هل السلفي مواطن مقدوح في وطنيته؟

منذ 2016-05-25

أليست المواطنة أخذا وعطاء ومحبة ورحمة وغيرة على الأرض والعرض، وصدق ولاء وبيعة شرعية؟

يسعى الكثير من الناس على اختلاف الطيف والوزع والانتماء، مع تفاوت الوقع والدرجة، بما في هؤلاء الناس، أولئك الذين اقتنعوا أو أقنعوا أنفسهم وغيرهم ممن استساغوا وصدقوا أن ثمة دين ومعه خصوصية تديّن مشرقي، ودين ومعه خصوصية تديّن مغربي، تجاوز فيه ملحظ الاختلاف والتضاد فروع الدين إلى أصوله وسلوكه، إلى الترويج إلى أن حقيقة الانتماء إلى الوطن وصدق الانتساب إلى مسقط الرأس ومهوى النفس له ضوابطه وقواعده على وفق مقاس هؤلاء دون غيرهم على الحصر والقصر، قواعد تؤثث وتؤسس وتؤشر في قبول ومأذونية لوجود صفة المواطنة من عدمها.

ولا شك أنها ضوابط وقواعد ومقاسات وأشكال وأنماط تسوّغ لهؤلاء استثناء الملتزمين ومن ينتسبون لمنهج السلف أو من يدينون بالدين والتدين أو التهريب الديني المشرقي، أو ممن يعتقدون اعتقادا جازما بكون رماد الأطراف يجب أن يبقى مخلصا في ارتباط لا انفكاك له لبؤرة موقد المركز وإشراقاته الأولى في دائرة وفلك الانتماء للأمة الواحدة بضابط قول الله عز وجل: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}[الأنبياء:92].

ومهم التنبيه على أنه  سعي وفزع واستثناء له آلياته، كما له استراتيجياته، كما له أهدافه ومقاصده، يدعمه في هذا الإطار إعلام بئيس، وتزيد من حدته طوائف وفرق، وتغذيه نعرات محلية عائدة ما فتئ صوتها يتعالى ويملأ الأركان والمنابر والجنبات بضجيجه المحموم، وتباكيه بزعم حق ووهم مصير تاريخي صنعه ومكّن منه سبق استيطان ونزوح تحكمت فيه الحاجة، وتحددت فيه وجهة الاستقرار عبر نوازع الفطرة وحب البقاء ليس إلا.

والغريب الذي تشذ به القواعد عن دعوى الاطراد، هو أن تجد في بلاد الحرمين ومهبط الوحي من يرفع شارة عين الاستثناء وعين تهمته من علمانيي هناك في وجه العلماء وطلبة العلم ومن ركب ويركب سفينة الانتساب إلى منهج السلف، فتجد القدح بالغ السعي والطعن في انتساب هؤلاء الأفاضل الأخيار، ولعله استغراب لا نسعى ولن نسعى إلى تبرير وقوعه بقدر ما نؤشر من خلاله على مدى أهمية بواعثه في خدمة الطرح الذي يعيد النظر في حقيقة الأسباب الكامنة وراء هذا الرمي وكبير صك الاتهام، إذ كيف يستقيم الاطراد، والتهمة قد استوعبت السلفي المغربي كما السلفي المشرقي، مع فارق وجب التنبيه على ملمحه ذلك هو الانفكاك الواقع بين الحالتين على مستوى الوجهة وتعلق الروح والفؤاد، حيث هنا التهمة هي تعلق الروح بالمشرق، وهناك حيث مهبط الوحي هي السفر بالروح والجسد إلى بؤر التوتر من أفغانستان والعراق وسوريا واليمن، ويستثنى بطبيعة الحال من هذا الاتهام شيعة الوطن الإسلامي بل يتغاضى ويسجل الصمت والتلميح حضورهما المدخول بخصوص إنابة وإخبات شيعة المنطقة وتعلق أرواحهم بإيران، حيث يتربع على سلطان النفوس خليفة مهدي السرداب وآية الله الولي الفقيه...

وليس المراد بالتنبيه نفي مطلق الاتهام وإنما المقصود التنزيه عن الاتهام المطلق، فكما أن في سلك الشرطة والدرك والجمارك والقضاء وسائر الوظائف حالات تنحرف في دائرة السلوك عن إخلاصها وأمانتها وصدق انتسابها للوظيفة والوطن، ولم يكن هذا الانحراف والإقرار بوجود مطلق تهمته علة أو سببا في إسباغ واستيعاب التهمة لكل هذا النسيج المؤسساتي، بل لم يسجل التاريخ مطلب هدم هذه المؤسسات أو الاستغناء عن خدماتها أو إخراج المنخرطين في صفوفها عن دائرة المواطنة أو الأخوة في الوطن الواحد تحت ذريعة وجود قلة تسيء إلى وظيفتها، أو تربطها بالوطن والمواطن علاقة مصلحة الطرف الوحيد وما دون ذلك فمرحبا بالطوفان والهلاك، وإنما كان من الإنصاف التعامل مع كل حالة حسب سلوكها دون تعدّيها أو محاولة سحب كبيرة التهمة على النسيج كله، فذلك لا يحصل ولا يمكن أن يخرج إلا من نفس موبوءة وذات متحاملة.

ولعله إنصاف يحيلنا على طرح السؤال عطفا والاستفسار عن ماهية ما يستنكره ويستهجنه هؤلاء عن معشر الملتزمين بمنهج السلف ويجعل في غير عدل ولا إنصاف ولا تجرد سلوك البعض منهم مسوغا ودافعا قويا لإخراج كل منتسب من دائرة الانتساب إلى الوطن، ومن ثم نفي وسحب الخيرية والنفع عن تواجدهم أو وجودهم في وطن ما بل في الأرض جميعا، ورمي الجميع بمستهجن الاستعارة: «ليس في القنافذ أملس».

ولعلنا لم نكن في حاجة إلى السؤال الذي يبحث عن معرفة عناصر وصناع الاتهام ومطلب الاستثناء والإخراج، إذ تبدو المعرفة هنا ومسألة الاستفسار عنها أقرب إلى الغباء منه إلى السذاجة، فجنس ونوع من يقود التهمة ومن يرفع مطلب لازمها معروف العين غير مجهول الجهة ولا ملتبس التحامل والحملة، ولربما كانت لمعرفة وتحديد موانع المواطنة الأولوية التي من شأنها أن تساعد على وضع مضمون الاتهام في منخلّة المعقول الذي حاز شرف الإجماع والاتفاق أو بقي دونه بأميال وسنوات ضوئية، يصنع الفرق أو الفروق التي تحكي وتكشف زيف ما وراء أكمة هذا الرمي وما يلزم منه من دعوة إقصاء وتنفيذ مطاردة.

إذ جملة ما يؤاخذ على معشر السلفيين في أوطانهم إنكارهم للبدع والمحدثات والخرافات، وتصديهم ومقاومتهم لتيارات الفساد والإفساد الأخلاقي، ووقوفهم ضد الوافدات العائدة في ثوب الاستعمار غير السافر، وفزعهم إلى الدليل من الكتاب والسنة بضميمة فهم سلف الأمة، واعتبارهم لهذا القيد وتنزيله منزلة الواجب الذي لا انفكاك منه وعنه لفهم الوحي ومراد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم منهم ومن الناس أجمعين.

وقديما لم يستمرئ قوم لوط في ظل وغمرة ما كانوا يعيشونه ويتسفلون فيه من نقيصة فاحشة، أن يعيش بين ظهرانيهم من يستمسك بالطهر ويعيش الفضيلة، فأنكروا على الصالحين في غير منكر ولاموهم على التزام الفطرة وسوي السلوك، فكانت التهمة والدافع إلى الأمر بالطرد والإخراج في غير معهود ولا مألوف هي منقبة «الطهر» استثناء، في مقابل اعتبار النجاسة والشذوذ أصلا وفصلا طبيعيا من فصول الحياة والحرية الإنسانية.

وربما احتجنا من باب الإنصاف أن نعرج في باب مقارنة هؤلاء في دائرة شديد إنكارهم ووضوح موقفهم، على ذكر قصة فرعون الذي قرأ الإصلاح الذي قاده موسى عليه الصلاة والسلام بكونه عين الفساد وعين ما كان يخشاه من تبديل دين رعاياه وفطرتهم إذ يحدثنا القرآن عن هذا الانقلاب في المفاهيم فيقول الله جل جلاله: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَىٰ وَلْيَدْعُ رَبَّهُ ۖ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ وأَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ}[غافر:26]، ويا ليت الزعم وقف هنا بل نجد فرعون قد استخف قومه في استحمار واستغباء مدعيا استئثاره بسديد الرأي والرشاد فقال: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:29]

ولا شك أن من تحصلت له القراءة المنهجية لهذه المقارنة في دائرة السوء بين قوم لوط وفرعون مصر، وقف على حقيقة التنازع وأمسك بطرف الحبل الموصل إلى فهم السياق والسباق واللحاق الذي يطبع مسيرة الصراع، وطول مضمار المساكنة داخل الوطن الواحد، فإن جملة ما ينكره الساحبون لبساط المواطنة من تحت أرجل الصادقين في انتسابهم هو من لازم المواطنة الصادقة.

وحسب هذه المواطنة شرفا أن تجد الشرفاء الصادقين في انتسابهم يفزعون إلى الدفاع عن العرض والأرض والتصدي لكل صائل معربد بسلاح شبهة أو شهوة أو دبابة في كل وقت وحين، بينما يصدق الواقع بالصوت والصورة والرائحة أن كثيرا ممن يتصدرون ويتسابقون إلى الواجهة زمن اليسر والرخاء في هذا الخصوص، حتى إذا ما نزلت بالأرض فتنة أو أصاب العرض مس أو لوثة، رأيتهم يسارعون في الخيرات ويدلون بدلو التأشير والرضا والقبول لهذا الغزو وذلك الانتهاك.

ثم أليست المواطنة أخذا وعطاء ومحبة ورحمة وغيرة على الأرض والعرض، وصدق ولاء وبيعة شرعية لا مدنية تتمرد في مكر وكيد مقولة تردد بالليل والنهار مفادها مطالبتهم ومطلبهم الثوري «نريد ملكا يسود ولا يحكم»، وتحريم الخروج بالسنان واللسان، وطاعة في معروف وصبر في غيره، والجهاد وراء الخليفة، والصلاة من خلفه، والدعاء له بالخير والصلاح والتوفيق وفتح باب الإحسان إلى فقراء الوطن ومعوزيه لا التهارش على سرقة الأموال وتحويلها إلى الخارج تحت مظلة الحماية الدولية التي تشفر أرقام الأنصبة المالية المغتصبة وتضع يمينها على السارق وما سرق.

ثم أليس من لازم المواطنة الحقة الغيرة على محارم الله وعلى رأسها تعظيم جناب التوحيد، والتصدي لتجليات الشرك واستعباد الناس، والحجر على عقولهم، وسجنها في زنزانة الخرافات وتأثير المنامات والأذواق والأحوال التي تنافي العقل والنقل والحس والطبع والفطرة، وتحبيب السنة وجميل الاتباع لا قبيح الابتداع، وتحكيم شريعة الله في رقاب وظهور المعتدين والبغاة والمجرمين بدل تحويل السجون إلى مشاتل لصناعة الإجرام؛ وفضاءات لعيش نعيم الحقوق وكريم الحياة ورغيد العيش ومنتهى الصون والرعاية من حسن تطبيب وتغذية وترفيه ونظافة ورياضة وفن واتصال وزيارة قفة حمالة أوزان...

ثم هل كان من لازم المواطنة الحقة الوقوف إلى جانب القاتل ضد الضحية المقتول، ومع الغاصب المغتصب ضد الأحداث المغتصبة في سراديب الفنادق المصنفة، أو بين أشجار الفيافي والمنتجعات السياحية، حيث يباع العرض بثمن بخس ودراهم معدودة، يتلوها ضجيج الأرقام وحكاية انتعاش الاقتصاد وازدهار السياحة الوطنية، أو الدفاع المستميت عن الشذوذ والمثلية، والمطالبة بترسيم الدعارة وتقنينها، وإقامة المهرجانات المتسفلة في نقيصة تبذير المال العام والخاص، علما بأن في الوطن من يحتاج إلى الغذاء والماء والكساء والدواء..

وحبل المعطوفات طويل الذيل عريض السيل، يحكي صفاقة هؤلاء الذين يدّعون الوطنية في خيانة، والشهامة في سفالة، والمروءة في نذالة، والحضارة في بهيمية، والمدنية في جاهلية عائدة متجددة، والتحرر في فوضى وعبثية، والحقوق والحريات في ظلم وتبعية.

ويبقى أن نقول أن المواطن الحق والمنتسب في صدق لابد وهو يؤسس لعرى وطنيته وجميل انتسابه، أن يرجع إلى القدوة الأول، ليقف معتبرا متعظا مستفيدا موجها وضابطا لهذه العلاقة والرباط الأصيل بينه وبين وطنه، فقد أحب نبينا مسقط الرأس، ثم غادرها على مكرهة ليعود إليها قادرا في عفو وأخا رحيما بمن أخرجوه منها مهاجرا إلى ربه، بل كان عليه الصلاة والسلام يأتيه المكلوم المجروح فيأخذ العينة من تراب مكة ويمزجها بريقه الشريف، ثم يضعها على محل الجرح فيبرأ بإذن الله، في تجانس يدور تفاعله على رحى المحبة والارتباط الوجداني بالوطن في أعلى مراتب تجلياته، والتي كان من آياتها أن يتحول خليط الرغام والريق الشريف إلى ترياق حياة ودواء من جرح داء.

محمد بوقنطار

محمد بوقنطار من مواليد مدينة سلا سنة 1971 خريج كلية الحقوق للموسم الدراسي 96 ـ97 الآن مشرف على قسم اللغة العربية بمجموعة مدارس خصوصية تسمى الأقصى.

  • 3
  • 0
  • 3,798

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً