سهام المواعظ - [08] اللصوص
ما أجمل هذه الوصية التي وجَّهها والدٌ رحيمٌ بولده مشفق عليه من عواقب شرهه، وهو والد عبيد الله بن شميط بن عجلان حين رأى في المال وظيفة أخرى عند أهل النفاق فقال موصيا ابنه: " الدنانير والدراهم أزِمَّة المنافقين بها يُقادون إلى النار".
قال صلى الله عليه وسلم: «
» [صحيح الجامع: 2073]ويدخل في هذا الحديث: المرتشون، والغشاشون، وأي مؤتمن خائن، وكل من استرعاه الله أمانة فخانها، والذين ينظرون إلى مصالح الأمة على أنها غنيمة باردة ولقمة سائغة وفرصة للتربح وحيلة للثراء، وفي حديث البخاري: « ».
وما أجمل هذه الوصية التي وجَّهها والدٌ رحيمٌ بولده مشفق عليه من عواقب شرهه، وهو والد عبيد الله بن شميط بن عجلان حين رأى في المال وظيفة أخرى عند أهل النفاق فقال موصيا ابنه: " الدنانير والدراهم أزِمَّة المنافقين بها يُقادون إلى النار".
ولسنا نتعلم أصول الأمانة وطهارة اليد من جيل أتقى من الصحابة عليهم سحائب الرضوان.
عن موسى بن عقبة قال: " لما ولي عياض بن غنم قدم عليه نفر من أهل بيته يطلبون صلته، فلقيهم بالبشر وأنزلهم وأكرمهم، فأقاموا أياما، ثم كلموه في الصلة، وأخبروه بما لقوا من المشقة في السفر رجاء صلته، فأعطى كل رجل منهم عشرة دنانير، وكانوا خمسة فردوها وتسخطوا ونالوا منه، فقال: أي بني عم!! والله ما أنكر قرابتكم ولا حقكم ولا بعد شُقَّتكم، ولكن والله ما حصلت إلى ما وصلتكم به إلا ببيع خادمي وببيع ما لا غنى بي عنه فاعذروني. قالوا: والله ما عذرك الله، فإنك والي نصف الشام وتعطي الرجل منا ما جهده أن يبلغه إلى أهله. قال: فتأمرونني أسرق مال الله!! فوالله لأن أُشقَّ بالمنشار أحب إليَّ من أن أخون فلسا أو أتعدى. قالوا: قد عذرناك في ذات يدك ، فولِّنا أعمالا من أعمالك نؤدي ما يؤدي الناس إليك، ونصيب من المنفعة ما يصيبون، وأنت تعرف حالنا، وإنا ليس نعدو ما جعلت لنا. قال: والله إني لأعرفكم بالفضل والخير، ولكن يبلغ عمر أني وليت نفرا من قومي فيلومني. قالوا: فقد ولاك أبو عبيدة وأنت منه في القرابة بحيث أنت، فأنفذ ذلك عمر ، فلو وليتنا لأنفذه. قال: إني لست عند عمر كأبي عبيدة، فمضوا لائمين له".
وهذه اللذة الدنيوية التي حصَّلها من أكل أموال الناس بالباطل؛ ما قدرها؟! بل ما لذات الماضي كلها التي مرَّت بك طوال حياتك؟ هل تحس بأي منها الآن وقد استحالت ذكرى وصارت نسيا منسيا، وهو ما أدهشنا به ابن الجوزي قائلا: "هل تجد لماضي العمر لذَّة؟ والباقي على القياس".
يتوسع اليوم قوم في الحرام ويلتذون به، فهم في شهوات يُنفَق عليها من أموال الشبهات، ظلمات فوق ظلمات!! ثم ينقلب الحرام بعد موتهم جمرا في بطونهم، فما تفي لذته بتبعته:
تفنى اللذاذة ممن نال لذاتها *** من الحرام ويبقى الإثم والعار
تبقى عواقب سوء من مغَبَّتها *** لا خير في لذة من بعدها النار
وهو ما فهمه الأمراء والحكام زمنَ العدل والرشاد، وعلى القمة منهم عمر بن عبد العزيز الذي دخل يوما على امرأته فقال: يا فاطمة ..عندك درهم أشتري به عنبا؟! قالت: لا، فأقبلت عليه، فقالت: أنت أمير المؤمنين لا تقدر على درهم تشتري بها عنبا!! قال: "هذا أهون علينا من معالجة الأغلال غدا في نار جهنم"
فإذا أضفت لذلك أن الحريص المجاهد في سبيل المال والقنوع الزاهد في تحصيله، كلاهما يستوفي رزقه المقدور له غير منقوص، فعلام التهافت على نار جهنم إذن؟!
المرتشون اللصوص!!
قال النبي صلى الله عليه وسلم وكأنه يخاطب كل موظف يرتشي تحت ذريعة أن راتبه لا يكفيه: « » [صحيح الجامع: 6023]
وردَّ النبي (صلى الله عليه وسلم) على كل من خادع ربه فتصدق من المال المسروق وتطهَّر بالنجاسة من النجاسة فقال: «
» [صحيح الجامع: 7746].مزَّق النبي (صلى الله عليه وسلم) دعاوى الشيطان لآكلي الحرام وفتاوى إبليس لبائعي الجنة فقال حاسما: « » [صحيح الجامع: 7021].
وقد تحوَّل هذا الحديث النبوي إلى قاعدة إدارية صارمة أخذت مكانها بجدارة وسط جهاز الدولة زمن الراشدين، بعد أن رأوا بأعينهم أثر الرشوة الهدَّام ودورها في إفساد الذِّمم، فقد نُقِل عن عمر بن لخطاب أن رجلا أهدى له فخذ جزور، ثم أتاه بعد مدة ومعه خصمه فقال: يا أمير المؤمنين .. اقضِ لي قضاء فصلا كما يفصل الفخذ من الجزور!! فضرب عمر بيده على فخذه وقال مردِّدا نص القاعدة النبوية السابقة: "الله أكبر!! اكتبوا إلى الآفاق: هدايا العمال غلول".
وفقه الفاروق الدرس، فلم يُلدغ من جحر مرتين، فقد أهدى رجل من عُمَّاله نمرقتين 10 لامرأته، فدخل عمر فرآهما فقال: من أين لك هاتين؟!
فقالت: اشتريتهما.
قال: أخبريني ولا تكذبيني.
قالت: بعث بهما إليَّ فلان، فقال: قاتل الله فلانا إذا أراد حاجة فلم يستطعها من قبلي أتاني من قِبَل أهلي، فاجتبذهما اجتباذا شديدا من تحت من كان عليهما جالسا، فخرج يحملهما فتبعته جاريتها، فقالت: إن صوفهما لنا، ففتقهما وطرح إليها الصوف وخرج بهما، فأعطى إحداهما امرأة من المهاجرات، وأعطى الأخرى امرأة من الأنصار
أخطر ألوان الحرام: رشوة!!
وقد نهانا ربنا في كتابه فقال: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:188]
وهذا في عموم أكل أموال الناس بالباطل، وهو شامل لكل صور أكل الحرام سواء بالغش والتدليس وبخس الوزن والتطفيف والاختلاس والاغتصاب والسرقة والنهب، وكذلك الربا والرشوة، لكن الله خصَّ الرشوة هنا بالذكر هنا اهتماما بها وتدليلا على خطورتها وتنبؤا بشيوعها وكونها من أخطر ألوان أكل الحرام، وهو اختصاص يُعرف عند المفسرين بالاهتمام بالخاص من بين أفراد العام.
وقد صوَّر الله الرشوة صورة بلاغية رائعة مطابقة لصورة الراشي والمرتشي بطرفيها؛ حيث قال: {وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ}، والإدلاء هو إرسال الدلو في البئر، ولا يكون إلا بالحبل، وحبل الدلو يسمى رِشاء؛ فالرِّشاء والرشوة كما ترى من مادة واحدة، والمُدلي هو الراشي، والمُدلى إليه هو المرتشي، وما في الدلو هو الرشوة.
ولما كان التدلي مرادفا للتدني وهو ضد الترفع، فكأن الآية تحكم على المرتشي أنه تدنى من منعة العز إلى هوة الذل، ومن رفعة الصدق إلى سحيق الكذب، ومن علياء الأمانة إلى حضيض الخيانة، وانحرف بذلك عن جادة الجنة إلى شعاب جهنم.
لكن .. لماذا خصَّ الله الحكام بذكر الرشوة مع كونها ليست قاصرة عليهم؟!
والجواب: لأنها منهم أعظم خطرا وأشد فتكا؛ فهم ميزان العدالة؛ وإذا فسد الميزان اختل الاتزان، ولأنهم رأس الجسد، وإذا مرض الرأس عمَّ الوباء الأمة بأسرها، حتى تتحول الرشوة إلى لغة التواصل بين الناس وشرط قضاء الحوائج بينهم وإنفاذ مصالحهم، وهذا هو حالنا اليوم .. أليس كذلك؟!
- التصنيف:
- المصدر: