سلسلة غنائم الصائمين (8) أجل غنائم شهر رمضان

منذ 2016-06-07

أن الله أنزل فيها القرآن الذي هو هداية للبشر، وأن العبادة فيها تقدر بعبادة ألف شهر، وألف شهر تساوي ثلاثًا و ثمانين سنة وأربعة أشهر، أي أن هذه الليلة الواحدة أفضل من عمر طويل يعيشه إنسان تزيد سنوات حياته على الثمانين سنة..

أيها الأحبة:

أي غنيمة من غنائم شهر الصيام هي أجل وأعظم؟

أي غنيمة من غنائم القائمين يُستدرك فيها ما فات من العمر؟

أي لحظات إن وافقتموها أخرجتكم من ذنوبكم التي قدمتم؟

أي ساعات تضاعف الأعمال فيها بالآلاف والمئات؟

أي ليلة لا تدرك قدرها كثير من العقول اللاهية؟

أي ليلة هي ليلة العطاء والغفران، وليلة مضاعفة الأجور والأعمال؟

إنها ليلة القدر، وما أدراك ما ليلةُ القدر، إنها أعظم وأبرك ليلة في السنة كلها.

وإنما سميت ليلة القدر بذلك لعظيم قدرها ومكانتها عند الله، ولذلك شرفها الله..

فجعل قيامها خيراً من ألف شهر يقومه الإنسان، {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} وهو سبحانه يختار من الناس، ومن الجماد، ومن الأزمنة، و من الأمكنة ما يشاء فاختار من أيام الأسبوع يوم الجمعة، واختار من ليالي السنة ليالي العشر، واختار من ليالي العشر ليلة القدر، واختار من الأيام أيام العشر من ذي الحجة، واختار من أيام العشر من ذي الحجة يوم عرفة.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحث أمته على أن تدرك فضل هذه الليلة، فقال عليه الصلاة والسلام في الحديث المتفق عليه: َ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ».

وكان عليه الصلاة والسلام يدعو ويحث على تحريها والتماسها في العشر الأواخر، كما جاء في الصحيحين عن أبي سَعِيدٍ الخدري رضي الله عنه أنه قال: «اعْتَكَفْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَشْرَ الْأَوْسَطَ مِنْ رَمَضَانَ فَخَرَجَ صَبِيحَةَ عِشْرِينَ فَخَطَبَنَا وَقَالَ إِنِّي أُرِيتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ ثُمَّ أُنْسِيتُهَا أَوْ نُسِّيتُهَا فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ فِي الْوَتْرِ».

وعن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَحَيَّنُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ أَوْ قَالَ فِي التِّسْعِ الْأَوَاخِرِ»، إلى غير ذلك من أحاديث كثيرة في شأن هذه الليلة العظيمة.

ولهذه الليلة مزايا، منها:

أن الله أنزل فيها القرآن الذي هو هداية للبشر، وأن العبادة فيها تقدر بعبادة ألف شهر، وألف شهر تساوي ثلاثًا و ثمانين سنة وأربعة أشهر، أي أن هذه الليلة الواحدة أفضل من عمر طويل يعيشه إنسان تزيد سنوات حياته على الثمانين سنة.

ومن مزاياها أيضاً: أن الملائكةَ تَنزّلُ فيها وهم لا ينزلون إلا بالخير والبركة والرحمة، وأن الروح الأمين جبريل عليه السلام ينزل مع الملائكة فيها، وأنها ليلة سلام وأمان لكثرة السلامة فيها من العقاب والعذاب بما يقوم به العبدُ من طاعةِ الله عزوجل، وهي الليلة التي يُفرقُ فيها كل أمر حكيم فتقدر فيها آجال المخلوقات وأرزاقهم، وما إلى ذلك من أمور القدر.

ومن مزاياها:أن الله أنزل في فضلها سورةٌ كاملةٌ تُتلى إلى يوم القيامة.

ومن مزاياها: أن من أحياها بالصلاة إيماناً بالله وبما أعده من الثواب للقائمين فيها، واحتساباً للأجر وطلب الثواب، غفرت له ذنوبه السالفة.

والقول المعتمد الصحيح عند المحققين من أهل العلم:

أن هذه الليلة في العشر الأواخر من رمضان، كما جاءت بذلك الأحاديث النبوية الصحيحة، و آكد ما ترتجى من ليالي العشر في الأوتار منها، والصحيح أنه لا يجزم بكونها ليلة سبع وعشرين في كل سنة، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "ليلة القدر في العشر الأواخر من شهر رمضان، هكذا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال هي في العشر الأواخر من رمضان وتكون في الوتر منها، لكن الوتر يكون باعتبار الماضي فتطلب ليلة إحدى وعشرين، وليلة ثلاث وعشرين، وليلة خمس وعشرين، وليلة سبع وعشرين، وليلة تسع وعشرين، ويكون باعتبار ما بقي، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لتاسعة تبقى، لسابعة تبقى، لخامسة تبقى، لثالثة تبقى»، فعلى هذا إذا كان الشهر ثلاثين، يكون ذلك ليال الأشفاع، وتكون ليلة الثاني والعشرين تاسعة تبقى، وليلة أربع وعشرين سابعة تبقى، وهكذا فسره أبو سعيد الخدري في الحديث الصحيح، وإذا كان الأمر هكذا، فينبغي أن يتحراها المؤمن في العشر الأواخر جميعه".

ورجح عدد من المحققين أنها تتنقل في الأوتار من ليالي العشر، وذلك لورود نصوص قوية فيها إثبات أنها في ليلة الحادي والعشرين، و نصوص أخرى فيها إثبات أنها في ليلة السابع والعشرين، و لا سبيل للتوفيق بين هذه النصوص إلا بمسألة الانتقال.

ولله حكمة بالغة في إخفائها عنا، فلو تيقنا أي ليلة هي لتراخت العزائم طوال رمضان، واكتفت بإحياء تلك الليلة، فكان إخفاؤها حافزًا للعمل في الشهر كله، ومضاعفته في العشر الأواخر منه، وفي هذا خير كثير للفرد وللجماعة.

وهذا كما أخفى الله تعالى عنا ساعة الإجابة في يوم الجمعة، لندعوه في اليوم كله، وأخفى اسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب؛ لندعوه بأسمائه الحسنى جميعًا.

روى البخاري عن عبادة بن الصامت قال: «خَرَجَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يُخْبِرُ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ فَتَلَاحَى رَجُلَانِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ إِنِّي خَرَجْتُ لِأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ وَإِنَّهُ تَلَاحَى فُلَانٌ وَفُلَانٌ فَرُفِعَتْ وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ الْتَمِسُوهَا فِي السَّبْعِ وَالتِّسْعِ وَالْخَمْسِ».

المصدر: tafkeeer.com

خالد بن منصور الدريس

أستاذ مشارك قسم الحديث في قسم الدراسات الإسلامية في جامعة الملك سعود بالرياض. ومدير موقع تعليم التفكير من منظور إسلامي

  • 0
  • 0
  • 14,750

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً