التطبيقات المعاصرة للزكاة (1)

منذ 2016-07-17

والزَّكاة في عهد سيِّدنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان المسلمون يؤدُّونها، وبعده أدَّوها كذلك -إلاَّ مَنِ ارتدَّ- وكانوا يعرفون كيف يؤدُّونها، كانوا يعرفون هذا لأنَّ الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم حدَّد مقاديرَ الزَّكاة، وبيَّن أنْصِبَتَها، والأشياء التي يمكن أن يكون فيها خطأٌ أمر بكتابتها؛ كزكاة الماشية. فالأنصبة والمقادير قد يخطئ فيها المصدِّقون العاملون عليها، فأمر صلَّى الله عليه وسلَّم بكتابتها. وفي عصرنا جدَّت أمورٌ كثيرةٌ؛ فقد يريد الإنسان أن يُخرج الزَّكاة -أحيانًا- ولا يدري ماذا يعمل؟

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله نستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيِّئات أعمالنا، مَنْ يَهْدِ الله فهو المُهْتَدِ، ومَنْ يُضْلِلْ فلن تجد له وليًّا مرشدًا، والصَّلاة والسَّلام على سيِّدنا رسول الله، وعلى آله وصَحْبه ومَنِ اهتدى بهَدْيِه واتَّبع سنَّته إلى يوم الدِّين.

أمَّا بعد فيا أيُّها الإخوة المسلمون:
تعرفون الحديث المشهور الذي نتداوله: «بُنيَ الإسلام على خَمْسٍ: شهادة أنْ لا إله إلا الله، وأنَّ محمَّدًا رسول الله، وإقام الصَّلاة، وإيتاء الزَّكاة، وصَوْم رمضان، وحَجُّ البيت مَنِ استطاع إليه سبيلاً» (مشكلة الفقر [57])؛ فالرُّكن الثَّالث بعد الشهادَتَيْن والصلاة: الزَّكاة، وبغير هذه العُمُد الخمسة لا يقوم الإسلام، ولا يُقبَل إسلام المرء بغير هذه الخمسة.

ولذلك نعرف أنَّ في عهد سيِّدنا أبي بكر رضي الله عنه كانت حروب الرِّدَّة ضدَّ قومٍ يشهدون أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمدًا عبده ورسوله، ولكنهم فرَّقوا بين الصَّلاة والزَّكاة، فرأوا أن يقيموا الصَّلاة، وألاَّ يؤتوا الزَّكاة؛ فقال الصدِّيق رضيَ الله عنه: "لا نفرِّق بين الصَّلاة والزَّكاة"؛ ذلك أن تارك الصَّلاة جحودًا كافرٌ، وأنَّ تاركها إن لم يكن جاحدًا؛ فجمهور الفقهاء يرى أن يُقتَل، والخلاف هنا: أيُقتَل لأنَّه كافر؟ أم يُقتل حدًّا؟.
فالحرب -حرب الرِّدَّة- قامت لأنَّ هؤلاء منعوا الزَّكاة، الرُّكن الثَّالث من الأركان التي قام عليها الإسلام، والصحابة جميعًا وافقوا الصدِّيق على هذا؛ لذلك فلابدَّ من معرفة هذه الأركان وإقامتها.

والزَّكاة في عهد سيِّدنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان المسلمون يؤدُّونها، وبعده أدَّوها كذلك -إلاَّ مَنِ ارتدَّ- وكانوا يعرفون كيف يؤدُّونها، كانوا يعرفون هذا لأنَّ الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم حدَّد مقاديرَ الزَّكاة، وبيَّن أنْصِبَتَها، والأشياء التي يمكن أن يكون فيها خطأٌ أمر بكتابتها؛ كزكاة الماشية. فالأنصبة والمقادير قد يخطئ فيها المصدِّقون العاملون عليها، فأمر صلَّى الله عليه وسلَّم بكتابتها.

وفي عصرنا جدَّت أمورٌ كثيرةٌ؛ فقد يريد الإنسان أن يُخرج الزَّكاة -أحيانًا- ولا يدري ماذا يعمل؟

فمثلاً: النُّقود الورقيَّة ما كانتْ موجودة في عهد الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم والشَّركات المساهمة، والأسهم والسَّندات، وودائع البنوك، والتَّأمين، وأشياءَ كثيرة جدَّت في عصرنا. التَّاجر الآن يصعب عليه أن يعرف مقدار الزَّكاة إلاَّ إذا سأل؛ لذلك نريد أن نلقي نظرةً سريعةً على هذه الأمور.

وقبل أن نبدأ هذا نذكر بعض القواعد العامَّة في الزَّكاة:
القاعدة الأولى: هي أنَّ الزَّكاة تجب في المال الذي يملكه الإنسان، فمن الشروط تمام المِلْكِيَّة، ويقصد به تمام المِلْك في التَّصرُّف والمنفعة؛ لأن المِلْك الحقيقي في الإسلام لله سبحانه وتعالى: {وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُمْ} [النور:33]، فالمال ليس مالكم، وإنما مال الله تعالى، أما أنتم فـ: {أَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد:7]، فأنتم مُستخلَفون في هذا المال، ولذلك فأنتم تتصرَّفون بحسب إرادة المالك الحقيقي، وهو الله سبحانه وتعالى.

وهذا يختلف عن النُّظُم المعاصِرة؛ ففي النِّظام الشُّيوعي تكون المِلْكِيَّة للدَّوْلة، وفي النِّظام الرَّأسمالي تكون المِلْكِيَّة للفَرْد، أما في الإسلام فالمِلْكِيَّة لله سبحانه وتعالى، ففي النِّظام الشُّيوعي تفعل الدَّولة ما تشاء، والفَرْد ليس له مِلْكِيَّة خاصَّة، وفي النِّظام الرَّأسمالي يتصرَّف الفَرْد في رأس ماله.

أمَّا في الإسلام؛ فالمال مال الله تعالى، ولذلك فلابدَّ أن نتصرَّف بحَسَب ما أمرنا صاحب المال ومالكه الحقيقي، وهو الله سبحانه تعالى.

المراد إذًا بتمام المِلْك: أنَّ الإنسان يستطيع أن يتصرَّف فيه، لأنَّ الإنسان إذا كان لا يملك المال فكيف يزكِّيه وهو لا يملكه؟ ولذلك وجدنا أنَّ المال الحرام لا زكاة فيه.

كيف لا يزكَّى؟ أيكون عند الإنسان مالٌ حرامٌ ولا يزكِّيه؟
لا، ليس هكذا .. انظروا -مثلاً- إلى أوَّل آية كريمة نزلت في الرِّبا: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم:39]. فالرِّبا إذًا يُقابِل الزَّكاة، هذا ضدُّ هذا. والمال الذي فيه ربا حرامٌ لا يتطهَّر بالزَّكاة: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103]، فالمال الحرام لا يزكَّى ولا يتطهَّر ولا ينمو بالزَّكاة. مَنْ أخذ المال الحرام؛ لم تتطهَّر نفسه بالزَّكاة، ولذلك فإنَّ المال الحرام كلّه لا يملكه الإنسان.

إذا جاءك مالٌ حرامٌ -والعياذ بالله- فلا تخلطه بمالكَ ولا تنتفع به مادمت مسلمًا، وإلاَّ كان كلُّ مالكَ خبيثًا؛ إنَّ الحرام إذا خالط الحلال أفسده، ليصبح الكلُّ خبيثًا.

فإذا جاء حرامٌ؛ فإنَّه يُنفَق في الصَّالح العام للمسلمين؛ كحالات فقرٍ شديدٍ، أو حربٍ مشروعةٍ، أو غير ذلك.

والقاعدة الثَّانية هي: أنَّ الزَّكاة تجب في المال النَّامي، والمال النَّامي إمَّا أن يكون ناميًا بطبيعته أو أنَّ الإنسان يُنْمِيه، المال الذي يعتبر ناميًا بطبيعته هو الذَّهب والفضَّة والنُّقود، فمَنِ استثمره زكَّاه، ومن لم يستَثْمِرْهُ وَجَبَ أن يزكِّيَهُ أيْضًا، فلو أنَّ أحدًا كَنَزَ مالاً قلنا له: المال في الإسلام له وظيفتُه، وأنت خالفتَ الوظيفةَ، ومع هذا فإنَّ عليكَ أن تؤدِّي الزَّكاة؛ لذلك أُمِرْنَا بأن نُتاجِرَ في أموال اليتامى حتَّى لا تأكلها الصَّدقة.
والمال الذي ليس ناميًا بطبيعته مثل ماذا؟

مثلاً: بيتٌ أَسْكُنُهُ، سيارةٌ أركبُها، متاعٌ في البيت، آلاتٌ أستخدِمُها ... كلُّ هذه الأشياء وما شابهها ليست معدَّة للتَّنمية، ما دامت ليست معدَّة للنَّماء فلا زكاة فيها.

تجارةٌ أُتاجرُ فيها، بضائع عندي أُنميها، زرعٌ خرج من أرضٍ؛ هذا نماءٌ للأرض، فالأصل هنا أنَّ الزَّكاة إنَّما تَجِبُ في المال النَّامي.

والقاعدة الثَّالثة: هي أنَّ الزَّكاة تؤخَذ من الأغنياء فتُرَدُّ على الفقراء؛ فمَنِ الغنيُّ الذي تُؤخَذ منه الزَّكاة؟ ومَنِ الفقير الذي يَأخُذِ الزَّكاة؟

الفقير: هو الذي لا يجد تمام كفايته، لا يجد المَسْكَن، لا يجد المَلْبَس، لا يجد المَأْكَل، لا يجد المَشْرَب؛ بل إنه إذا أراد أن يتزوَّج لا يجد الزَّوْجة؛ لأنه لا يجد المال الذي يتزوَّج به، ومثل هذا يمكن أن يُساعَد بالزَّكاة.

انظروا إلى حديث الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم الذي رواه أبو داود وسكت عنه هو والمنذري -يعني: أنهما لا يريان فيه ضعفًا- ورواه الإمام أحمد بعدَّة طُرُق: «مَنْ وَلِيَ لنا عملاً وليس له مَسْكَنٌ فليتَّخِذْ مسكنًا، وليس له زوجةٌ فليتزوَّج، وليس له دابَّةٌ فليتَّخِذْ دابَّةً» (عمدة التفسير [1/433])، وفي روايةٍ: «وليس له خادمٌ فليَتَّخِذْ خادمًا».

ما معنى هذا؟ معنى هذا أنَّ مَنْ وَلِيَ عملاً في الدَّولة المسلمة؛ فإن الدَّولة المسلمة تَكْفُل له المَسْكَن، إمَّا أن يكون -كما يقول الفقهاء- الأجر الذي يأخذه يكفيه للمسكن، أو أنَّ الدَّولة تؤجِر له مسكنًا وأجره يكفيه للزَّواج، أو الدَّولة تساعده على شراء وسيلة الانتقال، وإذا كان عمله هذا عملاً لصالح المسلمين يشغله عن خدمته الخاصَّة فاحتاج إلى خادمٍ فليتَّخِذْ خادمًا؛ أي إنَّ العمل إذا كان يشغله عن خدمة نفسه؛ فعلى الدَّولة أن تأتيه بخادمٍ يقوم بخدمته.

نأخذ من هذا: أنَّ الإسلام يضمن للمسلم تمام الكفاية، لا كما تضمن الشيوعية حدَّ الكفاف! وإنما تمام الكفاية. ولذلك فإنَّنا نعجب أن نجد في المسلمين مَنْ ينادي بالشيوعية؟ معنى هذا أنَّ هذا المسلم لا يَفْهَمُ الإسلام، لا يعرف دينه العظيم؛ لأنَّ الإسلام يضمن من الحقوق أكثر من الشيوعية، ثم هو بعد هذا يتيح المِلْكِيَّة الخاصَّة للفرد، ولا عبودية إلا لله سبحانه وتعالى، أمَّا هناك فالمِلْكِيَّة للدَّوْلة، والعبوديَّة للدَّوْلَة.

فإذا كان الفَرْدُ أحد عمَّال الدَّولة؛ فإنْ يأخذ ما يفي بتمام كفايته أو يزيد، ولكن لو فرضنا أنَّه في عملٍ خاصٍّ، والعمل الخاصُّ هذا يأتي بربحٍ لا يكفيه لحاجته هو ومَنْ يعول؛ فإنَّا لا نستطيع أن نُلْزِمَ صاحب العمل الخاصِّ بأن يعطيه ما يكفيه هو ومَنْ يعول، ما دام ناتج العمل لا يأتي بهذا، أو هو يعمل عملاً خاصًّا وناتج هذا العمل لا يكفيه لحاجاته الضرورية - تمام كفايته - فهنا نعطيه من الزَّكاة تمام الكفاية.

ولكن ما المدَّة؟ كم يومًا؟ أو كم شهرًا؟ تمام الكفاية لأيِّ مدَّة؟
انظروا: هنا أيها الإخوة، اختلف الفقهاء: فمنهم مَنْ قال: نعطيهم تمام الكفاية لمدَّة حَوْل، قد يقول قائلٌ: هذا كثيرٌ. ولكنَّ الخلاف ليس هنا، فمن الفقهاء مَنْ قال: نعطيه تمام الكفاية مدَّة عمره، وليس مدَّة حَوْل! وإنَّما مثل هذا عادةً أو في الغالب يعيش كم سنة؟ نعطيه ما يكفيه هذه المدَّة، كيف نعطيه ما يكفيه هذه المدَّة؟

ننظر هنا في مجتمعنا، كيف نعطي إنسانًا ما يكفيه مدَّة حَوْل، وكيفية نعطيه ما يكفيه مدَّة عمره؟ إنسان لا يستطيع أن يعمل، به عاهة مثلاً، لأنَّ الصدقة لا تجوز لقويٍّ مقتدرٍ، لا تَحِلُّ لغنيٍّ ولا لذي مرَّةٍ سَوِيٍّ، مستوي الأعضاء. فالغني هنا لا يأخذ من الصَّدقة، إنما لو فرضنا أن به عجزًا ولا يستطيع أن يعمل، هذا يمكن أن نعطيه من الصَّدقة ما يغنيه مدَّة الحَوْل، وفي الحَوْل التَّالي يأخذ أيضًا؛ لأنَّنا كلُّ حولٍ نزكِّي.

ولكن لو فرضنا أنَّ إنسانًا يُجيد صنعةً ما، وليس عنده مالٌ، فأتيناه بآله يعمل عليها ويأكل من غلَّتِها، ألم نَكْفِهِ هنا مدَّة حياته؟ وكأنَّنا الآنَ أعْطَيْناه هذا ليأكل من غَلَّتِهِ بصفةٍ مستمرَّةٍ. وآخَر يستطيع أن يزرع ولا أرضَ عنده، اشترينا له قطعة أرض يزرعها، فكأنَّنا كفيناه مدَّة حياته.

ولذلك فإنَّ مفهوم الزَّكاة ليس كما يظنُّ كثيرٌ منَ النَّاس: أن نعطيَ لُقَيْمَات، أن نُعْطِيَ بعض الدَّراهم، مفهوم الزَّكاة في الإسلام هو:
أن نحارب الفقر .. أن نعطيَ ما يُغني .. أن نقلِّل من عدد الفقراء .. أن نحوِّل هذا الفقير الذي يستحقُّ الزَّكاة إلى غنيٍّ يعطي الزَّكاة فيما بعد.

وبذلك يتحوَّل المجتمع المسلم من مجتمعٍ فيه كثيرٌ من الفقراء إلى مجتمعٍ فيه كثيرٌ من الأغنياء! ولهذا وجدنا المصدِّقين في عهد سيدنا عمر بن عبدالعزيز - رضيَ الله عنه - أخذوا يبحثون عمَّن يستحقُّ الزَّكاة فما وجدوا، فأخذ منادي أمير المؤمنين ينادي: هل من ناكحٍ فنزوِّجَه؟ هل من مَدينٍ فنسدَّ عنه دَيْنَه؟ ... وهكذا.

وبهذا المنهج الإسلاميِّ الربَّانيِّ تحوَّل المجتمع إلى مجتمعٍ كلُّه من الأغنياء؛ حتى إنهم أخذوا يبحثون عن فقيرٍ فما وجدوا.

ولذلك فإننا عندما نجد الفقراء، وعندما نسمع أن الآلاف - بل آلاف الآلاف - من المسلمين يموتون جوعًا في عصرنا، إنما يكون هذا لأنَّ الأغنياء قد أكلوا أموالهم، وسيحاسبون يوم القيامة؛ فيعذِّبهم الله بها في نار جهنَّم.

في كلمةٍ منشورةٍ: ذُكِرَ أنَّ أحد الأغنياء قُبَيْل وفاته قال لأحد موظَّفيه: احسب لي زكاة مالي كي أُخرجها، فحسبها فإذا بها تصل ملايين، وهذا يعني أنَّه يملك مئات الملايين، لأنَّ الزَّكاة في النقود (2.5%)، فإذا كان سيخرج (2.5%) فسيبقى عنده (97.5). لم ينظرْ إلى ما بقيَ عنده، وإنَّما نظر إلى هذا الذي سيُخرِج؛ فشحَّت نفسه، وما علم أنَّ هذا المال ليس مِلْكًا له؛ لأنَّنا قلنا إنَّ المال مِلْكُ الله سبحانه وتعالى وعندما يحدِّد ربُّنا عزَّ وجلَّ زكاةً مقدارها كذا؛ فإنَّ هذا يعني أنَّ المِلْكِيَّة تنتقل إلى المصارِف الثَّمانية التي حدَّدها ربُّنا عزَّ وجلَّ: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [التوبة:60]، فالمِلْكِيَّة تنتقل ممَّن عنده هذا المال إلى مَنْ يستحقُّ الزَّكاة، ولكن شَحَّت نَفْسُ ذاك الرجل المسكين ومات ولم يُخرِج زكاةً، وهو الآن يعذَّب بها في قبره، وسيعذَّب بها في جهنَّم، ولا ندري مَنْ جاء بعده: أين أنفق هذه الأموال الطَّائلة؟ ربما ينفقها في حرامٍ فيزداد إِثْمُهُ.

إنَّنا هنا نرجو أن ندرك مفهوم الزَّكاة في الإسلام: إذا أعطيتم فأغنوا، إذا وجدتَ إنسانًا يمكن أن يتحوَّل إلى فقير محتاج يسأل الناس؛ فأَعْطِهِ ما يصبح به غنيًّا.

ولكن مع هذا نجد فرقًا بين مَنْ يستحقُّ الزَّكاة وبين مَنْ يطلب الزَّكاة، فهذا الذي نعطيه ما يكفيه حَوْلَه أو ما يكفيه دهره ليس معناه أنَّ من حقِّه أن يسأل الناس .. لا، ليس معناه هذا، وإلاَّ كنَّا نذهب إلى أنَّ الإسلام يساعد على التسوُّل. لا، ليس معناه أنَّ واحدًا عنده - مثلاً - ما يكفيه عشرة أشهر فيقول: لله؛ لأني ليس عندي إلا ما يكفي عشرة أشهر فقط، أريدُ شهرَيْن، أو على الرَّأي الآخَر: أريدُ باقيَ الدَّهر. مَنْ كان عنده غداؤه وعشاؤه فلا يسأل النَّاس، ومَنْ مَلَكَ ما يكفيه في اليوم لا يسأل النَّاس.

القاعدة الرَّابعة -أيها الإخوة- مهمَّة للغاية: وهي أنَّ الضريبة لا تُغني عن الزَّكاة؛ فالضرائب -من حيث الأسباب ومن حيث المصارف- تختلف عن الزَّكاة؛ لأنَّ الزَّكاة حُدِّدَت في أموال معيَّنة، والمصارف الثَّمانية حدَّدها ربُّنا عزَّ وجلَّ في كتابه، فالصَّدقات لا تخرج عن هذه المصارف الثَّمانية، أمَّا الضرائب؛ فإنَّ الدَّولة قد تفرضها لإنشاء مستشفى يعالَج فيها الغني والفقير؛ فهل تكون هذه زكاةً؟! أتكون زكاةً والغنيُّ يعالَج فيها؟ وإذا كانت الدَّولة تريد ضرائبَ لإنشاء طريق؛ فليس هذا من المصارف الثَّمانية.

أحيانًا الزَّكاة لا تكفي حاجات الدَّولة -كما يحدث في أعوام الشدَّة- فهنا من حقِّ الدَّولة أن تفرض ضرائب فوق هذا. إذن؛ الضرائب شيءٌ والزَّكاة شيءٌ آخَر، فبينهما فروق كثيرة.

ومن الأسئلة التي كثيرًا ما توجَّه إلينا: أنا موظَّفٌ في منظمة كذا، وتأخذ مني (5%) من الرَّاتب. هل أعتبرُ هذا من الزَّكاة؟

نقول له: لا يا أخي، هذه ضريبةٌ، هذه ليست زكاة، والزَّكاة عبادةٌ، ولذلك يُشترَط فيها النيَّة: فأنت إذا دفعت أموالاً ثم تقول – مثلاً -: أحسب هذا من الزَّكاة فأنت مخطئ؛ لأنَّك لم تَنْوِ الزَّكاة، فلا تُحْسَب هذه الضَّريبة من الزَّكاة.

القاعدة الخامسة: أنَّه لا ثِنَى في الصَّدَقَة؛ بمعنى أنَّ المال لا يزكَّى في الحَوْل الواحد أكثر من مرَّة، ولا يزكَّى مرتَيْن بسببَيْن مختلفَيْن؛ فتاجر الماشية - مثلاً - لا يزكِّي زكاة ماشية وزكاة تجارةٍ في الماشية ذاتها، ولكن ما دامتْ للتجارة أصبحت كسائر عروض التِّجارة؛ فإنه يُخرِج زكاةَ تجارة، أي (2.5%) من قيمتها، ولا يُخرِج عنها زكاة الماشية. فيمكن إذن الجَمْع بين الزَّكاة والضَّريبة، ولكن لا يُجْمَع بين زكاتَيْن في مالٍ واحد.

القاعدة السَّادسة: أنَّ الزَّكاة متَى وجبتْ فلا تسقُط بِالتَّقادم، فمَنْ وَجَبَتِ الزَّكاة في ماله ولم يخرجْها لأكثر من حَوْل؛ فإنَّ ذمَّته لا تبرأ إلا بإخراج كلِّ ما وَجَبَ منها.

ونختم الحديث عن القواعد العامة بمسألةٍ تتعلَّق بالدَّولة والفرد، فمن المعلوم أنَّ الدَّولة المسلمة من وظائفها جمع الزَّكاة، وإنفاقها في مصارفها، ولكن إذا لم تَقُمِ الدَّولة بهذا الواجب فلا تسقط الزَّكاة عن المكلَّف.

وفي عصرنا نَرَى أَّن معظم الدول لا تجمع الزَّكاة، وفرقٌ جوهريٌّ بين الدَّولة في الإسلام والدَّولة العصريَّة؛ الدَّولة العصريَّة عندما تَنْشَأُ تُنْشِئ القانون، ولذلك فإنَّ الإنسان إذا لم يكن في دولة عصريَّة فإنه لا ينفّذُ القانون، أمَّا الدَّولة المسلمة إنَّما تنشأ بعد أن جاء القانون، فما قانون الدَّولة المسلمة؟ إنَّه حُكْمُ اللَّه في الكتاب والسنَّة، وحكم الله موجودٌ قبل أن توجد الدَّولة.

وفرق آخر بين الدَّولة المسلمة والدَّولة العصريَّة: وهو أنَّ الإنسان في الدَّولة العصريَّة ينفِّذ القانون ما دام في الدَّولة، والرَّقيب عليه هو الدَّولة، وأجهزة الدَّولة، الفرد في الدَّولة المسلمة ينفِّذ القانون سواء وُجِدَتِ الدَّولة أم لم توجد، أنفَّذت الدَّولة القانون الإسلامي أم لم تُنَفِّذْ، أراقَبَت الدَّولة أم لم تُراقِب؛ لأنَّ الرِّقابة هنا في الدَّولة مزدوجة: رقابة الدَّولة من ناحية، ومراقبة الله - عزَّ وجلَّ - وهي الأهم من رقابة الدَّولة، وبذلك نستطيع أن نفسِّر: لماذا لم يكن فساد عصرنا موجودًا في الدَّولة الإسلاميَّة سابقًا؟

هذه قواعد عامَّة نرجو أن نفهمها بالنِّسبة للزَّكاة، ونبدأ في الزَّكاة بزكاة النُّقود الورقيَّة:
النقود الورقيَّة لم تكن موجودةً في عصر الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم ففي عصر التَّشريع كانت النقود الموجودة من الذَّهب -وهي الدَّنانير- أو من الفضَّة -وهي الدَّراهم- والرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم حدَّد النِّصاب والمقدار؛ فالنِّصاب: مائتا درهمٍ من الفضَّة، ونصاب الذَّهب عشرون دينارً ذهبيًّا.

النقود بعد هذه تطورت إلى أن وصلت إلى ما وصلت إليه الآن، فكيف نحسب النِّصاب في عصرنا؟ وما مقدار الزَّكاة الآن؟
مقدار الزَّكاة حُدِّدَ أيام الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم وهو (2.5%)؛ أي: ربع العُشْر، ولكن كيف نحسب النِّصاب؟ كيف تعرف أنَّ الرِّيالات أو الجنيهات التي معنا الآن وصلت إلى النِّصاب؟

بالبحث وُجِدَ أنَّ عشرين دينارًا ذهبيًّا تَزِنُ خمسة وثمانين جرامًا من الذَّهب، وأنَّ مائتي درهم من الفضَّة تَزِنُ خمسةً وتسعين جرامًا من الفضَّة، فعُرِضَ على مجمع البحوث موضوع النِّصاب: كيف نحدده بالنسبة للعملة الورقيَّة الآن؟ فقال: نحدِّد النّصاب بالذَّهب؛ لأنه أكثر ثباتًا، فما بلغتْ قيمته عشرين مثقالاً ذهبيًّا وَجَبَتْ فيه الزَّكاة.

فلو أنَّ معي ريالات قطريَّة؛ كيف أحسب الزَّكاة وأعرف النِّصاب؟ أنظرُ إلى سِعْر الذَّهب: كم ثمن الجرام؟ ثم أنظرُ إلى ما معي: هل أستطيع بهذا المبلغ الذي معي أن أشتري (85) جرامًا من الذَّهب؟
إذا وصل إلى هذا المقدر؛ فقد أصبحتَ من الأغنياء، ووَجَبَتِ الزَّكاة على هذه النقود.

بعد ذلك نترك الذهب وننظر إلى ما معي؟ كم ريالاً معي؟ الألف نُخرج منه خمسة وعشرين، خمسة آلاف نخرج منها مئة وخمسة وعشرين .. وهكذا، فأنا أَحْسِبُ ما معي من الرِّيالات -أو أيِّ عملةٍ من العملات- وأخرج عنها (2.5%)؛ هذه زكاة النُّقود.

أما الذهب الآن: فنصابه هو النِّصاب السابق بلا خلاف، ولكنَّ الذَّهب الآن نراه في أيِّ شيءٍ؟ كنَّا نجده في النُّقود، والآن لا توجد نقود ذهبيَّة، نراه الآن في حُلِيِّ النِّساء كما كان، وحديثًا أيضًا نراه في حُلِيِّ أُناس ينتسبون إلى الرِّجال، أشكالهم أشكال رجال، ولكنهم يتشبَّهون بالنِّساء؛ فلعنهم الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - ونراه أيضًا في عصرنا في أوانِ وملاعقَ وشِوَكْ وتحف، وغير ذلك من سَرَفِ العصر وسَفَهِه.

فأمَّا حليُّ النِّساء: فهي حلالٌ لهنَّ، واختلف الفقهاء هنا في وجوب الزَّكاة عليها، بعضهم قالوا: تَجِبُ زكاتها، لِبْسُها حلالٌ ولكنَّها فيها زكاةٌ، ولكنَّ أكثر الفقهاء يرون أنه ما دامت المرأة تلبسها، ولا يزيد ما تلبس عن حدِّ المعقول؛ فلا زكاة فيها، فإذا زادت عن المعقول؛ وَجَبَت فيها الزَّكاة. فالحليُّ التي لا تُلْبَس، أو التي تزيد عن حدِّ المعقول والمعروف ، أو التي تشترى بقَصْد الادِّخار تجب فيها الزَّكاة.

أمَّا بالنّسبة للذَّهب في غير الحُلِيِّ؛ كالذهب في الأواني؛ (هذا لهم – أي: الكفَّار - في الدُّنيا، ولكم أيها المؤمنون في الآخِرة). هكذا أخبرنا الرَّسول عليه الصَّلاة والسَّلام ولذلك فإنَّ مَنْ يأكل أو يشرب في هذه الأواني فإنَّما يُجَرْجِرُ في بطنه نارًا يوم القيامة؛ فاستعمالها حرامٌ، وعليها زكاةٌ.

والرِّجال الذين خرجوا عن رجولتهم في عصرنا ولبسوا هذه الحُليِّ عليهم زكاتُها، وهم آثمونَ ملعونون؛ لأنهم متشبِّهون بالنِّساء، ولأنهم استخدموا الذَّهب في غير ما يُستخدم له.

نترك زكاة الحلي ونأتي إلى سؤال يتكرَّر كثيرًا، وهو: كيف يُحسَب التَّاجر الآن زكاةَ أمواله؟
هذه مشكلة فعلاً، ولكن لننظُر: هذا التَّاجر عنده ما يسمَّى بـ(الأصول الثَّابتة)؛ كالمبني والمكاتب وأشياءَ أخرى ثابتة لا يتجر فيها، هذه لا زكاةَ فيها. السيارة التي يركبها، وسيارات العمَّال، ومكاتب العمَّال أيضًا، هو لا يتاجر فيها؛ فلا زكاة عليها. عنده مبنى اتَّخذه مخزنًا لسِلَعِه أيضًا؛ فلا زكاةَ عليه.

ولكنَّ الزَّكاة في عروض التِّجارة، في الأشياء التي يُتاجَر فيها؛ تاجرٌ يتاجر في أجهزة الكمبيوتر، الزَّكاة إذن في الأجهزة التي يتاجر فيها. تاجرٌ يتجر في السيَّارات، الزَّكاة إذن في الأجهزة التي يتاجر فيها. تاجر أقمشة، تُزَكَّى الأقمشة التي يتاجر فيها ... وهكذا.

ففي كلِّ حَوْلٍ يحسب التَّاجر قيمة الأشياء التي يُتاجر فيها، ويضمُّ إليها ما عنده من نقود، وما له من ديون مرجوَّة الأداء، ويُسقِط ما عليه من ديون، ثم يزكِّي الباقي.

من الأشياء المعاصرة: استيراد التجَّار سِلَعًا عن طريق ما يسمى (الاعتماد المُسْتَنَدِيّ)، ومعناه: أنَّ المصرِف يأخذ من التَّاجر مبلغًا يسمَّى بالغطاء – (غطاء الاعتماد المُسْتَنَدِيّ) - وهو جزءٌ من ثمن هذه البضائع التي يريد أن يستورِدَها، وقد يكون ثمن البضائع كاملاً، والبنك يأخذ أيضًا مبلغًا آخَر كأَجْرٍ أو كجُعْل.

ننظر هنا: هذا التَّاجر جاء الموعد الذي يُخرِج فيه زكاته؛ فوجد أنَّ عنده في مصرِف كذا غطاء اعتماد مستندي بمائة ألف ريال. فهل يدفع زكاةً على هذا الغطاء؟ ثم هو دفع -مثلاً- ألفَيْن للبنك كأجر؛ فهل يدخلان في الزَّكاة؟
الألفان لا زكاة فيهما؛ لأنَّ المِلْكِيَّة انتقلتْ لِلبَنْك -وقلنا: لابدَّ من المِلْكِيَّة- ولكن مائة الألف هذه، أيدفع الزَّكاة عنها أم لا؟ نعم، هذا المبلغ كلُّه يدفع عنه الزَّكاة.

ولكن لو فرضنا أنَّ البضائِعَ وصلتْ بِالفعل إلى الميناء، والمبلغ دُفِعَ للمصدِّر في الخارج، فهنا لم يَعُدْ عليه زكاةٌ في المبلغ؛ بل يُصبح عليه الزَّكاة في عروض التِّجارة؛ أي: في البضائع التي استوردها للتِّجارة، فينظر لقيمة البضائع التي استوردها بمائة ألف، مثلاً قيمتها مائة وخمسون؛ إذن يدفع زكاةً عن مائةٍ وخمسين، وليس عن مائة. وعلى العكس: فإذا ظهر أنَّ هذه البضائع التي دَفَعَ فيا مائةَ ألف عندما جاءت كانت تالفةً؛ فلا زكاة عليها، ولو وصلت وانخفضت قيمتها يُخرِج 2.5% من القيمة السُّوقيَّة.

فهو إذنْ ينظُر إلى ما يملك، فإذا كانت البضائع لم تَصِلْ فهو يملك مائة ألف، وإذا كانت البضائع قد وصلت فهو يملك البضائع، فيزكِّي عن قيمتها؛ فلو كانت قيمتها مائة وخمسين يدفع الزَّكاة على مائة وخمسين، ولو كانت أقلَّ من مائة يدفع أقل من مائة، ولو كانت بلا قيمة فلا يدفع عنها شيئًا ... وهكذا.

والحمد لله في الأولى والآخِرة، والصَّلاة والسَّلام على رسوله المصطفى
والسلام عليكم ورحمه الله وبركاته

  • 17
  • 0
  • 33,718

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً