كيفَ ثَبَتُوا؟!
وعلى العبدِ أن يحذرَ أشدَّ الحذرِ من الإعجابِ بالنَّفسِ؛ فإنَّه سبيلُ هلاكِها، والمُذهِبُ لبركةِ عملِها، وَلْيَكُنِ العبدُ على يقينٍ أنَّه مهما بذل وعمِل فإنَّه لا يزالُ مُقصِّرًا في جنبِ اللهِ عزَّ وجلِّ.
بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
اللهمَّ اهدِني وسدِّدْني
الحمدُ للهِ وحدَه، والصَّلاةُ والسَّلامُ على مَن لا نبيَّ بعدَه، وعلى آلِه وصحبِه أجمعينَ.
أمَّا بعدُ؛ ففي حديثٍ معَ بعضِ الأَحِبَّةِ عن صبرِ بعضِ الصَّالحينَ على العبادةِ وأدائِها، وحرصِهم على الإحسانِ فيها وإتقانِها، والاستمرارِ فيها، والثَّباتِ عليها، جاء التَّساؤلُ حاضرًا مُتلفِّعًا بالرَّغبةِ الجامحةِ والحاجةِ المُلِحَّةِ لمعرفةِ أسبابِ ثباتِهم واستمرارِهم على العبادةِ، بل وتَلذُّذِهم وأُنسِهم بها.
وعندَ التَّأمُّلِ في الجوابِ، خلصتُ إلى أنَّ ذلك يرجعُ إلى أمرينِ:
الأوَّلُ: أنَّ ما هُم فيه مِن هذا النَّعيمِ ما هو إلَّا بمحضِ مِنَّةِ اللهِ عليهم، وتوفيقِه لهم، وهذه مِن أجلِّ النِّعمِ وأحمدِها، فإذا وفَّق اللهُ العبدَ لطاعتِه، وفتح له بابَها، وأعانه على أدائِها؛ كان بحقٍّ مُهتدِيًا، وبالفضلِ مِن اللهِ مُتلبِّسًا.
ولذلك عندَما يُوفَّقُ العبدُ لعبادةِ اللهِ والثَّباتِ عليها؛ فعليه أن يبرأَ إلى اللهِ تعالى مِن حَوْلِه وقُوَّتِه، وطَوْلِه وحُنْكتِه، ويلجأَ إلى حولِ اللهِ وقُوَّتِه، ويُعلِنَ العجزَ والضَّعفَ للهِ، وَلْيَكُنْ دعاءُ العبدِ الدَّائمُ: (اللهمَّ إنِّي أَبرَأُ إليكَ مِن حولي وقُوَّتِي، وطَوْلي وحُنْكتِي؛ فلا حولَ ولا قُوَّةَ إلَّا بكَ يا رحمنُ)، فإنَّ هذا مِن أعظمِ أنواعِ الاعترافِ للمُنعِمِ بفضلِه، وأعظمِ أسبابِ الإعانةِ والتَّوفيقِ، والرَّحمةِ والتَّسديدِ.
وعلى العبدِ أن يحذرَ أشدَّ الحذرِ من الإعجابِ بالنَّفسِ؛ فإنَّه سبيلُ هلاكِها، والمُذهِبُ لبركةِ عملِها، وَلْيَكُنِ العبدُ على يقينٍ أنَّه مهما بذل وعمِل فإنَّه لا يزالُ مُقصِّرًا في جنبِ اللهِ عزَّ وجلِّ.
الثَّاني: يعودُ للعاملِ نفسِه، وبما سلك من أسبابٍ، وبذل من أمورٍ كانت مُعِينةً له -بعدَ اللهِ - على الثَّباتِ على هذه العبادةِ، والأُنسِ بها، ومنها:
1- صِدقُ النِّيَّةِ، وإخلاصُ العملِ للهِ عزَّ وجلَّ:
فإنَّ ثباتَ العبدِ على طاعةٍ من الطَّاعاتِ، واستمرارَه عليها طِيلةَ حياتِه، وهو كُلَّ يومٍ فيها في ازديادٍ، لهو دليلٌ واضحٌ وبرهانٌ بَيِّنٌ - في الغالبِ - على صدقِ نيَّتِه، وإخلاصِه للهِ تعالى، فالمنافقُ لا يَستمِرُّ على العبادةِ، ولا يأنَسُ بها، وصدَق مَن قال: "ما كان للهِ دام واتَّصلَ، وما كان لغيرِه انقَطع وانفَصل".
فعلى العبدِ أن يستحضرَ إخلاصَ النِّيَّةِ للهِ عزَّ وجلَّ، ويجاهدَ نفسَه على ذلك، ويُكثِرَ من قراءةِ سِيَرِ المُخلِصينَ؛ فإنَّ ذلك من أعظمِ ما يُعِينُه على الإخلاصِ.
2- المَطعَمُ الحلالُ:
إنَّ البدنَ مخلوقٌ من شيئينِ: طِينٌ لازبٌ، ونَفْخةُ رُوحٍ. فقِوامُ رُوحِه بالطَّاعةِ والعبادةِ، وقِوامُ بدنِه بالطَّعامِ والشَّرابِ، فإذا كانت الطَّاعةُ خالصةً وصحيحةً، والبدنُ طيِّبًا ونظيفًا؛ كان الأثرُ للعبادةِ ظاهرًا، والتَّأييدُ من اللهِ حاضرًا، أمَّا إن كان البدنُ بُنِي على حرامٍ، ونبت من سُحتٍ؛ فلا يُمكِنُ لهذا البدنِ أن يستمرَّ ويثبتَ على العبادةِ، ولذلك يقولُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «» (أخرجه أحمدُ والتِّرمذيُّ عن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ رضي اللهُ عنهما).
فإطابةُ المطعمِ والمشربِ من أعظمِ أسبابِ الثَّباتِ على الطَّاعةِ والاستمرارِ فيها؛ يقولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لا يَقبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ المُؤمِنِينَ بِما أَمَرَ بِهِ المُرسَلِينَ فقالَ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون:51]، وقالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:172] . ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ، يَا رَبِّ. وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِىَ بِالْحَرَامِ؛ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟!» أخرجه مسلمٌ عن أبي هريرةَ رضي اللهُ عنه.
3- المُجاهَدةُ على الطَّاعةِ:
فلا بدَّ لأيِّ عبادةٍ من العباداتِ من مُجاهَدةِ النَّفسِ والشَّيطانِ والهوى والدُّنيا، يقولُ اللهُ تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69]، ولذلك فَقِه السَّلفُ هذا المعنى فِقهًا عميقًا، يقولُ ثابتُ بن أَسلَمَ البُنَانِّي: "كَابدتُ الصلاةَ عشرينَ سنةً، وَتَنعمتُ بها عِشرِينَ سنةً" (السِّيَر [5/224]).
فالنَّفسُ البشريَّةُ تميلُ إلى الرَّاحةِ والكسلِ، ولا تحبُّ الجِدَّ والعملَ، ولذلك مَن خَطَمَ نفسَه بخِطامِ المُجاهَدةِ، وأَلزَمها بابَ المُراغَمةِ؛ فُتِح له بابُ العملِ والمُسارَعةِ.
4- تهيئةُ النَّفسِ للطَّاعةِ:
فالنَّفسُ البشريَّةُ، وكذلك البدنُ، بحاجةٍ إلى ترويضٍ ورياضةٍ، وتهذيبٍ ورعايةٍ، حتَّى يتمَّ الاستمرارُ على العملِ والأنسُ به.
عندَ التَّأمُّلِ فيمَن يدخلُ لعبادةٍ من العباداتِ دونَ تهيئةٍ لنفسِه وبدنِه لها، تجدُه ما يلبثُ أن يَفتُرَ أو ينقطعَ ويتركَ العملَ، وإن استَمرَّ فهو على ضعفٍ وتقصيرٍ وخللٍ فيها وعدمِ إتقانٍ، ولذلك فقد حَرَصتِ الشَّريعةُ وحثَّت على الاستعدادِ والتَّهيُّؤِ للعبادةِ؛ لِمَا له مِن أثرٍ طيِّبٍ عندَ أدائِها، ولِمَا يترتَّبُ عليه من ضبطِها وإتقانِها غالبًا.
ومِن أمثلةِ ذلك: التَّهيئةُ للصَّلاةِ بالطَّهارةِ، وللقيامِ بركعتينِ خفيفتينِ، وللزَّكاةِ بمُطلَقِ الصَّدقةِ، ولرمضانَ بصيامِ أغلبِ شعبانَ، وللحجِّ بالإحرامِ والتَّجرُّدِ والاغتسالِ ونحوِه.
5- الرِّفقُ بالنَّفسِ:
فالنَّفسُ تحتاجُ إلى تَرقٍّ وتَدرُّجٍ في العبادةِ، فتحميلُها فوقَ طاقتِها يعودُ عليها بالكسلِ والتَّركِ، يقولُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «» (أخرجه البخاريُّ عن أبي هريرةَ رضي اللهُ عنه)، وقال أيضًا: «» (أخرجه أحمدُ عن أنسٍ رضي اللهُ عنه)، وفي روايةٍ عندَ البيهقيِّ: « ».
أَلَا وإنَّ مِن الرِّفقِ بالنَّفسِ: التَّقليلَ عليها في أوَّلِ أمرِها، وعدمَ إثقالِها بالطَّاعاتِ؛ فالقليلُ الدَّائمُ خيرٌ من الكثيرِ المُنقطِعِ، يقولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «» (مُتَّفقٌ عليه من حديثِ عائشةَ رضي اللهُ عنها).
6- اختيارُ نوافلِ العباداتِ الَّتي يرى العبدُ من نفسِه إقبالًا عليها، ورغبةً في أدائِها؛ فإنَّ العباداتِ أرزاقٌ، فمِن النَّاسِ مَن رِزقُه في القرآنِ الكريمِ، ومنهم مَن رزقُه في الصَّلاةِ، ومنهم مَن رزقُه في العلمِ، ومنهم مَن رزقُه في الصِّيامِ، ومنهم مَن رزقُه في الجهادِ، ومنهم مَن رزقُه في الإصلاحِ بينَ النَّاسِ ونحوِ ذلك، وكلٌّ على خيرٍ.
7- دعاءُ اللهِ عزَّ وجلَّ بالثَّباتِ على العبادةِ:
ولذلك كان أكثرُ دعائِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «» (أخرجه أحمدُ، والتِّرمذيُّ، وابنُ ماجَهْ عن أنسٍ رضي اللهُ عنه)، فالقلوبُ والأبدانُ والأرواحُ مِلكُه سبحانه وتعالى فهو الَّذي يُصرِّفُها كيف يشاءُ، فسؤالُ مَن بيدِه الأمرُ والنَّهيُ، والانكسارُ والتَّمرُّغُ بينَ يديه لَمِن أعظمِ ما يُعِينُ العبدَ على العبادةِ ويُثبِّتُه عليها.
وقد كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُوصي مُعاذًا بكلماتٍ، وأمره أن يُحافِظَ عليهِنَّ دُبرَ كُلِّ صلاةٍ، وهذه الكلماتُ مبنيَّةٌ على التَّذلُّلِ للهِ بالدُّعاءِ أن يمدَّه بالعونِ على العبادةِ، وحسنِ أدائِها، يقولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «» (أخرجه أحمدُ، والتِّرمذيُّ، والنَّسائيُّ عن مُعاذٍ رضي اللهُ عنه).
8- استشعارُ فضلِ الثَّباتِ على الطَّاعةِ، وعظيمِ جزاءِ ما أَعدَّه اللهُ للطَّائعينَ، وفضلِ تلك العبادةِ بعينِها:
فمعرفةُ الفضلِ يسوقُ للازديادِ منها، والصَّبرِ على أدائِها، ولذلك مَن لاح له أجرُ العملِ هانت عليه مشقّةُ التَّكليفِ.
9- مُصاحَبةُ أهلِ الفضلِ، والهمَّةِ العاليةِ:
فصُحبتُهم تُعِينُ العبدَ على الثَّباتِ على الطَّاعةِ، وتُرقِّي هِمَّتَه. فصاحِبْ مَن هِمَّتُه أعلى مِن هِمَّتِكَ تَرتَقِ هِمَّتُكَ، ولا تَصحَبْ مَن هِمَّتُه أدنى مِن هِمَّتِكَ فتَدنُوَ هِمَّتُكَ.
ولذلك أمر اللهُ نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يصبرَ نفسَه معَ أهلِ الطَّاعةِ، يقولُ تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28].
10- تَذكُّرُ الموتِ:
فإنَّ تَذكُّرَ الموتِ واستحضارَ أمرِه في كُلِّ وقتٍ، وتَذكُّرَ القبرِ وضمَّتِه، والحسابِ وشِدَّتِه، والصِّراطِ وزلَّتِه، ومُنقلَبِ النَّاسِ فريقٌ في الجنَّةِ وفريقٌ في السَّعير،ِ لَيَحمِلُ العبدَ على الثَّباتِ على الطَّاعةِ، والازديادِ منها، والاستعدادِ للرَّحيلِ.
أسألُ اللهَ أن يُصلِحَ حالَنا، وأن يرزقَنا حسنَ الاستقامةِ على أمرِه، وأن يُعِينَنا على ذكرِه وشكرِه وحسنِ عبادتِه؛ إنَّه سميعٌ مجيبٌ؛ وصلَّى اللهُ على نبيِّنا مُحمَّدٍ، وعلى آلِه وصحبِه أجمعينَ
- التصنيف: