تأمُّلات أُم - (8) هل تسمعني؟!
في يوم ما سألت صغيري عن شيء وكان يلهو بلعبة بين يديه، لا يعدوها بناظريه، فلم يرد على سؤالي؛ فظننت كلماتي لم تصل إليه؟! فأعدتها بصوت أعلى على أذنيه! فأجابني في الأخير على سؤالي غير مستغرب لعلوِّ صوتي وعجيب حالي!
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
نتابع أخواتي الكريمات ما مرّ بي من بعض التأملات عسى الله أن ينفع بها، وأبدأ مستعينة بالله سائلته التوفيق والسداد:
ما وظيفة الأذن؟
ومتى نقول: إن الإنسان قد سمع على الحقيقة؟
وهل هناك أنواع للسمع؟
كل تلكم الأسئلة سكنت خاطري؛ بعد الذي عاينَهُ من صغيري ناظري، ولنعد إلى البداية؛ نستعرض معا تسلسل تلكم الحكاية:
في يوم ما سألت صغيري عن شيء وكان يلهو بلعبة بين يديه، لا يعدوها بناظريه، فلم يرد على سؤالي، فظننت كلماتي لم تصل إليه؟! فأعدتها بصوت أعلى على أذنيه! فأجابني في الأخير على سؤالي غير مستغرب لعلوِّ صوتي وعجيب حالي!
كذا قلت له يومًا وقد هّم بلمس شيء ساخن: حذارِ سوف يؤذيك حره، فأمسكه بكلتا يديه كأنما لا يعنيه -أبدًا- أن يضره، أم تُراه لم يسمع ندائي؟! وتحذيري له ورجائي؟! وبعد صراخه من الألم، أخذت أعنفه، وأخبره أنه لنفسه قد ظلم !
وكنت أذاكر معه دروسه يومًا، فنبهته على خطأ يقع فيه دومًا، وأخذت أكرر له الصواب حتى غلب على ظني أن سوء فهمه قد غاب، ثم تركته وانصرفت لأمر ملح، وعاودت وهالني سدى صوتي الأبح؛ حيث رأيته قد وقع في الخطأ نفسه! وهنا أخذ بجماع نفسي العجب! أَكلُّ ما قلته قد ذهب؟!
وهذي بعض الأمثلة التي اضطرتني لتلكم الأسئلة، واستمرت تلكم الحال وشق عليّ تكرر مثل هذا المثال، حتى جاء يوم أساء فيه الخطاب، فعنفته وأرشدته إلى الصواب، وبعد قليل من الزمن أعاد الكلام نفسه، وكررت على سمعه ذات الملام، إلا أنه لم يرعوِ؛ وكأن عقله من معنى خطابي له لم يرتوِ، وزدت عليه لعقاب، وتوعدته أن يجعل لمثل هذا القول على لسانه إياب!
فقلت له وأنا من أذنه أجذبه، وعلى شنيع أفعاله أأنبه: ألم تسمع ما أقول؟! أم أن ما قلته عندك غير معقول؟!
لماذا لا تسمع الكلام؟
مهلاً، مهلاً:
ألم تسمع ما أقول؟! أم أن ما قلته عندك غير معقول؟!
لماذا لا تسمع الكلام؟
هنا يكمن جواب تلكم الأسئلة، والسر في استمرار صغيري على تلكم الأمثلة، فجلست موضعي وناظري شريد، لا أعي ما حولي خاطري مني بعيد.
وقد فجأتني تلكم المعاني، امتن الله علي بها؛ ليرفع عني ما منه أعاني.
لماذا نعته: "بأنه لا يسمع الكلام؟!" رغم أنه سمعه ويقيني بذلك تام؟!
وكأني لم أنتبه لمعنى هذه اللفظة إلا تلكم اللحظة! ولست بذا بين خلق الله متفردة؛ بل أنا للأسلاف والأقران في استعمالها مقلدة:
فكل من لا يستجيب ظاهره للكلام كمن لم يسمعه عن الناس تمام، ينزله الناس المنزلة نفسها، حيث جوارحهما عن الاستجابة للكلام معطلة إلا أنهم يعاقبون من وُجِّه إليه الكلام، أما من غاب عن السمع -حقيقة- عندهم فلا يلام.
سبحان الله كلمات ما أعمق معانيها، لا يكاد كثير من الخلق يدريها.
والخلاصة:
إن السمع عند الناس سمعان:
1- سمع لا يتجاوز الآذان، فلا يتبعه السامع بالاستجابة والعمل؛ فيكون بذا أهلا للعقاب والألم.
2- وسمع يعقله الجنان بعد سمعه بالآذان، يتبعه صاحبه بالاستجابة والعمل؛ فيكون بذا أهلا للثناء مُحَقَقًا فيه الخير والرجاء.
هنا انتهى دور الصغير فهو حتى يعي ذلك منا له المعذرة -هداه الله-؛ فقد جعله الله سبباً لكل خير وتذكرة. وزادني الله من أفضاله الكبرى، وتواترت على قلبي آياته تترى، وقد وعيت حينها من معانيها، ما غاب عني قبلُ وما كنت أدريها:
- حضرني قوله تعالى: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [الأنعام:36].
يستجيب الذي لم يقتصر سمعه على الآذان، بل وعاه وعقله بالجنان، فأثمر ذلك استجابة ظاهرة للعيان، وهنا سارعت إلى الآية أنظر تفسيرها، من كلام أهل العلم أتثبت من تأويلها:
قال السعدي في تفسيرها: "يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ} لدعوتك، ويلبي رسالتك، وينقاد لأمرك ونهيك {الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} بقلوبهم ما ينفعهم، وهم أولو الألباب والأسماع.
والمراد بالسماع هنا: سماع القلب والاستجابة، وإلا فمجرد سماع الأذن، يشترك فيه البر والفاجر. فكل المكلفين قد قامت عليهم حجة الله تعالى، باستماع آياته، فلم يبق لهم عذر في عدم القبول.
{وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} يحتمل أن المعنى، مقابل للمعنى المذكور. أي: إنما يستجيب لك أحياء القلوب، وأما أموات القلوب، الذين لا يشعرون بسعادتهم، ولا يحسون بما ينجيهم، فإنهم لا يستجيبون لك، ولا ينقادون، وموعدهم القيامة، يبعثهم الله ثم إليه يرجعون، ويحتمل أن المراد بالآية، على ظاهرها، وأن الله تعالى يقرر المعاد، وأنه سيبعث الأموات يوم القيامة ثم ينبئهم بما كانوا يعملون. ويكون هذا، متضمنا للترغيب في الاستجابة لله ورسوله، والترهيب من عدم ذلك" (انتهى تفسير السعدي:ص255).
وحضرني قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ}[يونس:67]، {وَاللَّـهُ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} [النحل:65].
ينتفع بالآيات من يوفق الله سمعه، فيسمع بأذنه فضلا عن قلبه.
وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ ۚ وَنَطْبَعُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} [الأعراف:100]. نعوذ بالله من سمع بالآذان دون العقل والجنان.
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَـٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَـٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179].
نعوذ بالله من أذن لا تسمع إلا سمعا تقام به الحجة ولا يلحقه سداد، ونعوذ به أن يحرمنا بذنوبنا سمعا التوفيق والرشاد.
وقوله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} [الأنفال:21]. سمعوا بالآذان دون القلب والجنان.
وقوله تعالى: {بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} [فصلت:4].
وهنا المعنى عجيب: هم في الظاهر معرضون، أما على الحقيقة:
فهم عن الانتفاع بما سمعوا مصروفون معاقبون، لو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم سمعا ينفعهم فيستجيبون، إلا أنهم لشرهم وقلة خيرهم عُوقبوا فحرموا سمع الإجابة، و وقع لهم سمع إقامة الحجة ليستحقوا به من الله عقابه وعذابه.
وأختم بحديث كنت كلما طالعته يعتريني العجب، فلم أكن أدري لإعراض حبر اليهود عن الإيمان من سبب: عن ثوبان مولى رسول الله رضي الله عنه قال: كنت قائماً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فجاء حبر من أحبار اليهود فقال: السلام عليك يا محمد! فدفعته دفعة كاد يصرع منها. فقال: لم تدفعني؟ فقلت: ألا تقول يا رسول الله! فقال اليهودي: إنما ندعوه باسمه الذي سماه به أهله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « »، فقال اليهودي: جئت أسألك. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: « » قال: أسمع بأذني. فنكت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعود معه. فقال: « »، فقال اليهودي: أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « » قال: فمن أول الناس إجازة؟ قال: « »، قال اليهودي: فما تحفتهم حين يدخلون الجنة؟ قال: « »، قال: فما غذاؤهم على إثرها؟ قال: « »، قال: فما شرابهم عليه؟ قال: « »، قال: صدقت. قال: وجئت أسألك عن شيء لا يعلمه أحد من أهل الأرض. إلا نبي أو رجل أو رجلان. قال: « »، قال: أسمع بأذني. قال جئت أسألك عن الولد؟ قال: ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر. فإذا اجتمعا، فعلا مني الرجل مني المرأة، « »، قال اليهودي: لقد صدقت. وإنك لنبي. ثم انصرف فذهب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ». وفي رواية: كنت قاعدا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال: « ». وقال: « ». ولم يقل: أذكرا وآنثا.(مسلم، صحيح مسلم، برقم:[315].
أترك لكُم التأمل والتعليق.
اللهم وفق أسماعنا، وأسمعنا سمعا ينفعنا وترضى به عنا، واجعلنا -بفضلك - ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
آمين.
- التصنيف:
- المصدر: