أخلاق الحروب في السنة النبوية

منذ 2010-06-01

«قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ»


إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعين به ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلل الله فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد..

 
فمنذ أن بدأ الوحي في التنزُّل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى أن أتمَّ الله عزَّ وجلَّ هذا الدين، وامتنَّ به على المسلمين قائلاً سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3].
 
منذ ذلك الحين وحياة الرسول صلى الله عليه وسلم تمثل النموذج التطبيقي الكامل الشامل لكلِّ ما جاء في القرآن الذي بلغ الذروة في الكمال والإتقان، وبلغ الغاية في الإبداع، ولم يترك صغيرة ولا كبيرة إلا وبيَّن حكمها، وطريقة التعامل معها، يقول تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:89].
 
 
جاءت السُّنَّة النبوية إذا تبين حكم القرآن في كل أمر، وتوضح الحلال من الحرام؛ حتى لا تترك شيئًا غامضًا يُزِيغ المسلمين عن الجادَّة، حتى يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه العرباض بن سارية: «قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ» [1].
 
وقد كان من لوازم شمول الإسلام، وكون سُنة الرسول صلى الله عليه وسلم هي المفسرة لأحكام القرآن أن كثَّف الله عزَّ وجلَّ كل الأحداث التي من الممكن أن تواجه المسلمين في أي زمان وفي أي مكان، وذلك في ثلاثٍ وعشرين سنةً فقط؛ حتى يتحقق التوجيه الإلهي الحكيم: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21].
 
 
لقد مرَّ الرسول صلى الله عليه وسلم في فترة رسالته بكل الظروف التي يمكن أن تواجه الأمة الإسلامية في كل زمان ومكان؛ فهذه ظروف حرب وهذه ظروف سلم، وهذه أيام غنى وهذه أيام فقر، وهذه فترات قوة وهذه فترات ضعف. وتعامل الرسول صلى الله عليه وسلم مع كافة أنماط البشر؛ فهذا مؤمن وذاك جاحد، وهذا هين لين سهل، وذاك فظ غليظ، وهذا صغير وذاك كبير، وهذا رجل وتلك امرأة. لقد كان هذا التنوع ضروريًّا؛ لكي يمنحنا الرسول صلى الله عليه وسلم منهجًا عمليًّا في التعامل مع البشر؛ لأننا أمة منوط بها تبليغ الإسلام للبشرية كافة في كل زمان ومكان، وتحت أية ظروف.
 
 
ولقد تعامل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كل الأمور التي واجهته بطريقة فذَّة، وبسُنَّة مطهرة أخرجت لنا كنوزًا هائلة من فنون التعامل، ومن آداب العلاقات، وقد برز في كل دقائق حياته العنصرُ الأخلاقيُّ، كعنصر مؤثر تمامًا على كل اختيار من اختياراته صلى الله عليه وسلم، فلا يخلو -حقيقةً- أيُّ قول أو فعل له صلى الله عليه وسلم من خلقٍ كريم، وأدب رفيع، بلغ إلى هذه الذروة، ووصل -بلا مبالغة- إلى قمة الكمال البشري، الأمر الذي نستطيع أن نفهم منه قوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِمَ مَكَارَمَ الأَخْلَاقِ» [2].
 
وهكذا فلا يخلو موقفٌ ولا حدثٌ ولا قولٌ ولا ردُّ فعلٍ من بروزٍ واضح لهذه الأخلاق الحميدة، حتى في المواقف التي يصعب فيها تصور الأخلاق كعاملٍ مؤثرٍ، وذلك كأمور الحرب والسياسة، والتعامل مع الظالمين والفاسقين والمحاربين للمسلمين والمتربصين بهم..
 
 
لقد كان من المستحيل عند أهل السياسة والاقتصاد والحرب والقضاء أن يضبطوا تعاملاتهم في هذه المجالات بالضوابط الأخلاقية والإنسانية، ولكن جاءت حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وسيرته العطرة لتنطق في كل لفتة من لفتات حياته بالالتزام بتلك الضوابط، ولا غرو، فهذا الخُلُق هو الذي وصفه الله تعالى بالعظمة، حيث قال في وصفه:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4].
 
 
لقد أثبتت سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم أنَّ الالتزام بالقواعد الإسلامية المثالية التي وردت في كتاب الله تعالى ليس ضربًا من الخيال، أو تحتاج إلى عالمٍ مثالي خالٍ من الشر والرذائل، بل هو أمر ممكن؛ لأنها قواعد واقعية إضافةً إلى كونها مثالية، قواعد يمكن تطبيقها والحياة بها كما استطاع الرسول صلى الله عليه وسلم أن يحيا بها، ولأنها هي أصلح القواعد لتنظيم حياة البشر، وأنها الدليل الواضح لمن أراد الهداية بصدق، كما كانت حياته صلى الله عليه وسلم ترجمة صادقة لكل أمر إلهي، وقد صَدَقَت ووُفِّقت أم المؤمنين عائشة [3] في وصف أخلاقه صلى الله عليه وسلم عندما قالت: كان خُلُقُهُ القرآن [4].
 
ولكنْ لأنه ليس كل مَن يرى يبصر؛ فإنَّ هذه الأخلاق العظيمة، والشمائل الجليلة لم تمنع نفرًا من البشر أن ينكروا فضل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويكذِّبون ما علمه جميع البشر من جميل خلاله، بل ساقهم الكِبر والعناد إلى التطاول على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والإساءة إليه.
 
وهذا النكران والجحود لفضل رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس له من سببٍ إلا الحقد أو الجهل؛ فالحاقد لا ينقصه علم ولا دراية.. إنه رأى الحق بوضوح، ولكنه آثر -طواعيةً- أن يتَّبع غيرَه، أمّا لماذا خالف وأنكر فلأسباب كثيرة: فهذا محبٌ لدنياه، وذاك مؤثرٌ لمصالحه، وهؤلاء يتَّبعون أهواءهم، وأولئك يغارون ويحسدون..
 
 
إنها طوائف منحرفة من البشر لا ينقصها دليل، ولا تحتاج إلى حجة، وفيهم قال ربنا تبارك وتعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل:14].
 
وهذه الطائفة موجودة في كل زمان، وهم أعداء الصلاح وأهله أينما كانوا، وهم الذين ينشرون الفحشاء، ويروجون للموبقات... إنهم كبار الضُّلاّل في كل عصر، وعتاة المجرمين، ورءوس الفتنة، يَضِلُّون ويُضِلُّون، ماتت ضمائرهم، وانتكست فطرتهم؛ فصاروا يرون الباطل حقًّا، والهداية ضلالاً؛ فاختاروا لأنفسهم ولأقوامهم طريق الضلال والغواية، وأعرضوا كل الإعراض عن كل دليلٍ يقود إلى خير، ووجَّهوا جلَّ اهتمامهم إلى حرب المصلحين والشرفاء!
 
ومن هذا الفريق كان فرعون وهامان وقارون، ومنه كان أبو جهل وأُبي بن خلف وأبو لهب، ومنه كان كسرى وقيصر، ومنه كان حُيي بن أخطب وكعب بن الأشرف..
 
مِنْ هؤلاء مَنْ تزيّا بزيِّ الملوك والسلاطين، ومنهم مَنْ تزيا بزي الأحبار والرهبان.. منهم مَنْ أمسك السيف وقاتل، ومنهم مَنْ أمسك القلم وطعن.. منهم اليهودي والنصراني والمشرك والمجوسي، ومنهم الملحد الذي ينكر الألوهية أصلاً، بل إن منهم المسلم ظاهرًا المنافق باطنًا!! وما قصة عبد الله بن أبي ابن سلول [5] عنَّا بخافية. إنه فريق خطير يحتاج المسلمون دائمًا إلى كشف أوراقه، وإلى فضح مخططاته ومؤامرته، وإلى تحذير العالمين من شروره وآثامه.
 
 
وقد مَنَّ الله تعالى على المسلمين بأن جعل أهل هذه الفِرقة - التي تحفل بقيادات الكفر من أمثال: فرعون وهامان وقارون، وأبي جهل، وأُبي بن خلف، وأبي لهب، وكسرى، وهرقل.- قِلَّة في بحر الذين يحاربون الإسلام، ويكذبون الأنبياء والمرسلين.. إنَّ هذا البحر حافل بنوع آخر غير هذه الفِرقة، هذا النوع الآخر الذي يمثل السواد الأعظم من المكذبين الجاحدين لرسالة الرسل، هو "عموم الناس" الذين لم يعرفوا الدين من مصادره الصحيحة، إنما صُوِّر لهم على أنه بدعٌ منكرة، أو تقاليد بالية، أو أفكار منحرفة، فانساقوا كالقطيع وراء الأبالسة، وساروا في ركابهم إلى هاويتهم، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا!!
 
 
إنهم الجهلة الذين لم يعرف العلم إلى عقولهم سبيلاً، أو البسطاء الذين يفتقرون إلى شرحٍ وتوضيح، أو حتى العقلاء الذين يحتاجون إلى دليلٍ وبرهان.
 
إن هذا الفريق الثاني يحتاج ببساطة إلى "العلم".
 
إنَّه لا يحارب الإسلام عن عداءٍ ورغبةٍ في الحرب، ولا يطعن في الرسول صلى الله عليه وسلم بُغضًا له، أو عن عقيدةٍ وفكرٍ وتصميم.
 
إنهم المساكين من العوام الذين يقودهم سادتهم إلى حتوفهم كما تُقاد الأنعام لا تستطيع لنفسه شيئًا!!
 
إنها الشعوب التي يحركها القادة كما تحرك الريح أوراق الشجر؛ فتلقي بها في أي مكان!!
 
إنهم "عموم الناس"!!
 
ما أكثرهم!!
 
وراجعوا التاريخ وتدبروا صفحاته..
 
 
هذه الشعوب التي طالما قُهِرت على الذل والعبودية والقهر، ونشأت على أن ملوكها من سلالة الآلهة كما آمن الشعب الفارسي قرونًا طوالاً، وأن الدين الصحيح هو دين مزدك [6] وأتباعه، ثم لما وصلتهم رسالة الإسلام، وعرفوا أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين الحقيقية، وسمعوا ما نُقِل إليهم من أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم الحكيمة، ما كان منهم إلا أن دخلوا في دين الله أفواجًا طائعين مسلمي قيادهم إلى الله تعالى ونبيه صلى الله عليه وسلم، لقد كان الحق والعدل الذي جاء به الإسلام هو ما يتمناَّه عامَّة الفُرس؛ فلما جاءهم أقبلوا عليه إقبال الشغوف المحب، ومصداق ذلك ما رواه الطبري عن أبي عثمان النهدي، قال: لما جاء المغيرة إلى القنطرة فعبرها إلى أهل فارس؛ حبسوه واستأذنوا رستم في إجازته، ولم يغيروا شيئًا من شارتهم تقويةً لتهاونهم؛ فأقبل المغيرة بن شعبة والقوم في زيهم عليهم التيجان والثياب المنسوجة بالذهب، وبُسُطُهم على غلوة لا يصل إلى صاحبهم حتى يمشي عليهم غلوة، وأقبل المغيرة وله أربع ضفائر يمشي حتى جلس معه على سريره ووسادته؛ فوثبوا عليه فترتروه وأنزلوه ومغثوه؛ فقال: كانت تبلغنا عنكم الأحلام ولا أرى قومًا أسفَهَ منكم؛ إنّا معشرَ العرب سواءٌ؛ لا يستعبد بعضُنا بعضًا إلا أن يكون محاربًا لصاحبه؛ فظننتُ أنكم تواسون قومكم كما نتواسى، وكان أحسن من الذي صنعتم أنْ تخبروني أنَّ بعضكم أرباب بعض، وأنَّ هذا الأمرَ لا يستقيم فيكم فلا نصنعه، ولم آتكم ولكن دعوتموني.. اليوم علمتُ أن أمركم مضمحل، وأنكم مغلوبون، وأنَّ مُلكًا لا يقوم على هذه السيرة، ولا على هذه العقول؛ فقالت السِّفلة: صدق والله العربي، وقالت الدهاقين: والله لقد رمى بكلام لا يزال عبيدنا ينزعون إليه، قاتل الله أَوَّلِينا؛ ما كان أحمَقَهم حين كانوا يُصَغِّرون أمر هذه الأمة" [7].
 
 
لقد فقه عوام أهل فارس من كلام المغيرة رضي الله عنه أنَّ دين الإسلام هو دين المساواة بين البشر، ومن ثَمَّ أقبلوا عليه، في حين شعر الدهاقين (وهم رؤساء الفلاحين) بالقلق؛ لأنهم يدركون شوق الرَّعية إلى هذه المساواة.
 
إننا - والله - لا نحتاج إلى إكراهٍ في الدين، ولا نسعى إلى إرغامٍ على عقيدة، فضلاً عن أننا مأمورون بالامتناع عنهما، قال تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة:256].
 
 
لقد تبيَّن لشعب فارس الرشدُ من الغي، لقد رأوا الحق وميَّزوا بينه وبين الباطل بوضوح، واختار جُلُّ الشعب طريق الفطرة التي زرعها الله تعالى في سويداء قلوب عباده {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30]، وأسلم غالب شعب فارس، ولم يستمر في الإنكار والتكذيب والمقاومة إلا رءوس الكفر وأئمة الضلال.
 
وما قلناه عن شعب فارس ينطبق على شعوب الشام ومصر وشمال أفريقيا، بل وعلى نصارى الأندلس والأناضول وشرق أوروبا، وكذلك ينسحب على شعوب شرق وغرب أفريقيا، وعلى أندونيسيا وأرض الملايو والهند وغيرها..
 
 
إنَّ السواد الأعظم من الناس يكفيه أن تعرض له حقيقة الإسلام، وأخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم وشمائله الكريمة ناصعة دون تجميل -إن كان ثمَّة إمكانية للتجميل- ليندفع نحو الإسلام مهرولاً عن يقين صادق.. من هنا نفهم ما ذكره ربنا تبارك وتعالى في كتابه محددًا بوضوح وظيفة الأنبياء: {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النحل:35].
 
ومن هنا كان تقصير المسلمين في تبليغ دعوة الإسلام هو المنفذ الذي ينفذ منه أئمة الكفر والفساد والغواية؛ ليعرضوا الإسلام على الناس حسب أهوائهم، ليضلُّوهم، ويُلَبِّسوا عليهم دينَهم.
 
 
إن قيادة الناس للهداية مسئولية جسيمة أمام الله تعالى، والمتكاسل عنها على خطر عظيم؛ لأنه يدفع الناس دفعًا إلى البحث عمَّن يقودهم ويأخذ بأيديهم، ولو كان جاهلاً!!
 
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالاً فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا» [8].
 
فالتخلي عن قيادة الناس وهدايتهم إلى الحق هو نقيض المهمة التي أوكلها الله تعالى إلى المؤمنين، فلقد قال الصحابي الجليل ربعي بن عامر [9] وهو يشرح ببساطة دور المسلمين في الأرض، ومهمتهم في الحياة.. لقد قال في إيجاز حكيم: "إن الله ابتعثنا لنُخرج مَن شاء مِن عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جَور الأديان إلى عَدل الإسلام" [10].
 
فهذه المهمة هي رحمة من الله تعالى بالبشر، والنكوص عنها هو ما دفع الكثيرين من الناس إلى حربنا، فالمرء عدو ما يجهل، فما بالك بمن لايجهلك فحسب، بل يعرف عنك -من المصادر الزائفة- ما يسوءك، ويشوه صورتك.
 
 
إننا نحتاج إلى إبراز مواطن العظمة والكمال في ديننا، وفي حياة نبينا صلى الله عليه وسلم. نحتاج أن نتحدث عن أنفسنا بأنفسنا، وأن نكتب عن أخلاقنا بأقلامنا، وأن نتحدث عن رسولنا صلى الله عليه وسلم بألسنتنا. لقد دخلتُ أكثر من مكتبة عملاقة في أوروبا وأمريكا لأرى الكتب التي تتحدث عن الإسلام، أو عن رسولنا صلى الله عليه وسلم باللغة الإنجليزية، وباللغات الأخرى، فوجدت العشرات بل والمئات، ولكن -يا للأسف- معظمها كُتبت بأيدٍ غير مسلمة!!
 
فقليل أنصف ودافع، وكثيرٌ ظَلَمَ وجَحَدَ وكَذَّبَ وافترى..
 
والسؤال: أين المسلمون؟!
 
أليس من ميادين الجهاد العظيمة أن يُكتَب عن دين الإسلام وعن رسوله صلى الله عليه وسلم ما يشرح الجمال والكمال والجلال لعباد الله أجمعين؟!
 
ألا يجب أن نغطي هذا المجال من كل جوانبه وبكل تفصيلاته؟!
 
ألا يجب أن نصل إلى الشعوب المسكينة التي أعماها الجهل، وغطَّى الرانُ على قلوبها، فما رأت عظمة الإسلام وأخلاقه وتشريعاته؟!
 
ألا يجب أن تُترجم كل هذه الفضائل إلى كل لغات العالم المشهورة وغيرها حتى نقيم حُجَّة الله على خلقه؟
 
 
قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم:4].
 
لا بد لنا أن نشعر بالتقصير ونحن نرى "عموم الناس" يعيشون حياتهم ليأكلوا ويشربوا ويتمتعوا فقط، وهم عن عبادة ربهم غافلون لاهون؟!
 
 
إننا محاسبون يوم القيامة عن هؤلاء الذين كرهوا الإسلام، وكرهوا خير البشر محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم لم يسمعوا عنه إلا من وسائل الإعلام اليهودية وما شابهها، ولم يقرءوا عنه إلا بأقلام المغرضين والملحدين؟!
 
إن المهمة بعد ثقيلة، والتبعة جد عظيمة..
 
 
إن العالم يحتاج لكمال شريعتنا، ويفتقر إلى قيادة رسولنا صلى الله عليه وسلم، وليست مهمة البلاغ بالهينة؛ فالأعداء متربصون، وإبليس لا يهدأ، والمعركة على أشدها، ولكن كل ذلك لا يخيفنا، فنُصْب أعيننا قول ربنا يُثَبِّتَ قلوبنا، ويرسخ أقدامنا: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف:31]
 
وبين أيدينا هذا البحث -الذي أسأل الله أن يجعله خالصًا لوجهه- نفتح فيه صفحةً واحدةً من الصفحات المبهرة في ديننا، وفي سيرة رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم.. نَصِف فيها كيف كانت أخلاقه صلى الله عليه وسلم في مجال الحروب، وهو مجال قلَّما تجد فيه أخلاقًا عند عموم القادة، غير أنه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم شيءٌ آخر تمامًا!!
 
 
إنها صفحة بيضاء نقية، ما أحسب أن الفلاسفة والمنظِّرين والمفكرين قد تخيلوا مرة في أحلامهم أنها يمكن أن تكون واقعًا حيًّا بين الناس، حتى إن أفلاطون [11] في جمهوريته، والفارابي [12] في مدينته الفاضلة، وتوماس مور [13] في مدينته الفاضلة الثانية (اليوتوبيا)، لم يصلوا في الأحلام والتنظير إلى عُشر معشار ما كان عليه رسولنا صلى الله عليه وسلم في حقيقته وواقعه.
 
ويا ليت المسلمين يدركون قيمة ما في أيديهم من كنوز فيدرسونها ويُطبِّقونها، ثم ينقلونها إلى مشارق الأرض ومغاربها؛ ليسعدوا وتسعد بهم البشرية، وليكونوا سببًا في هداية الناس لرب العالمين.
 
 
الجمعة، 28 مايو 2010 م

--------------------------------------------------------------------------------
[1] ابن ماجه (43)، وأحمد (17182)، والحاكم (331)، وقال الألباني: صحيح. السلسلة الصحيحة (937).
[2] الحاكم عن أبي هريرة (4221)، وقال: صحيح على شرط مسلم. ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، والبيهقي في سننه الكبرى (20571)، وقال الألباني: صحيح. السلسة الصحيحة (45).
 
[3] هي أم المؤمنين عائشة بنت الصديق، زوج النبي في الدنيا والآخرة. كانت أحب زوجاته إلى قلبه، وكانت من أعلم الصحابة، توفيت سنة 58هـ. انظر: الإصابة: الترجمة (11449)، أسد الغابة 6/ 191.
[4] أحمد (25341)، والبخاري في الأدب المفرد (308)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (4811).
[5] عبد اللّه بن أبي ابن سلول، وسلول المذكورة هي أمه، وعبد الله هو رأس النفاق في المدينة المنورة، وهو الذي رجع بثلاثمائة من المنافقين في أحد، وتوفي سنة 9هـ، وكفن في قميص الرسول صلى الله عليه وسلم . انظر: الكامل في التاريخ 1/293، تاريخ الأمم والملوك 1/469.
 
[6] مزدك: فيلسوف فارسي معروف، ظهر في أيام كسرى قباذ والد أنو شروان، ودعا قباذ إلى مذهبه فأجابه، واطَّلَع أنو شروان على افترائه فطلبه فقتله، وكان قد أحل النساء وأباح الأموال، وجعل الناس شركاء فيهما.
[7] الطبري: تاريخ الأمم والملوك 2/402، 403.
[8] البخاري: كتاب العلم، باب كيف يقبض العلم (100)، ومسلم: كتاب العلم، باب رفع العلم وقبضه (2673) عن عبد الله بن عمرو.
[9] ربعي بن عامر: صحابي جليل من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، شهد فتوح فارس، وبعثه سعد بن أبي وقاص إلى رستم رسولاً، وولاه الأحنف لما فتح خراسان على طخارستان. انظر: الإصابة (2567).
 
[11] أفلاطون: فيلسوف يوناني, وأحد أعظم الفلاسفة الغربيين, حتى إنَّ الفلسفة الغربية بكاملها اعتُبِرَت أنها ليست إلا حواشٍ لأفلاطون. عُرف من خلال مخطوطاته التي جمعت بين الفلسفة والشعر والفن. وكانت كتاباته على شكل حوارات ورسائل وقصائد. من أشهر كتبه جمهورية أفلاطون، وذكر فيه وصفًا خياليًّا لما يتصوره للمدينة المثالية.
[12] أبو نصر محمد الفارابي (260 - 339هـ): فيلسوف أتقن علوم الفلسفة، وبرع في العلوم الرياضية، وكذلك الطب وإن لم يمارسه. يُنسب إلى فاراب، وهي جزء مما يعرف اليوم بتركستان. من أشهر كتبه: المدينة الفاضلة.
[13] توماس مور: قديس وفيلسوف وسياسي إنكليزي، اشتهر بكتابه المدينة الفاضلة (اليوتوبيا). ولد سنة 1478م وتوفي سنة 1535م.

 

راغب السرجاني

أستاذ جراحة المسالك البولية بكلية طب القصر العيني بمصر.

  • 4
  • 1
  • 10,532

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً