الناتو وهستيريا القتل في أفغانستان

منذ 2010-07-28

تشكل أفغانستان إحراجا كبيرا لحلف الناتو وللإدارة الأمريكية وللحكومة البريطانية وحلفائهما، إحراجا يزداد مع تراكم خسائر الحلف العسكرية والتي غدت مادة إخبارية شبه يومية...


تشكل أفغانستان إحراجا كبيرا لحلف الناتو وللإدارة الأمريكية وللحكومة البريطانية وحلفائهما، إحراجا يزداد مع تراكم خسائر الحلف العسكرية والتي غدت مادة إخبارية شبه يومية. إدارة أوباما والتي اعتبرت أن من أهم أولوياتها كسب المعركة العسكرية في أفغانستان، بدت وكأنها تغرق في الرمال الأفغانية المتحركة خصوصا مع التوجهات الشعبية الأمريكية المتصاعدة والرافضة للحرب هناك. بل إن الانتخابات الرئاسية الأفغانية، والتي كانت تعتبر من الرهانات الغربية الرئيسة في الملف الأفغاني، بدت هي الأخرى وكأنها لغم على وشك الانفجار وفتيل أزمة مهيأة للاشتعال بين حلفاء واشنطن في البلد المنكوب.


زيارات المسؤولين الغربيين المتكررة لكابول وتصريحاتهم المتضاربة تشير إلى عمق أزمة حلفاء الناتو في أفغانستان في أبعادها العسكرية والسياسية والأخلاقية. فمن الناحية العسكرية تعتبر القضية الأفغانية الكارثة الأكبر في تاريخ حلف الناتو، وهي التي فجرت خلافات علنية وإعلامية بين الأعضاء من حيث المساهمة العسكرية وتحمل المسؤوليات حتى سمعنا تصريحات أمريكية تعتبر أن ما يجري يهدد وجود حلف الناتو وبشكل جدي. التحدي العسكري لحلف الناتو يأتي بأبعاد محرجة، فالناتو بقضه وقضيضه وإمكاناته الكبيرة يبدو عاجزا ومأزوما أمام مجموعة من المقاتلين البدائيين، والذين يفتقرون لأي دعم سياسي أو عسكري من أية دولة في العالم على نقيض الوضع الأفغاني في مرحلة الغزو السوفيتي في القرن الماضي.


أما أزمة الغرب في أفغانستان في بعديها السياسي والأخلاقي فهي صارخة وفاقعة، فالادعاء بأن القوات الأمريكية والغربية جاءت لتنقذ الشعب الأفغاني من اضطهاد طالبان وتحريره من مظالمها، وبشكل خاص المرأة الأفغانية، تبدو غير صحيحة على الإطلاق. فالعمليات العسكرية والتحركات الناجحة لقوات طالبان لا يمكن لها أن تتطور وتتصاعد إن لم تكن تتحرك ضمن حاضنة شعبية متعاطفة ومتعاضدة. والأحوال العامة للشعب الأفغاني في غاية البؤس أمنيا ومعيشيا واجتماعيا، فالتقارير الدولية تتحدث عن المتاجرة بالنساء وعن لجوء بعضهن لمسالك بائسة لتأمين لقمة العيش -خصوصا في الشمال الأفغاني- جراء الفقر المدقع والظروف القاهرة. أما انتشار المخدرات وازدهار زراعتها والمتاجرة بها، فقد أصبحت من سمات أفغانستان "المحررة" ورجالاتها حتى وصلت قضية التجارة بالمخدرات إلى أخ الرئيس الأفغاني.


الدعاية الغربية والتي سطحت الشأن الأفغاني وحصرت مسألته وقضيته بالحرب على الإرهاب والتخلف ارتدت بشكل سلبي على الإستراتيجية الغرب وأطروحاتها الفكرية والدعائية. فالتراجع الغربي في أفغانستان قد يفسر على أنه هزيمة أمام الإرهاب. أما الأصوات الغربية والتي تنادي بالتفاوض مع الطالبان فهي في المحصلة ترمي إلى اللقاء مع "الإرهابيين" والاعتراف بهم. وإذا ما تم الاعتراف بطالبان كحركة مقاومة وطنية مشروعة، فإن علامات استفهام كبيرة سترفع حول دوافع الحرب على الإرهاب وأهدافها ومراميها، وستكون هناك حاجة ماسة لإعادة صياغة مصطلحاتها وتعريفاتها.

بالإضافة إلى الخسائر العسكرية الغربية والتي أصبحت ملازمة للأخبار الواردة من أفغانستان، تأتي أخبار هستيريا القتل والتي تمعن فيها القوات الغربية بقتل أعداد كبيرة من المدنيين الأفغان مع الإدعاء بإيقاع خسائر كبيرة في صفوف مسلحي طالبان، ومن بعد ذلك إطلاق التصريحات الاعتذارية والتعهد باتخاذ احتياطات وإطلاق التحقيقات لتجنب ما يتم تكراره لاحقا. أخر تلك المآسي الغارة التي شنتها قوات الناتو في إقليم قندز بالقرب من قرية عمر خيل على الحدود مع طاجكستان واستهدفت ناقلتين للنفط تم اختطافهما وهما في طريقهما لتسليم شحنة من الوقود إلى قوات الناتو.


وفي حين أعلن الجيش الألماني الذي تشارك قواته في أنشطة الحلف في أفغانستان إن 56 من مسلحي طالبان قتلوا في الغارة، أشار مراسل بي بي سي في قندز إلى إن بعض الجثث احترقت في الحادث ولم يتم التعرف عليها، ونقل عن السكان المحليين تأكيدهم أن عدد القتلى تجاوز المائتين وأن أغلبهم من المدنيين. تكرار سقوط المدنيين الأفغان وبأعداد كبيرة يؤشر إلى التخبط الكبير لقوات الناتو في أفغانستان والضيق الشديد والتي تعاني منه وإلى الاستهتار الواضح والفاضح بأرواح المدنيين والذين يفترض أن تلك القوات قد جاءت لإنقاذهم وتحريرهم. أما ما يعقب تلك الأحداث البائسة من عبارات الأسف والأسى، فهي لا تصمد أمام الأيام والتي تلي تلك الحوادث لتكشف أن تلك المشاعر والمواقف "الإعلامية" تذوي وتذوب ولا يتم في الغالب اتخاذ خطوات عملية لترجمتها.

تكرار قتل المدنيين وبأعداد كبيرة على أيدي القوات الغربية يؤدي إلى زيادة التأييد والتعاطف الشعبي مع حركة طالبان وضخ أعداد كبيرة من المتطوعين الشباب الذين يتوقون للانتقام في صفوفها. كما إن صور الضحايا والدمار الناشئ عن القصف قوات الناتو يرسخ صورة المستعمر والمحتل الدموي و"الصليبي" في أذهان رجل الشارع الأفغاني، والذي يترجم غضبا شعبيا عارما سرعان ما تتجاوب معه حركة طالبان بمزيد من العمليات العسكرية والانتقامية.
 
20/9/1430 هـ
 

المصدر: د. ياسر سعد - موقع المسلم
  • 0
  • 0
  • 3,093

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً