعظين أراد أن يعظ الناس في فضل عتق الرقبة، فلم يعضهم حتى تمكن هو من عتق رقبة ثم وعظهم بعد ذلك.

وجاء في بعض الكتب السابقة: "إذا أردت أن تعظ الناس فعظ نفسك، فإن اتعظت وإلا فاستحِ مني"، بل جاء في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «يُؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى فيجتمع إليه أهل النار، فيقولون: يا فلان مالك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟، قال: بلى، كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه» (رواه مسلم).

قال الشاعر:

وغير تقي يأمر الناس بالتقى *** طبيب يداوي الناس وهو سقيم

وقال آخر:

يا أيها الرجل المعلم غيره *** هلا لنفسك كان ذا التعليم
فابدأ بنفسك فانهها عن غيها *** فإن انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك يقبل ما تقول ويقتدى *** بالقول منك وينفع التعليم
لا تنه عن خلق وتأتي مثله *** عار عليك إذا فعلت عظيم

ومع هذا كله فلابد للإنسان من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والوعظ والتذكير ولو لم يعظ إلا معصوم من الزلل لم يعظ الناس بعد رسول الله -صلى الله عليه – أحد؛ لأنه لا عصمة لأحد بعده.

إذا لم يعظ في الناس من هو مذنب *** فمن يعظ العاصين بعد محمد

وقيل للحسن: "إن فلانا لا يعظ ويقول: أخاف أن أقول مالا أفعل، فقال الحسن: وأينا يفعل ما يقول، ود الشيطان أنه ظفر بهذا فلم يأمر أحد بمعروف ولم ينه عن منكر".

وقال مالك عن ربيعة: قال سعيد بن جبير: "لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء ما أمر أحد بمعروف ولا نهى عن منكر".

من ذا الذي ما ساء قط *** ومن له الحسنى فقط

خطب عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- يوماً فقال في موعظته: إني لأقول هذه المقالة وما أعلم عند أحد من الذنوب أكثر مما أعلم عندي فاستغفر الله وأتوب إليه.

وكتب إلى بعض نوابه على بعض الأمصار كتابا يعظه فيه وقال في آخره: وإني لأعظك بهذا وإني لكثير الإسراف على نفسي، غير محكم لكثير من أمري، ولو أن المرء لا يعظ أخاه حتى يحكم نفسه إذا لتواكل الخير وإذا لرفع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإذا لاستحلت المحارم وقل الواعظون والساعون لله بالنصيحة في الأرض، والشيطان وأعوانه يودون أن لا يأمر أحد بمعروف ولا ينهى عن منكر، وإذا أمرهم أحد أو نهاهم عابوه بما فيه وبما ليس فيه كما قيل:

وأعلنت الفواحش في البوادي *** وصار الناس أعوان المريب
إذا ما عبتم عابوا مقالي *** لما في القوم من تلك العيوب
وودوا لو كففنا فاستوينا *** فصار الناس كالشيء المشوب
وكنا نستطب إذا مرضنا *** فصار هلاكنا بيد الطبيب

وكان بعض العلماء المشهورين له مجلس للوعظ فجلس يوماً فنظر إلى من حوله وهم خلق كثير وما منهم إلا من قد رق قلبه، أو دمعت عينه، فقال لنفسه فيما بينه وبينها: "كيف بك إن نجا هؤلاء وهلكت أنت"، ثم قال في نفسه: "اللهم إن قضيت علي غدا بالعذاب فلا تعلم هؤلاء بعذابي صيانة لكرمك لا لأجلي، لئلا يقال: عذب من كان في الدنيا يدل عليه، إلهي قد قيل لنبيك -صلى الله عليه وسلم-: اقتل ابن أُبي المنافق فقال: «لا يتحدَّثُ الناسُ أن محمدًا يقتُلُ أصحابَه» (صحيح البخاري [4905])، فامتنع من عقابه لما كان في الظاهر ينسب إليه وأنا على كل حال فإليك أنسب" (لطائف المعارف [17] بتصرف) .

والله نسأل أن يجعلنا من العلماء العاملين، وأن يوفقنا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إنه سميع قريب مجيب.

  • 0
  • -1
  • 6,922

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً