الديمقراطية الاستبداد الناعم
ومصطلح الديمقراطية راج في أوساط عامة الجماهير أنه: حكم الشعب، كترجمة مباشرة للكلمة اليونانية التي استخدمها الأثينيون قبل أكثر من 2500 عام كتسمية لنظامهم السياسي وقتها.
معرفة الشيء فرع تصوره، ولذا وجدت التعريفات للمصطلحات سواء كانت علمية أو فلسفية أو سياسية وغيرها. فالتعريف هو إجابة على سؤال: ما هو؟ أي تحديد ماهية الموضوع، فتحديد المصطلحات أمر ضروري لإنتاج تصور يمكن قبوله أو رده أو التعديل عليه.
ومصطلح الديمقراطية راج في أوساط عامة الجماهير أنه: حكم الشعب، كترجمة مباشرة للكلمة اليونانية التي استخدمها الأثينيون قبل أكثر من 2500 عام كتسمية لنظامهم السياسي وقتها.
يقول كارل بوبر (1902-1994) في درس القرن العشرين: "لم تكن الديمقراطية أبداً حكم الشعب، لا يمكنها ولا يجب أن تكون كذلك".
وبالفعل فإن الأثينيين لم يكونوا يقصدون بهذا المصطلح تلك الترجمة الحرفية. وإنما كانت هي حكم العدد الكبير من الناس في مقابل حكومة الفرد (الملكية)، أو حكم مجموعة من الأشخاص (الأرستقراطية).
إذ قامت القبائل العشرة التي تملك أثينا وقتها باقتسام المناصب السيادية فيما بينها (شئون الحرب، والسياسية، ضبط الأسواق، ومجلس الشيوخ) ثم أتى تحت هؤلاء جميعاً المواطنون الذين لهم حق حضور الاجتماع الشعبي، وكانوا يمثلون حوالي 13%، بعد استبعاد العبيد الذي كانوا يشكلون أكثر من ثلث المجتمع، وكذلك النساء، والعمال.
ولم يكن الشعب يجتمع إلا بدعوة من مجلس الشيوخ الذي يمثل القبائل العشرة، ليعرض عليه مجلس الشيوخ مشروعات القرارات ليقبل أو يرفض، ولم يكن حق المناقشة متاحاً للجميع. فهذه الصورة هي التي أطلق عليها الإغريق اسم الديمقراطية.
ومن الأثينيين قبل أكثر من 2500 عام وحتى كارل بوبر 1994م، مروراً بتوكفيل (1805-1859) الذي يقول: "إن ما يهم الديمقراطية بالدرجة الأولى ليس إيجاد الطريقة التي يحكم بها الشعب نفسه، بل إن يختاروا للشعب أفضل من يحكمه". فمن هم أولئك السادة الذين سيختارون للآخرين الذين من ثم يصيرون عبيداً؟
وبالرجوع قليلاً إلى جون لوك (1603ـ 1704) في كتابه عن الحكم المدني، الذي اُعتبر حجر الزاوية في النظرية الديمقراطية الحديثة بكل من انجلترا وأمريكا، بعد أن يقرر أن الهيئة التشريعية هي السلطة العليا التي لا تعلوها سلطة، يقرر أنه لا حكم بين الهيئة التشريعية والشعب، فلو قررت تلك السلطة استعباد الشعب، هكذا يقول؛ فليس أمام الشعب مخرج، سوى الاستجارة بالسماء.
إذ لا حكم لهم يلوذون به على الأرض، ويقرر أن الشعب لا يصح أن يكون حكماً فعلياً، وبناء عليه يعطيه حق تقرير المصير بناء على الحالة الفطرية الأولى التي خلق الله عليها البشر، وهذا لا يعد نظاماً كما أقر هو بنفسه.
وأما في مجال الممارسة العملية، فنجد أن الدستور الفرنسي في بدايته قد وضع قيوداً عدة على حق الانتخاب، ومنها قيود مالية على من يحق له التصويت. فرنسوا جيزو الذي أسس وقاد أول حزب ليبرالي في فرنسا؛ في عام 1840م عارض اقتراح بتخفيض الشرط المالي لحق الانتخاب، ولم يهتم بأن بقاء هذا الشرط سيبقي على احتكار الأغنياء لحق الانتخاب.
فالأمر لم يكن عاماً للشعب، وإنما استئثار بالنفوذ السياسي والسلطة في فئة بعينها، تلك هي فئة السادة الذين سيتألهون على بقية الشعب ويستعبدونه عبر التشريعات باسم الإرادة الشعبية ورغبات الجماهير.
تلك الفئة التي يتركز بيدها المال والسلطة؛ وبالتالي لا يتمكن أحد من الجمهور أن ينال حظاً من الحرية إلا بأن يوافقهم ويسير في ركابهم، ومن ثم يفقد رأيه الحر، لينال قدراً من المال والنفوذ، وهو ما نراه في اختراق وتحولات تحدث في أوساط الإعلاميين وأساتذة الجامعات والقضاة وغيرهم.
لو نظرت لأول دستور مصري (دستور 23) والذي يعتبره الليبراليون أفضل دستور ديمقراطي عرفته مصر؛ تجد المادة [78] منه تقصر حق الترشح على طبقات بعينها، كالوزراء ووكلاء الوزراء، ومستشاري محكمة الاستئناف، وكبار الضباط من رتبة لواء، ثم وضعت شروطاً مالية لمن يحق لهم الترشح خارج هذه الطبقات فتقول: "الملاك الذين يؤدون ضريبة لا تقل عن مائة وخمسين جنيهاً مصرياً في العام - من لا يقل دخلهم السنوي عن ألف وخمسمائة جنيه من المشتغلين بالأعمال المالية أو التجارية أو الصناعية أو بالمهن الحرة".
أي أن الناخبين يتشاجروا فيما بينهم من يكون النائب عنهم اللواء فلان أو الباشا فلان أو رجل الأعمال فلان، ولا حق لهم سوى ذلك، ليصبح المجلس مجلس الباشاوات والأثرياء.
وهو الأمر الذي كان مشابهاً للحالة الإنجليزية حيث حق الانتخاب مقصوراً على من يملك أو يحوز حيازة دائمة أرضاً وأرباب العائلات، ولم تكن انجلترا حتى عام 1918م تعرف حق الانتخاب للمعدمين.
خلاصة القول أن الديمقراطية استبداد تقوده سيادة جماعية بديلاً عن الاستبداد الفردي، وبعد أن سطرت الديمقراطية قواعدها في تشريعات وقوانين، جعلت منه مقدساً لا يجوز المساس به أطلقت رويداً رويداً حق الانتخاب العام، ليقع التنافس تحت النظام التشريعي المقدس الذي سطرته.
وبدأت تطرح نفسها على أنها القدرة على إقالة الحكومة دون إراقة دماء، وهذا حديث عن السلطة التنفيذية يغفل عن عمد السلطة الأعلى: السلطة التشريعية.
ولعل هذا يوضح لك لماذا كان يُطلب بأن يكون الدستور أولاً في السابق، والآن يدعى الناس لديمقراطية توافقية، واستبعاد تيار بعينه عن موضع التنافس عشر سنين، هي مرحلة وضع التشريعات وصياغة القوانين، حيث يتم استبعاد الجماهير، ثم يطلب منها الانصياع والخضوع للقوانين بدعوى الخضوع للإرادة العامة. ثم لا مانع بعد ذلك من التنافس شريطة المحافظة على الدستور والقانون (الشريعة التي وضعت في غيابك).
ويوضح أيضاً سبب رفض الغرب الديمقراطي للحرية في بلاد المسلمين، فتأييد الحكومات الاستبدادية والانقلابات على الانتخابات، مرجعه أن حركة الجماهير الحرة في هذه البلاد ستمس بالمقدس عندهم أي بالنمط التشريعي الذي وضعوه (السلطة العليا). أما السلطة التنفيذية فلا مانع لديهم من المنافسة الحرة عليها شريطة أن تظل حامية وحارسة على النمط التشريعي الموضوع.
هذا؛ وفرض النمط التشريعي على النحو الذي تسلكه الديمقراطية سلب للحرية الإنسانية التي فطر الله عليها الخلق، فالدخول تحت سلطة القانون أو التشريع الوضعي أو الإلهي يحتاج إلى حرية، حرية اختيار العقد الذي يرتضيه الإنسان، قال تعالي: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان:3]، وقال تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف من الآية:29].
فالإنسان حر في اختياره الدخول تحت أي سلطة كانت، ولكن الديمقراطية تسلب هذا الحق ابتدءاً، وإن كانت تسمح بحق تداول السلطة التنفيذية في ظل الخضوع لمنظومتها (سلطتها التشريعية).
- التصنيف:
- المصدر: