إعجاز القرآن الكريم - (13) من صور الإعجاز الفني في القرآن 2- 2

منذ 2016-04-24

ولا يخفى عليك ما يثيره هذان المشهدان في النفس من مشاعر الخوف والرعب والفزع؛ فبقدر ما في المشهد الأول من حركة التجهيز لساحة المحاكمة وإعداد الموازين، وما يرافق ذلك من تسليم نتائج الأعمال لأصحابها.. بقدر ما في المشهد الثاني من عنف وقسوة يُؤخذ بها هذا الجاحد الذي جُرِّد من حوله وطَوْله وقوته، فأصبح أعزل، لا حيلة له ولا تدبير.

تحدثنا في مقال سابق عن ثلاثة مشاهد قرآنية تصور بعض الخصائص الفنية التي تضمنها قوله تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ . وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً . فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ . وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ . وَالْمَلَكُ عَلَىٰ أَرْجَائِهَا ۚ وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ . يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَىٰ مِنكُمْ خَافِيَةٌ . فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ . إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ . فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ . فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ . قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ . كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ . وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ . وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ . يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ . مَا أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْ ۜ . هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ . خُذُوهُ فَغُلُّوهُ . ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ . ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ . إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ . وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ . فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ . وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ . لَّا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ} [الحاقة:13-37].

ونتابع الحديث في هذا المقال حول صورة أخرى من الصور الفنية التي اشتملت عليها هذه الآيات الكريمات.

تتبدى لنا هذه الصورة الفنية من خلال اعتمادها على مادة الحس والمشاهدة، إضافة إلى اعتمادها على جهة النفس والشعور، والمزج بينهما بطريقة أثيرة ومثيرة -في آنٍ معًا- مما يجسد لعين المتأمل جانبًا كبيرًا ومهمًا من نواحي الإعجاز الفني في القرآن الكريم، نلمسه من خلال ثلاث وقفات نفصل القول فيها شيئًا من التفصيل فيما يأتي:

في الوقفة الأولى: نطالع فيها (النفخة) التي يسمعها جميع الخلائق، والتي تقلب موازين الكون والحياة رأسًا على عقب، يبدو لنا ذلك من خلال مشهد حمل الأرض والجبال، وما يتبع ذلك من دكها دكة واحدة فقط لا ثانية لها، إذ لم يبق فيها ما يُدك بعد ذلك.

ونقف أيضًا على مشهد السماء وهي تتصدع، توشك أن تسقط فوق رؤوس الخلائق..

ثم يأتي بعدُ مشهدُ من يؤتى كتابه بيمينه، ليحمله بين يديه طالبًا من جميع أهل الموقف أن يقرؤوه..

ومشهد من يؤتى كتابه بشماله وهو يصرخ والألم يعتصر قلبه: {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ} إنها مشاهد حسِّية، وكأنها رأي عين.

الوقفة الثانية: وهي وقفة شعورية نفسية، تتضح من خلال الإخبار عن وقوع (الواقعة) حيث يُشعر هذا اللفظ بحالة من الخوف والرعب، وفقًا لجرسه الموسيقي ومعناه العام.. ثم يبدأ تصور حقيقة هذه الواقعة وما يحيط بها من أحداث ووقائع، كانتشار الملائكة على أطراف السماء، فإذا ما ربط الذهن بين انشقاق السماء وتصدعها، وبين انتشار الملائكة على أرجائها، اتضحت الحركة، وتمت أهداف المشهد، وأدى غايته في إطار الصورة العامة ليوم الفزع الأكبر.

أما الوقفة الثالثة: وهي وقفة تجمع وتمزج بين العنصر الحسي المُشاهد، والعنصر النفسي المُدرَك، يبدو ذلك في تجهيز ساحة العرض، التي لا تخفى فيها خافية واحدة، حيث يُصبح كل شيء مكشوفًا، مُعدًّا للحساب والجزاء، ويبدو كذلك في الأمر الإلهي الصادر في صورة حازمة جازمة قوية {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} وفي مشهد الملائكة وهم يجرونه مكبلًا بسلسلة يبلغ طولها سبعون ذراعًا.

ولا يخفى عليك أخي الكريم ما يثيره هذان المشهدان في النفس من مشاعر الخوف والرعب والفزع؛ فبقدر ما في المشهد الأول من حركة التجهيز لساحة المحاكمة وإعداد الموازين، وما يرافق ذلك من تسليم نتائج الأعمال لأصحابها.. بقدر ما في المشهد الثاني من عنف وقسوة يُؤخذ بها هذا الجاحد الذي جُرِّد من حوله وطَوْله وقوته، فأصبح أعزل، لا حيلة له ولا تدبير.

وعلى ضوء ما تقدم يتضح لنا جانبًا من جوانب الإعجاز الفني التي تضمنتها هذه الآيات الكريمات، وبدا لنا ما يتركه هذا الأسلوب التصويري من أثر بالغ في النفس الإنسانية من خلال ما يُضْفيه من صور حسية وظلال معنوية، وما يرافق ذلك من حركة وصوت تعمل جميعها على خلق صورة حية ومؤثرة غاية التأثير، ما لا قدرة لأحد مهما أوتي من أسباب البلاغة والبيان على الإتيان بمثله أو جزء منه.

نسأل الله أن ينفعنا بالقرآن العظيم وأن يجعله شافعًا لنا {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ . إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88-89].

  • 1
  • 0
  • 9,267
المقال السابق
(12) من صور الإعجاز الفني في القرآن 1-2
المقال التالي
(14) من الإعجاز التشريعي للقرآن تحريم الدماء

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً