خطب مختارة - [73] الحجاب بتغطية الوجه

منذ 2016-03-07

إن من أعظم مقاصد هذا الدين إقامةَ مجتمعٍ طاهر، الخلقُ سياجه، والعفّة طابَعُه، والحشمةُ شعاره، والوقار دثاره، مجتمع لا تهاج فيه الشهوات، ولا تثار فيه عوامل الفتنة، تضيق فيه فرص الغواية، وتقطع فيه أسباب التهييج والإثارة.

الخطبة الأولى:

عباد الله، لقد بعث الله نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق، لا خير إلا دل الأمة عليه، ولا شر إلا حذرها منه. فشمل دينُه أحكامًا ووصايا، وأوامر وتوجيهات في نظام متكامل مربوط برباط الفضيلة بجميع أنواعها وشتى كمالاتها ووسائلها.

وإن من أعظم مقاصد هذا الدين إقامةَ مجتمعٍ طاهر، الخلقُ سياجه، والعفّة طابَعُه، والحشمةُ شعاره، والوقار دثاره، مجتمع لا تهاج فيه الشهوات، ولا تثار فيه عوامل الفتنة، تضيق فيه فرص الغواية، وتقطع فيه أسباب التهييج والإثارة.

ولقد خُصَّتِ المؤمنات بتوجيهات في هذا ظاهرة، ووصايا جليلة. فعفة المؤمنة نابعة من دينها، ظاهرة في حيائها وسلوكها، وفي لباسها وحجابها. ولقد شرع الله الحجاب ليحفظ هذه العفة ويحافظ عليها، وليصونها.

وأحكام الحجاب في كتاب الله، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم صريحة في دعوتها، واضحة في دلالته، ليست مقصورة على عصر دون عصر، ولا مخصوصة بفئة دون فئة. قال الله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّبِىُّ قُل لأزْواجِكَ وَبَنَـاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً}   [الأحزاب:59]. تقول أم سلمة وعائشة رضي الله عنهما: "لما نزلت هذه الآية خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من الأكسية".

ما هو الجلباب؟ الجواب: كل ساتر من أعلى الرأس إلى أسفل القدم، من ملاءة وعباءة، وكل ما تلتحف به المرأة فوق درعها وخمارها. وإدناء الجلباب يعني: سدله وإرخاؤه على جميع بدنها، بما في ذلك وجهَهَا. وفي تفسير ابن عباس رضي الله عنهما لهذا الآية: هو تغطية الوجه من فوق رأسها، فلا يبدو إلا عين واحدة. قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: "أمر سبحانه النساء بإرخاء الجلابيب لئلا يُعرفن ولا يؤذين، وقد ذكر عبيدة السلماني وغيره أن نساء المؤمنين كن يدنين عليهن الجلابيب من فوق رؤوسهن حتى لا يظهر إلا عيونهن لأجل رؤية الطريق، وثبت في الصحيح أن المرأة المحرمة تنهى عن الانتقاب والقفازين، وهذا مما يدل على أن النقاب والقفازين كانا معروفين في النساء اللاتي لم يُحرمن، وذلك يقتضي ستر وجوههن وأيديهن" (مجموع الفتاوى: 15/371 – 372).

ويقول الله عز وجل: {وَقُل لّلْمُؤْمِنَـاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَـارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ ءابَائِهِنَّ أَوْ ءابَاء بُعُولَتِهِنَّ} [النور:31].  عن عائشة رضي الله عنها  قالت: "يرحم الله نساء المهاجرات الأول لما أنزل الله وليضربن بخمرهن على جيوبهن شققن مروطهن فاختمرن بها"، قال ابن حجر شارح صحيح البخاري قوله: (فاختمرن) أي: غطين وجوههن. (فتح الباري: 8 / 490)، ويقول الإمام أحمد: الزينة الظاهرة: الثياب، ويقول: كل شيء من المرأة عورة حتى ظفرها، وقال: قد روي في حديث: (المرأة عورة)، وهذا يعمُّ جميعَها.. ) (شرح العمدة: 4/267 – 268 ). إذن ذكر الله في الآية زينتان: إحداهما لا يمكن إخفاؤها {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31]، ولم يقل إلا ما أظهرن منها، فعُلم بهذا: أن المراد بالزينة الأولى الثياب التي يتسترن بها إذ كيف تخفيها عن الأنظار، وهذا الثابت عن ابن مسعود رضي الله عنه، أما الزينة الثانية في الآية فزينة باطنة تستطيع المرأة أن تظهرها وتستطيع أن تخفيها كالحلي والقلادة فيباح إظهارها لمن ذكرتهم الآية: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ ءابَائِهِنَّ..} [النور: 31]، ويقال أيضًا: حينما رَخّصَ الله في إبداء الزينة أمام الأطفال وغير أولي الإربة من الرجال - والوجه مجمع الحسن ومحط الفتنة - علم أن كشفَه للبالغين وأولي الإربة من الرجال لا يجوز. وفي نفس الآية الكريمة: {وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ} [النور:31]. وهو ما يُتحلى به في الأرجل من خلخال وغيره، فإذا كان صوت الخلخال بريدًا إلى الفتنة، فكيف بالوجه الذي يحكي الجمال والشباب والنضارة ؟!.

إخوة الإيمان، أبيح للخاطب النظر من أجل الخطبة، فعلم بذلك أنّ غير الخاطب ممنوع من النظر. والمقصود الأعظم من النظر هو الوجه؛ ففيه يتمثل جمال الصورة. وأيضًا الصحابي الذي أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن ينظر إلى من أراد خِطبتها قال: فجعلت أتخبأ لها، ومن المعلوم أنها لو كانت هذه المرأة المقصودة للخطبة كاشفة الوجه بحضرة الرجال الأجانب لما احتاج أن يتخبأ لينظر إليها. 

حينما قال عليه الصلاة والسلام: «من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة» [صحيح البخاري: 3665]، قالت أم سلمة رضي الله عنها: فكيف يصنع الناس بذيولهن؟ - أي: الأطراف السفلى من الجلباب والرداء- قال: (يرخين شبرا)، قالت: إذن تنكشف أقدامهن. قال: (فيرخينه ذراعًا، ولا يزدن عليه). فإذا كان هذا في القدم فالوجه أكثر فتنة، والحكمة والعقل تأبيان سترَ ما هو أقلَّ فتنة، والترخّص في كشف ما هو أعظم فتنة.

 وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: "كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم  مُحْرِمَات فإذا حاذوا بنا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه". وقال الشيخ الألباني: حسن، ومما هو معلوم أن المرأة لا تضع شيئًا على وجهها حالَ إحرامها، ولكن عائشة ومن معها من الصحابيات كن يسدلن على وجوههن حينما يرون الرجال؛ لأن وجوب تغطية الوجه في حال مرور الرجال الأجانب واجب ولو كانت محرِمة.

وفي قصة الإفك تقول عائشة رضي الله عنها: فخمرت وجهي عن صفوان وكان يعرفني قبل الحجاب، وهذا يعني أنه رآها فجأة ثم بادرت إلى تغطية وجهها والذي كانت تكشفه قبل الحجاب.

اللهم ارزقنا ونساءنا العفة والطهر، أقول ما سمعتم.

الخطبة الثانية:

من الموجات التغريبية الأشد على المرأة المسلمة ما تهدف لنـزع حجاب المرأة المسلمة، وتدعو لاختلاطها، وتدعوها لمجالسة الرجال من غير محارمها، وكشف مفاتنها، وهذه الموجات التغريبية تزخرف لها الأقوال، عن طريق نقل الخلافيات، وتضخيم الأقوال الشاذة، وتزيين المسالك التي تبدو فيها متبرجة متزينة متعطرة، ملقية الحياء خلف ظهرها. باستخدام أناس من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، استخدموهم كمعاول هدم، فراحوا ينشئون قنوات تغريبية تنشر العري، وتجمّل الاختلاط، ثم راحوا يأتون بمن يحسبون على العلم والدعوة، والحسبة، ليفتنوا الناس بفتاوى وأقوال ضعيفة وفتاوى شاذة، تنشر الفحش في المجتمع.

ولنا مع هؤلاء سبع وقفات لئلا يطول بنا المقام:

الوقفة الأولى: إن الادعاء بأن القول بعدم وجوب تغطية الوجه هو رأي الفقهاء الثلاثة ورواية عن أحمد! أكذوبة علمية ابتدأها دعاة السفور قديمًا أيام قاسم أمين ومحمد عبده وغيرهما؛ وما زالت تردد إلى اليوم، والحق عكسُ ذلك تمامًا، وهو أن رأي الجماهير هو وجوب تغطية الوجه، وأما القول بالجواز فهو الرأي الشاذ تاريخيًا عبر العصور، ولم تَقبل به المجتمعاتُ المسلمة إلا بعد دخول الاستعمار. ولم تصح نسبةُ القول بجواز كشف وجه المرأة أما الرجال الأجانب لأحد من الأئمة الأربعة المتبوعين، وإنما وُجِد ذلك من بعض أتباعهم بفهم خاطئ عن أئمتهم، فالصحيح من أقوال أهل العلم قديمًا وحديثًا أن على المرأة أن تستر جميع بدنها حتى الوجه والكفين، بل إن الإمام أحمد يرى أن ظُفُر المرأة عورة، وهو قول مالك رحمهما الله تعالى، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: ".. وهو ظاهر مذهب أحمد؛ فإن كل شيء منها عورة حتى ظفرها، وهو قول مالك". (مجموع الفتاوى: 22/110).  

الوقفة الثانية: كثيرًا ما تكون الاستدلالات لهؤلاء بأدلة قبل نزول فرضية الحجاب في السنة الخامسة للهجرة.

الوقفة الثالثة: الكثير ممن نقل عن الفقهاء أقوالهم لم يفرق بين ما ذكر الفقهاء أنه يجب تغطيته في الصلاة، وما ذكروه في الحجاب، فإن الفقهاء إنما يذكرون عورة المرأة دائمًا في (باب شروط صحة الصلاة)، فيقولون وكل المرأة عورة إلا وجهها وكفيها وهم إنما يقصدون عورتها في الصلاة. نبّه شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالة "الحجاب" إلى أنه من أخطاء متأخري الفقهاء ذكر عورة المرأة في باب شروط الصلاة، وأنه نتيجة لذلك ربط كثيرٌ منهم بين عورة المرأة داخل الصلاة وخارجها - مع أنه لا تلازم. ويقول ابن القيم: "العورة عورتان: عورة في الصلاة، وعورة في النظر، فالحرة لها أن تصلي مكشوفة الوجه والكفين، وليس لها أن تخرج في الأسواق ومجامع الناس كذلك".

الوقفة الرابعة: ما نسب إلى ابن عباس رضي الله عنهما حول تفسير {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} بأن ما ظهر منها الوجه والكفان؛ كلُّ أسانيدها ضعييفة، بل جاء عنه عكس ذلك، ففي تفسير آية الحجاب:{يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ} [الأحزاب: 59]، يقول ابن عباس رضي الله عنهما: "أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب، ويبدين عينا واحدة" وعلى فرض أنه صح عنه جواز كشف الوجه فيقال: طالما تعارضت أقواله فيحمل قوله بجواز كشف الوجه أنه قبل فرض الحجاب.

الوقفة الخامسة: من يقول بخصوصية الحجاب بزوجات النبي صلى الله عليه وسلم، يقال له: 1- أين الآيات الأخرى التي فيها الأمر لنساء المؤمنين. 2- إذا كان أُمرن فغيرهنّ من باب الأولى وهنّ أمهات المؤمنين. وإذا لم يكن تأسي نساء المؤمنين بأمهات المؤمنين فبمن يكون تأسيهن. 3- القاعدة الشرعية في نصوص القرآن والسنة أن ما خوطب به الآحاد يعم جميع الأمة إلا إذا وجد الدليل على الخصوصية. 4- ما ذكر في الآيات من الحكمة العظمى للحجاب {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب: 53]، أليس هذا الطهر كل المسلمين والمسلمات بحاجة إليه وليس فقط زوجات النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة.

الوقفة السادسة: الاستدلال لجواز كشف الوجه بحديث الخثعمية التي في حجة النبي صلى الله عليه وسلم والتي كانت كاشفة لوجهها، الروايات تثبت أنها كانت بولي أمرها وكانت تعرض نفسها ليتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم.

الوقفة السابعة والأخيرة: كلّ الفقهاء الذين قالوا بجواز كشف وجه المرأة يشترطون عدم وجود الفتنة فإذا وجدت الفتنة فجميع الفقهاء يتفقون على وجوب تغطية الوجه.    

اللهم وفقنا ونساءنا للتمسك بدينك. اللهم احفظ نساءنا ونساء المسلمين وبناتنا وبنات المسلمين من دعاة الفتنة والإفساد. اللهم ارزقهن المحافظة على هذا الحجاب، وارزقهن العفة والحياء، وجنبهن أن يَفتنَّ أو يُفتنَّ. اللهم أرنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه، اللهم اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك.

  • 10
  • 2
  • 21,039
المقال السابق
[72] الجنة والنار
المقال التالي
[74] الحث على حفظ اللسان

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً