رمضان واحة الإيمان " شهر الإخلاص" (13 -14 )
الحمد لله الذي خصنا بشهر الطاعات، وأجزل لنا فيه المثوبة ورفع الدرجات، وَعَدَ من صامه إيمانا واحتسابا بتكفير الذنوب والسيئات، وشرّف أوقاته على سائر الأوقات، والصلاة والسلام على نبينا محمد خير البريات، وعلى آله وصحبه أولي الفضل والمكرمات،والتابعين لهم بإحسان إلى يوم المعاد، وبعد:
من أجمل المنح، وأروع الأعطيات، وأغلى الدرر، وأنفس المعاني، التي يحققها الصائم في هذا الشهر الفضيل؛ تحقيق الإخلاص لله سبحانه، الذي هو حقيقة الدين ومحور دعوة الأنبياء والمرسلين، قال تعالى( {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} )[1]، وقال سبحانه( {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} )[2].
الإخلاص هو حقيقة العبادة وروحها، ولب الدين، ومفتاح دعوة الرسل، ودرة القلوب، وسلعة المتقين، وغنيمة المخبتين، وتجارة العلماء الربانيين والعباد الزاهدين.
الصوم هو العبادة الوحيدة التي خصها الله لنفسه، فلا يدخلها رياء ولا يتخللها نفاق، يقول الإمام أحمد: لا رياء في الصوم، فلا يدخله الرياء في فعله، من صفى صفى له، ومن كَدَّر كدر عليه، ومن أحسن في ليله كوفئ في نهاره، ومن أحسن في نهاره كوفئ في ليله، وإنما يُكال للعبد كما كال.
قد يزين العبد صلاته ويتصنع للناس، وقد يتصدق وينفق ليقال: جواد وكريم، وقد يحج سمعة ونفاقا، بل قد يجاهد ليقال جواد وشجاع! إلا الصيام فلا يتخلله شيء من ذلك، فهو إما صيام خالص لله، أو لا صيام!
فالصوم يعلم الناس الإخلاص، ويدربهم على اجتناب النفاق والرياء، ويوطن النفس على تعاهد الأعمال، ويحقق للقلب ملكة مدافعة الأمراض كالشهوات والهوى وحب محمدة الناس والتفاخر والتكبر.
والله عز وجل لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصا لوجهه الكريم، موافقا لسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، يقول ربنا سبحانه( {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} )[3]،قاصدين بجميع عباداتهم الظاهرة والباطنة وجه الله، وطلب الزلفى لديه.[4]
قال الفضيل في قوله تعالى: {ليبلوكم أيكم أحسن عملا} ، قال: أخلصه وأصوبه. وقال: إن العمل إذا كان خالصا، ولم يكن صوابا لم يقبل، وإذا كان صوابا، ولم يكن خالصا، لم يقبل حتى يكون خالصا وصوابا، قال: والخالص إذا كان لله عز وجل، والصواب إذا كان على السنة.
يقول أبو مُحَمَّدٍ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي حَمْزَةَ: وَدِدْتُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ لَيْسَ لَهُ شُغْلٌ إلَّا أَنْ يُعَلِّمَ النَّاسَ مَقَاصِدَهُمْ فِي أَعْمَالِهِمْ وَيَقْعُدَ إلَى التَّدْرِيسِ فِي أَعْمَالِ النِّيَّاتِ لَيْسَ إلَّا، فَإِنَّهُ مَا أَتَى عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ إلَّا مِنْ تَضْيِيعِ النِّيَّاتِ.[5]
قال يحيى بن أبي كثير: تعلموا النية، فإنها أبلغ من العمل.
قال يوسف بن الحسين: أعز شيء في الدنيا الإخلاص، وكم أجتهد في إسقاط الرياء عن قلبي فكأنه ينبت على لون آخر.[6]
وقال سفيان الثوري: ما عالجت شيئا أشد علي من نيتي؛ لأنها تنقلب علي.
الأمة الآن أحوج ما تكون إلى الإخلاص، إذ فيه بداية طريق الخلاص والرفعة والتمكين والعزة، يقول عليه الصلاة والسلام( بشر هذه الأمة بالسناء والدين والرفعة والنصر والتمكين في الأرض فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب ).[7]
ويقول عليه الصلاة والسلام( هل تنصرون إلا بضعفائكم؟ بدعوتهم وإخلاصهم ).[8]
ويضرب الحكماء مثلا عجيبا للإخلاص، في قوته وثباته، وتحصل مقارنة بين شجرتي الصنوبر والدباء" القرع".
شجرة الصنوبر تثمر في ثلاثين سنة، وشجرة الدباء تصعد في أسبوعين فتقول للصنوبرة: إن الطريق التي قطعتها في ثلاثين سنة قطعتها في أسبوعين، ويقال لي شجرة.. ولك شجرة! فقالتلها الصنوبرة: مهلا حتى تهب رياح الخريف فإن ثبت لها تم فخرك.[9]
ومثل آخر عجيب يذكره ابن القيم في بدائع الفوائد: لما أخذ دود القز ينسج أقبلت العنكبوت تشبهه، وقالت: لك نسج ولي نسج، فقالت دودة القز: ولكن نسيجي أردية الملوك ونسجك شبكة الذباب، وعند مس الحاجة يتبين الفرق!!
كم نحن بحاجة في هذا الشهر لتوطين النفس على الإخلاص، والفرار من الرياء، وطرد النفاق والخيانة والحقد وتباهي والتفاخر!
والإخلاص: هو إفراد الحق سبحانه بالقصد في الطاعة، وتخليص العمل من الشوائب، وتصفية الفعل عن ملاحظة المخلوقين، وهو التوقي من ملاحظة الخلق حتى عن نفسك.
معالجة النية وتحقيق الإخلاص، أمرا ليس سهلا، بل يحتاج لمجاهدة ومثابرة وتعاهد وهمة عالية، فالأعمال بلا إخلاص كالحمال الذي يحمل الحجارة الثقيلة على ظهره دون أجر، يقول ربنا سبحانه { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [10]،أي مما كانوا يراءون به ابتغاء السمعة والشهرة،ويرونه من مكارمهم فجعلناه هباء منثورا أي مثل الغبار المنثور في الجو، في حقارته وعدم نفعه.[11]
يقول ابن القيم: العمل بغير إخلاص ولا اقتداء كالمسافر يملأ جرابه رملا يثقله ولا ينفعه.[12]
قال بعض السلف: مَا نزل من السَّمَاء أعز من التَّوْفِيق، وَلَا صعد من الأَرْض أعز من الْإِخْلَاص[13].
وقال ابن المبارك: رب عمل صغير تعظمه النية، ورب عمل كبير تصغره النية.
وكان من دعاء عمر رضي الله عنه: اللهم اجعل عملي كله صالحا واجعله لوجهك خالصا، ولا تجعل لأحد فيه شيئا.[14]
سئل سهل التستري: أي شيء أشد على النفس؟! قال: الإخلاص؛ لأنه ليس لها فيه نصيب.[15]
وقال بعضهم: الإخلاص أن لا تطلب على عملك شاهدا غير الله، ولا مجازيا سواه.[16]
فكم نحن بحاجة لتعاهد قلوبنا ونياتنا، فصلاح القلوب بالإخلاص كصلاح الأرض بالغيث، لا يدرك ذلك إلا من وفقهم الله للإخلاص، ذلك لأن" عمل المرائي بصلة كلها قشور !".
قال مطرف بن عبد الله: صلاح القلب بصلاح العمل، وصلاح العمل بصلاح النية.
وقال مكحول: ما أخلص عبد قط أربعين يوما إلا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه.[17]
وكان للسلف عجائب وقصص فريدة من نوعها في الإخلاص، من ذلك:
كان داود بْن أبي هند صام عشرين سنة ولم يعلم به أهله كان يأخذ غذائه ويخرج إِلَى السوق فيتصدق به فِي الطريق فأهل السوق يظنون أنه قد أكل فِي البيت وأهل البيت يظنون أنه قد أكل فِي السوق هكذا كان الناس.[18]
قال أبو سليمان الداراني: طوبى لمن صحت له خطوة واحدة، لا يريد بها إلا الله تعالى.
ولما مات علي بن الحسين وجدوه يعول مائة بيت في المدينة.
وقيل لحمدون بن أحمد: ما بال كلام السلف أنفع من كلامنا، قال: لأنهم تكلموا لعز الإسلام، ونجاة النفوس، ورضا الرحمن، ونحن نتكلم لعز النفوس، وطلب الدنيا، ورضا الخلق.
قال الفضيل بن عياض: ترك العمل من أجل الناس رياء، والعمل من أجل الناس شرك، والإخلاص أن يعافيك الله منهما.
ومما أثر عن الفاروق رضي الله عنه انه كتب إلى أبي موسى الأشعري: من خلصت نيته كفاه الله ما بينه وبين الناس.
اللهم ارزقنا الإخلاص في القول والعمل.
26- رمضان- 1435هـ
[1]( غافر:14).
[2]( غافر:65).
[3]( البينة:5).
[4]تفسير السعدي.
[5]المدخل لابن الحاج العبدري.
[6]مدارج السالكين.
[7]صحيح الجامع برقم 2825.
[8]صحيح الجامع برقم 7034.
[9]بدائع الفوائد.
[10]( الفرقان:23).
[11]تفسير القاسمي.
[12]الفوائد.
[13]التحبير شرح التحرير.
[14]الجواب الكافي.
[15]مدارج السالكين.
[16]مدارج السالكين.
[17]مدارج السالكين.
[18]تلبيس إبليس.
أيمن الشعبان
داعية إسلامي، ومدير جمعية بيت المقدس، وخطيب واعظ في إدارة الأوقاف السنية بمملكة البحرين.
- التصنيف: