ظمأ الهواجر
كان أبو الدرداء يقول: صوموا يومًا شديدًا حره لحر يوم النشور، وصلوا ركعتين في ظلمة الليل لظلمة القبور.
الحمد لله الكريم الجواد؛ باسط اليدين بالنعم والخيرات، فاتح أبواب العبادات، مضاعف الأجور والحسنات، نحمده حمدا كثيرًا، ونشكره شكرًا مزيدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ أهل الثناء والمجد، ومستحق الشكر والحمد، لا يحمد شيء لذاته سواه؛ فهو الحكيم في خلقه وفعله وتدبيره، وهو العزيز في عقوبته وعذابه، وهو الرحيم في حلمه وعفوه وغفرانه، فلا رب لنا سواه، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وأمينه على وحيه، وصفيه من خلقه، بعثه الله تعالى رسولاً أمينًا، وجعله لعباده بشيرًا ونذيرًا، وسراجًا منيرًا، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وداوموا على نوافل العبادة فلا تنقطعوا؛ فإن أحب الأعمال إلى الله تعالى أدومها، ولئن فقدتم رمضان في صيام نهاره وقيام ليله وصدقاته وإحسانه؛ فإن نوافل الصلاة والصوم والصدقة باقية ما بقي العبد في هذه الدنيا، ولا يقطعها عنه إلا الموت {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99].
أيها الناس: أخذ النفس بالشدة في العبادة مما يروضها ويربيها ويقويها؛ فتألف عبادات لا يألفها غيرها، وتقوى على طاعات يعجز عنها سواها؛ لأن النفس على ما عودها عليها صاحبها؛ فإن عودها على الكسل في الطاعات تكاسلت عن الفرائض فبخستها، وتقاعست عن النوافل فتركتها، فيكون قليل العمل الصالح أثقل عليها من نقض جبل ونقله. وإن عودها على المسارعة في الطاعة، والمسابقة على الخير؛ كان شديد العمل الصالح عليها كشرب الماء البارد على الظمأ، في سهولته واللذة به، وأهل المعرفة والتجربة يدركون ذلك.
واختيار العزم والشدة في الطاعة المشروعة جادة للسلف الصالح مطروقة، وعادة عندهم مألوفة، وهي في النص مذكورة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عائشة رضي الله عنها بأن حجتها على قدر نصبها، كما أنه جعل مشقة الحج جهاد الضعفاء؛ ولذا كان الجهاد -وهو أشد شيء على النفوس- ذروة سنام الإسلام، وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: « »، قال: أَوَّلَ اللَّيْلِ، بَعْدَ الْعَتَمَةِ، قال: « »، فقال: آخِرَ اللَّيْلِ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « » (سنن ابن ماجه [1202]).
فجعل النبي صلى الله عليه وسلم فعل عمر قوة؛ لأن الوتر آخر الليل أشد وأعسر، وقاله لعمر على وجه المدح والثناء. فكلما كانت العبادة المشروعة أشق كان الأجر أعظم. وإنما توجه النهي عن قصد المشقة لذاتها، أو طلبها في عبادة غير مشروعة، كرهبانية النصارى والمبتدعة الذين يعذبون أنفسهم بما لم يجعله تعالى شرعًا لعباده؛ كالوقوف في الشمس، والانقطاع في المغارات، وتحريم ما أحل الله تعالى من الطيبات.
وإذا كان تحمل المشقة في العبادة المشروعة مما يحبه الله تعالى ويرضاه؛ فإن من أشق العبادات وأعظمها أجرًا: الصوم في شدة الحر، فأما صيام الفرض فلا خيار للعبد فيه وإن عظم أجره. وأما صيام النفل فما أعظم أجر صاحبه حين قصده في شدة الحر طلبًا للأجر، مع أن له رخصة في تركه.
وقد صام المسلمون رمضان في حر شديد، فكتب أجر الصائمين، ومن يتبعون رمضان بست من شوال يصومونها أيضًا في حر شديد، ومن يتطوعون بأنواع من الصيام في هذا الحر فإن أجرهم عظيم، مع ما في هذا الصيام من تربية للنفس وترويض لها على طاعة الله تعالى.
وقد نقلت آثار كثيرة عن السلف في طلب الصيام في الحر الشديد، ومنهم من لا يحب البقاء في الدنيا إلا من أجله، وهذا من أعظم مراتب العبودية: أن يخالف العبد مشتهى نفسه في ألذ شيء وهو الماء البارد في شدة الحر طاعة لله تعالى؛ ولذا كان الصيام لله تعالى ويجزي به؛ وذلك لصبر الصائم عن ملذاته {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر من الآية:10] وفي الحديث القدسي يقول الله عز وجل: « » (صحيح البخاري [7492]).
لقد علم سلفنا الصالح ما في صيام النافلة من أجر عظيم، وأن صاحبه لما ظمئ في الهواجر لأجل الله تعالى استحق أن ينادى من باب الريان، وهو باب من أبواب الجنة، اشتق اسمه من الري؛ ليجازى مكثر الصيام في الهواجر بالري الدائم، فلا يجد عطشًا أبدًا.
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه، قال: "خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسْفارِه في يوم حار حتى يَضع الرَّجُل يده على رأسه من شدة الحر، وما فينا صائم إلا ما كان مِن النبي صلى الله عليه وسلم، وابن رَوَاحَةَ" (صحيح البخاري [1945]).
وعثمان بن عفان رضي الله عنه أصبح يوم الدار صائمًا مع أن الأعداء من الخوارج يحيطون به يريدون دمه، فلم يفطر بل قتل وهو صائم؛ ليفطر في الجنة مع النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
وورد كثرة الصيام عن عدد من الصحابة رضي الله عنهم؛ وكان عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما يصوم يومًا ويفطر يومًا إلى أن فارق الدنيا، وكان عبد لله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما لا يصوم في السفر، ولا يكاد يفطر في الحضر. ولما احتضر رضي الله عنه قال: "ما آسى على شيء من الدنيا إلا على ثلاث: ظمأ الهواجر، ومكابدة الليل، وأني لم أقاتل الفئة الباغية التي نزلت بنا"، يعني الحجاج.
عن الشَّعْبِيِّ قال: غُشِيَ على مَسْرُوْقٍ في يوم صَائِف، وكانت عائشة قد تَبَنَّتْهُ، فسمى بنته عائشة، وكان لا يعصي ابنته شيئًا. قال: فَنَزَلت إليه، فقالت: يا أبتاه، أَفْطِرْ واشْرَب. قال: ما أَرَدْتِ بي يا بنية؟ قالت: الرفق. قال: "يا بنية، إنما طلَبتُ الرفق لنفسي في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة".
ولما سار عامر بن عبد قيس من البصرة إلى الشام كان معاوية يسأله أن يرفع إليه حوائجه فيأبى، فلما أكثر عليه قال: حاجتي أن ترد علي من حرِّ البصرة لعل الصوم أن يشتد علي شيئا؛ فإنه يخف علي في بلادكم. ولما احتضر بكى، فقيل: ما يبكيك؟ قال: "ما أبكي جزعًا من الموت، ولا حرصًا على الدنيا، ولكن أبكي على ظمأ الهواجر وقيام الليل".
وعن عبد الله بن بِشر، أن علقمة بن قيس، والأسوَد بن يزيد، حَجَّا فكان الأسود صاحب عبادة، فصام يومًا فراح الناس بِالْهَجِيرِ وقد تَرَبَّدَ وجهه، فأتاهُ علقمة فضَرَبَ على فخِذِهِ فقال: "ألَا تتقي الله يا أبا عمر في هذا الجسد؟ علام تعذب هذا الجسد؟"، فقال الأسود: "يا أبا شبل، الجِدَّ الجِدَّ". وروى النخعي أن الأسود، كان يصوم في اليوم الشديد الحر حتى يسود لسانه من الحر.
وبكى يزيد الرَّقَاشِيُّ عند موته فقيل: ما يبكيك؟ فقال: "أبكي على ما يفوتني من قيام الليل وصيام النهار".
قال الحافظ بن رجب رحمه الله تعالى: ومما يضاعف ثوابه في شدة الحر من الطاعات: الصيام لما فيه من ظمأ الهواجر؛ ولهذا كان معاذ بن جبل يتأسف عند موته على ما يفوته من ظمأ الهواجر، وكذلك غيره من السلف، وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه كان يصوم في الصيف ويفطر في الشتاء، ووصى عمر رضي الله عنه عند موته ابنه عبد الله فقال له: "عليك بخصال الإيمانط وسمى أولها: الصوم في شدة الحر في الصيف، وقال القاسم بن محمد: "كانت عائشة رضي الله عنها تصوم في الحر الشديد"، قيل له: ما حملها على ذلك؟ قال: "كانت تبادر الموت".
وكان مجمع التيمي يصوم في الصيف حتى يسقط، وكانت بعض الصالحات تتوخى أشد الأيام حرًا فتصومه فيقال لها في ذلك، فقالت: "إن السعر إذا رخص اشتراه كل أحد"، تشير إلى أنها لا تؤثر إلا العمل الذي لا يقدر عليه إلا قليل من الناس لشدته عليهم، وهذا من علو الهمة...
وكان الإمام أحمد يصوم حتى يكاد يغمى عليه، فيمسح على وجهه الماء، وسئل عن من يصوم فيشتد عليه الحر قال: لا بأس أن يبل ثوبًا يتبرد به، ويصب عليه الماء؛ كان النبي صلى الله عليه وسلم بالعرج يصب على رأسه الماء وهو صائم، وكان أبو الدرداء يقول: "صوموا يومًا شديدًا حره لحر يوم النشور، وصلوا ركعتين في ظلمة الليل لظلمة القبور".
وأخبارهم في الصيام في شدة الحر كثيرة جدًا، فنسأل الله تعالى أن يمنَّ علينا كما منَّ عليهم، وأن يهدينا لما به يرضى عنا إنه سميع مجيب.
وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281].
أيها المسلمون:
لئن كان في السلف الصالح من قصدوا شدة الحر بالصوم طلبًا للأجر؛ فإن في صالحي عصرنا من يقتدون بالسلف في ذلك، فترى أثر الصوم على وجوههم في شدة الحر، وهم في أعمالهم ووظائفهم وتجاراتهم، لم ينقص من دنياهم شيء، ولكنهم قوم فتح لهم باب الصوم، وحبب إليهم في شدة الحر فداوموا عليه حتى ألفوه واعتادوه. فهنيئًا لهم ما يجدونه من لذة وفرحة في الدنيا، وهنيئًا لهم ما يدخر لهم من عظيم أجر الصيام في شدة الحر عند الله تعالى، حين يروون والناس عطاش في الموقف العظيم يوم القيامة.
وفي عصرنا رأينا شيبًا وعجائز قد نحلت أجسادهم، وتقوست ظهورهم من الكبر، ولا يكادون يقوون على القيام والحركة، ومع ذلك نجدهم في شدة الحر صائمين؛ فهي قوة القلوب وعزمها على الطاعات، ومن صدق مع الله تعالى في الصيام فتح الله تعالى له بابه، وأعانه عليه.
فلنجعل -عباد الله- لأنفسنا حظا من الصيام في شدة الحر، لعلنا به ننجو من حر يوم القيامة ومن عطشه فنروى فيه.
وصلوا وسلموا على نبيكم.
- التصنيف:
- المصدر: