قل ربي الله ثم استقم
بسم الله الرحمن الرحيم
عن سفيان بن عبد الله الثقفي - رضي الله عنه - قال: "قلتُ يا رسول الله حدِّثني بأمر أَعتصِم به"، قال: «
»، قلت: "يا رسول الله ما أخْوَف ما تخاف عليَّ؟" فأخذ بلسان نفسه ثم قال: « »[1]كلمات نديَّة، خرجت من فم طاهر، وعَمِل بها خير السلف والخلف، فكان الإسلام بروعته وحضارته وأمجاده التي أخرَجت البشرية كلَّها من ظلمات الجاهلية والوثنية، وعبودية البشر للبشر إلى أُفقٍ رحْبٍ من الحرية والطهارة والنقاء، بما لا عهد لهم به في أيِّ منهج آخَر، فأكرِم بالإسلام دينًا وأكرم بالرسول - صلى الله عليه وسلم - نبيًّا؛ قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30].
وقال - جلَّ ذِكره -: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأحقاف:13].
- فقوله تعالى {رَبُّنَا اللَّهُ}: ليست كلمة تُقال، بل إنها ليست مجرَّد عقيدة في الضمير، إنما هي منهج كامل للحياة، يشمل كل نشاط فيها، وكل اتجاه، وكل حركة، وكل خالجة، ويُقيم ميزانًا للتفكير والشعور، وللناس والأشياء، وللأعمال والأحداث، وللروابط والوشائج في كل هذا الوجود.
{رَبُّنَا اللَّهُ}: فله العبادة وإليه الاتجاه، ومنه الخشية وعليه الاعتماد.
{رَبُّنَا اللَّهُ}: فلا حساب لأحد ولا لشيء سواه، ولا خوف ولا تطلُّع لمَن عداه.
{رَبُّنَا اللَّهُ}: فكل نشاط وكل تفكير وكل تقدير متَّجِه إليه، منظور فيه إلى رضاه.
{رَبُّنَا اللَّهُ}: فلا احتكام إلا إليه، ولا سُلطان إلا لشريعته، ولا اهتداء إلا بهداه.
{رَبُّنَا اللَّهُ}: فكل مَن في الوجود وكل ما في الوجود مُرتبِط بنا، ونحن نلتقي به في صِلَتنا بالله.
{رَبُّنَا اللَّهُ}: منهج كامل على هذا النحو، لا كلمة تَلفظها الشفاه، ولا عقيدة سلبيَّة بعيدة عن واقعيات الحياة.
- {ثُمَّ اسْتَقَامُوا}: وهذه أخرى، فالاستقامة والاطِّراد والثبات على هذا المنهج درجة بعد اتِّخاذ المنهج، استقامة النفس وطُمأنينة القلب، استقامة المشاعر والخوالِج، فلا تتأرْجَح ولا تضطرب، ولا تشكُّ ولا تَرتاب بفعل الجواذِب والدوافع والمؤثِّرات، وهي عنيفة ومُتنوِّعة وكثيرة، واستِقامة العمل والسلوك على المنهج المختار، وفي الطريق مَزالِق وأشواك ومُعوِّقات، وفيه هواتف بالانحِراف من هنا ومن هناك.
{رَبُّنَا اللَّهُ}: منهج، والاستقامة عليه درجة بعد معرفته واختياره، والذين يَقسِم الله لهم المعرفة والاستقامة هم الصفوة المختارة وهؤلاء: {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}[الأحقاف:13]، وفيمَ الخَوف وفيم الحُزن والمنهج واصِل، والاستقامة عليه ضَمان الوصول؟![2]
قال المناوي: "«الإيمان الشرعي، « »؛ أي الزَمْ عمل الطاعات، والانتهاء عن المُخالفات؛ إذ لا تتأتَّى مع شيء من الاعوجاج، فإنها ضدُّه وانتزاع هاتَين الجملتين من آية: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا}[فصلت:30]، وهذا من بدائع جوامع الكلم؛ فقد جمعَتا جميع معاني الإيمان والإسلام اعتقادًا وقولاً وعملاً؛ إذ الإسلام توحيد، وهو حاصل بالجملة الأولى والطاعة بسائر أنواعها في ضِمن الثانية؛ إذ الاستقامة امتِثال كل مأمور، وتجنُّب كل مَنهيٍّ، وعرَّفها بعضهم بأنها المُتابعة للسُّنن المحمَّدية مع التخلُّق بالأخلاق المَرْضيَّة، وبعضهم بأنها الاتباع مع ترْك الابتداع، وقيل: حمْل النفس على أخلاق الكتاب والسنة؛ قال القشيري: وهي درجة بها كمال الأمور وتمامُها، وبوجودها حصول الخيرات ونِظامها، وقال بعضهم: لا يُطيقها إلا الأكابر؛ لأنها الخروج عن المعهودات ومفارقة الرسوم والعادات[3].
»؛ أي: جدِّد إيمانك بالله ذكرًا بقلبك، ونطقًا بلسانك بأن تَستحضِر جميع معانيوقال ابن رجب: "فأصْل الاستقامة: استقامة القلب على التوحيد؛ كما فسَّر أبو بكر الصدِّيق وغيره قوله: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا}[فصلت:30] بأنهم لم يَلتفِتوا إلى غيره، فمتى استقام القلب على معرفة الله وعلى خشيته وإجلاله، ومهابته ومحبَّتِه، وإرادته ورجائه، ودعائه والتوكُّل عليه، والإعراض عما سواه - استقامت الجوارح كلُّها على طاعته؛ فإن القلب هو ملك الأعضاء وهي جنوده، فإذا استقام المَلِك استقامَت جنوده ورعاياه، وكذلك فُسِّر قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا}[الروم: 30] بإخلاص القصْد لله وإرادته لا شريك له، وأعظم ما يُراعى استقامته بعد القلب من الجوارح: اللسان؛ فإنه تَرجمان القلب والمُعبِّر عنه، ولهذا لَمَّا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالاستقامة، وصَّاه بعد ذلك بحفْظ لسانه[4].
وفي الحديث الشريف:
• «
»[5].• «
»[6].• «
»؛ أي: فُحشه[7].• «
»[8].• «
»[9].• «
»[10].• «
»[11].• «
»[12].• وعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَأَصْبَحْتُ يَوْمًا قَرِيبًا مِنْهُ وَنَحْنُ نَسِيرُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ وَيُبَاعِدُنِي عَنِ النَّارِ؛ قَالَ: «تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} حَتَّى بَلَغَ {يَعْمَلُونَ}؛ ثُمَّ قَالَ: « » قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ قَالَ: « »؛ ثُمَّ قَالَ: « »؛ قُلْتُ: بَلَى يَا نَبِيَّ اللَّهِ؛ فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ قَالَ: « »؛ فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَالَ: « » [13].
»؛ثُمَّ قَالَ: « » قَالَ ثُمَّ تَلَا: {__________________________
[1] رواه الترمذي، كتاب الزهد، باب ما جاء في حفْظ اللسان، رقْم (2334)، وقال: حديث حسن صحيح، ورواه ابن ماجه، كتاب الفتن، رقْم (3962)، ورواه أحمد في المسند، مسند المكِّيين، رقْم (14871)، ورواه الدارمي، كتاب الرقاق، رقْم (2594)، والحديث صحَّحه الألباني - رحمة الله عليه - في صحيح الترمذي، رقْم (1965)، وفي صحيح ابن ماجه، رقْم (3208)، وفي صحيح الترغيب والترهيب، رقْم (2862)، وورَد برواية أُخرى صحيحة: ((قل آمنت بالله، ثمَّ استقم))؛ صحيح؛ انظر حديث رقْم (4395) في "صحيح الجامع"؛ للسيوطي بتحقيق العلامة الألباني - رحمة الله عليهم أجمعين.
[2] في ظلال القرآن؛ سيد قطب، سورة الأحقاف (6: 3259)، دار الشروق.
[3] فيض القدير؛ للمناوي (2/ 543).
[4] جامع العلوم والحكم؛ ابن رجب، الحديث الحادي والعشرون.
[5] حديث حسن: قال الألباني: رجالة ثقات "السلسلة الصحيحة"، رقْم (2841)، وحسَّنه أيضًا في صحيح الترغيب والترهيب؛ للمُنذِري بتحقيقه، رقْم (2865)، ورقْم (2554).
[6] رواه الترمذي عن أبي سعيد (حسن)؛ انظر حديث رقم (351) في صحيح الجامع.
[7] رواه البيهقي في شُعب الإيمان عن أبي بكر (صحيح)؛ انظر حديث رقم (5396) في صحيح الجامع.
[8] حديث حسن؛ رواه الطبراني في الكبير (2/ 73) من حديث معاذ بن جبل، وقال الهيثمي في الزوائد (10/ 300)؛ رواه الطبراني بإسنادَين، ورجال أحدهما ثقات.
[9] رواه أحمد والترمذي عن ابن عمرو (صحيح)؛ انظر حديث رقم (6367) في صحيح الجامع.
[10] متفق عليه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أخرجه البخاري في كتاب الرقاق (11/ 6477) ومسلم، واللفظ له في كتاب الزهد والرقاق (2988).
[11] البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - كتاب الرقاق، باب حفظ اللسان (11/ 6478).
[12] رواه أحمد والترمذي عن بلال بن الحارث (صحيح)، انظر حديث رقم (1619) في صحيح الجامع.
[13] رواه الترمذي، كتاب الإيمان رقم (2541)، وقال: حديث حسن صحيح.
- التصنيف:
- المصدر: