المسيح الدجال - [4] المطلب الثالث: فتنة الدجال، وكيف نتقيها، وماذا نفعل إذا وقعت (1)
من أعظم الفتن التي تمر على الناس أجمع فتنة الدجال، لذلك كان خروجه من أشراط الساعة الكبرى، وفي صحيح مسلم، عن عمران بن الحصين قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة خلق أكبر من الدجال»"، وفي رواية: «أمر أكبر من الدجال»[1].
فتنة الدجال:
من أعظم الفتن التي تمر على الناس أجمع فتنة الدجال، لذلك كان خروجه من أشراط الساعة الكبرى، وفي صحيح مسلم، عن عمران بن الحصين قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « »"، وفي رواية: « »[1].
بل إنه -ذكر- أن فتنة الدجال قريبة في شدتها من فتنة القبر -أعاذنا الله منهما- ففي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: « »[2]، لذلك كان كل نبي ينذر أمته الأعور الدجال؛ مخافة أن يخرج فيهم؛ إذ هو من أشراط الساعة الكبرى، والساعة لا يعلم وقتها إلا الله تعالى، لذلك كان كل نبي ينذره قومه، وكان محمد صلى الله عليه وسلم من أشدهم تحذيراً وبياناً لصفته، وبياناً لما يجري على يديه من فتن وخوارق تضل الناس، ومن هذه الفتن:
1. جنته وناره:
فالدجال معه جنة ونار، أو معه ما يشبه نهراً من ماء، ونهراً من نار، وواقع الأمر ليس كذلك كما يبدو للناس؛ فإن الذي يرونه ناراً إنما هو ماء بارد، وحقيقة الذي يرونه ماءً بارداً نار.
ففي صحيح مسلم، عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « » (صحيح مسلم بشرح النووي [18/62])، وفي صحيح البخاري، عن حذيفة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الدجال « » (صحيح البخاري كتاب الفتن، باب ذكر الدجال).
وقيل: كيف تكون ماؤه ناراً، وناره ماء.. أهو على الحقيقة أم على سبيل التخيل؟!!! قال ابن حجر: "إما أن يكون الدجال ساحراً فيخيل الشيء بصورة عكسه، وإما أن يجعل الله باطن الجنة التي يسخرها الدجال ناراً، وباطن النار جنة، وهذا الراجح. وإما أن يكون ذلك كناية عن النعمة والرحمة بالجنة، وعن المحنة والنقمة بالنار، فمن أطاعه فأنعم عليه بجنته يؤول أمره إلى دخول نار الآخرة وبالعكس، ويحتمل أن يكون ذلك من جملة المحنة والفتنة، فيرى الناظر إلى ذلك من دهشته النار فيظنها جنة وبالعكس" (فتح الباري).
2. استجابة الجماد والحيوان لأمره:
من فتنته التي يمتحن الله بها عباده أنه يأمر السماء فتمطر، والأرض فتنبت، ويدعو البهائم فتتبعه، ويأمر الخرائب أن تخرج كنوزها المدفونة فتستجيب، ومعه من جبال الخبز والطعام الوفير ما يكون فتنة للناس، خاصة مع فقرهم وحاجتهم وجدب الأرض وقحطها، فمن فتنته من أطاعه أمطر له السماء، وأنبت له الأرض، وأطعمه وأغناه، ومن عصاه وكذبه كان أحوج وأعوز ما يكون.
وفي حديث النواس بن سمعان، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « » (صحيح مسلم شرح النووي [18/66]).
3. سرعته في الأرض ووطؤه بقاعها إلا ما حُرم عليه فيها، وفي الحديث: قلنا: "يا رسول الله، وما إسراعه في الأرض؟"، قال: « » (صحيح مسلم شرح النووي [18/66]).
4. استعانته بالشياطين في التمثل بصور أشخاص ماتوا، يزعم أنه يحييهم، كما سيأتي معنا في حديث الأعرابي، وفتنته له بزعمه أنه يحيي أمه وأباه وهو كاذب، وإنما هما شيطانان تصورا بصورة أبيه وأمه.
5. فتنته في الإحياء والإماتة:
قتله ذلك الشاب القوي الإيمان الذي يخرج للدجال، ويجهر بكذب الدجال، وبطلان الربوبية، فيشقه الدجال جزلتين يمشي بينهما، ثم يعيده مرة أخرى، فيقول الشاب: ما ازددت فيك إلا بصيرة وأنك أنت الأعور الدجال، فيذهب ليضرب عنقه فلا يستطيع، فيقذف به في نار الدجال، فيحسب الناس إنما قدمه إلى نار حقيقية، وإنما ألقي في الجنة، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذكر خبره: « »[3].
هذه الفتنة العظيمة للدجال هي من أول أشراط الساعة الكبرى؛ إذ الأشراط الكبرى على قسمين:
1. أمارات للساعة تدل على قربها كالدجال، ونزول عيسى، ويأجوج ومأجوج، والخسف.
2. وأمارات تدل على حصولها، وبها يغلق باب التوبة، وأولها طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة، والدخان، والنار التي تحشر الناس[4].
ولم يرد حديث يرتب لنا أشراط الساعة، بل ذكرت أحاديث كثيرة تجمع بين بعضها حيناً، وتفرق أخرى وفي بعض الأحاديث ذكرت بعض الأشراط، ووصفتها بأنها أول الأشراط أو آخرها، من ذلك ما روى مسلم في صحيحه، عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال: "اطلع النبي صلى الله عليه وسلم علينا ونحن نتذاكر، فقال: « ؟»، قالوا: "نذكر الساعة"، قال: « »، فذكر الدخان، والدجال، والدابة، وطلوع الشمس، من مغربها، ونزول عيسى ابن مريم عليه السلام، ويأجوج، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم"[5].
وورد في طلوع الشمس من مغربها قوله صلى الله عليه وسلم: « »[6].
وبخروج الشمس من مغربها يقفل باب التوبة، ولا يقبل إيمان ولا عمل؛ لما ورد في صحيح البخاري قوله صلى الله عليه وسلم: « ً»[7]، والنصوص تدل بسياقها وأحداثها على أن خروج الدجال، ونزول عيسى عليه السلام، ويأجوج ومأجوج قبل طلوع الشمس من مغربها، إذ ما زال باب التوبة والإيمان مفتوحاً، وعيسى عليه السلام لا يقبل إلا الإيمان، لذلك وجه العلماء هذا الحديث المصرح بأن طلوع الشمس من مغربها هي أول الآيات العظام المؤذنة بتغير أحوال العالم العلوي، وينتهي ذلك بقيام الساعة.
وقيل: هي أولية نسبية، فهي أول بالنسبة إلى كذا، وذاك أول بالنسبة إلى كذا، فطلوع الشمس من مغربها أول الآيات المؤذنة بتغير العالم العلوي، والدجال كما ورد في حديث آخر أنه أول الأشراط أولها بالنسبة للآيات المؤذنة بتغير أحوال العالم الأرضي.
وقيل: إن طلوع الشمس من مغربها أول الآيات التي ليست مألوفة، وإن كان الدجال، ونزول عيسى من السماء قبل ذلك، وكذلك خروج يأجوج ومأجوج كل ذلك أمور مألوفة؛ لأنهم بشر مشاهدة مثلهم مألوفة.
أما خروج الدابة تكلمهم، وتَسِمْهُم بالإيمان أو الكفر فأمر خارج عن مجاري العادات، وذلك أول الآيات الأرضية، كما أن طلوع الشمس من مغربها على خلاف عادتها المألوفة، أول الآيات السماوية.
فخروج الدجال سابق على طلوع الشمس من مغربها، خلافاً لمن قال بالأولية المطلقة لطلوع الشمس من مغربها، وأنها أول الأشراط الكبرى[8].
أما بالنسبة لغلق باب التوبة فإنه يكون بطلوع الشمس من مغربها؛ لما تقدم من نصوص، والمفسرة[9]، لقوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام من الآية:158].
ولكن قد يشكل عليه ما رواه مسلم في صحيحه من طريق أبي حازم، عن أبي هريرة يرفعه: « »[10]، فالعلماء متفقون على أنه بطلوع الشمس من مغربها يغلق باب التوبة لتصريح النصوص بذلك.
أما عن الدجال فذكره مشكل؛ إذ نزول عيسى عليه السلام يعقب خروج الدجال، وعيسى لا يقبل إلا الإيمان، فينتفي أن يكون بخروج الدجال لا يقبل الإيمان ولا التوبة[11].
لذا قال البيهقي: "إن كان في علم الله أن طلوع الشمس سابق احتمل أن يكون المراد نفي النفع عن أنفس القرن الذين شاهدوا ذلك، فإذا انقرضوا، وتطاول الزمان، وعاد بعضهم إلى الكفر عاد تكليفه الإيمان بالغيب، وكذا في قصة الدجال: لا ينفع إيمان من آمن بعيسى عند مشاهدة الدجال، وينفعه بعد انقراضه".
ولكن ذكر ابن حجر -رحمه الله- عدة آثار يشد بعضها بعضاً تتفق على أن الشمس إذا طلعت من المغرب أغلق باب التوبة، ولم يفتح بعد ذلك، وأن ذلك لا يختص بيوم الطلوع، بل يمتد إلى يوم القيامة.
ويحتمل أن هذه النصوص في استمرار غلق باب التوبة لطلوع الشمس من مغربها فقط، ولا تشمل خروج الدجال، ومن أحسن ما قيل في هذه المسألة: إنه يحتمل معنى « »[12]، أي انتهى خروجهن كلهن، فمن لم يؤمن، ولم يتعظ عند خروج الآية الأولى - وهي الدجال - وهو يشاهد فتنه وضلالاته، فهو ممن ران الكفر على قلبه، فعند ذلك لا تنفعه توبته عند مشاهدة الآية العظمى، وهي طلوع الشمس من مغربها.
وهذا بمعنى الحديث الذي رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجه، وابن حبان، وغيرهم، عن ابن عمر: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « »[13]"، فالذي يمرض مرض الموت، ولا يبادر إلى التوبة أملاً من أنه سيشفى ويعيش بعده، لا تنفعه التوبة عند معاينة ملك الموت عند الغرغرة، وإن كانت تنفعه في حال المرض، والذي هو إشارة على قرب الموت.
---------------------------
[1] (صحيح مسلم بشرح النووي [18/86]، كتاب الفتنة، باب في بقية من أحاديث الدجال).
[2] (صحيح البخاري، كتاب الوضوء، باب من لم يتوضأ إلا من الغشي المثقل [1/288] من فتح الباري).
[3] (انظر: صحيح مسلم بشرح النووي [18/66]، وانظر: القيامة الصغرى للأشقر [237-241] باختصار وتصرف، أشراط الساعة للوابلي [313]).
[4] (انظر: فتح الباري [11/352] بتصرف، والقيامة الصغرى للأشقر [127]).
[5] (رواه مسلم في صحيحه، كتاب الفتن، باب في الآيات التي تكون قبل الساعة [18/27]، نووي، ورواه الترمذي في كتاب الفتن، باب ما جاء في الخسف [9/3] عارضة الأحوذي).
[6] (رواه مسلم في صحيحه، كتاب الفتن، باب في خروج الدجال [18/77]).
[7] (صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب[11/352]).
[8] (انظر: عمر أمة الإسلام [82]، فقد جاء أشراطها [74]).
[9] (انظر: تفسير الطبري [8/76]، تفسير القرطبي [7/94]، زاد المسير لابن الجوزي [3/159]).
[10] (صحيح مسلم الْإِيمَانِ (158، 158)، سنن الترمذي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ (3072، 3072)، سنن أبي داود الْمَلاَحِمِ (4312، 4312)، سنن ابن ماجه الْفِتَنِ (4068، 4068)، مسند أحمد (2/446، 2/446).
[11] (انظر: تفسير الطبري [8/77]، فتح الباري [11/353]).
[12] (صحيح مسلم الْإِيمَانِ [158]، سنن الترمذي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ [3072]، مسند أحمد [2/446]).
[13] (سنن الترمذي الدَّعَوَاتِ [3537،3537]، سنن ابن ماجه الزُّهْدِ ( [4253،4253] )، مسند أحمد [2/132، 2/132]).
- التصنيف: