خطب مختارة - [110] الصلاة فلاح

منذ 2016-08-07

أَنَّ مِمَّا يُدمِي القَلبَ في هَذِهِ الأَزمِنَةِ أَسًى وَأَسَفًا، أَن غَدَتِ الصَّلاةُ عِندَ فِئَامٍ مِنَ المسلمين آخِرَ مَا يَهتَمُّونَ بِهِ، فَمِن تَارِكٍ لها بِالكُلِّيَّةِ ؛ ومِن مصلٍّ تارة وتارك تارة ، ومِن مُصَلٍّ في بَيتِهِ هَاجِرٍ لِلمَسَاجِدِ وَالجَمَاعَاتِ، إِلى مُتَكَاسِلٍ في الحُضُورِ إِلَيهَا مُؤَخِّرٍ لها عَن وَقتِهَا.

الخطبة الأولى

  {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم وَالَّذِينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ} [البقرة: 21].

 عباد الله، حِينَمَا ذَكَرَ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ - في أَوَائِلِ سُورَةِ البَقَرَةِ عِبَادَهُ المُؤمِنِينَ، وَأَثنى عَلَيهِم بِإِيمَانِهِم وَعَمَلِهِمُ الصَّالِحِ، كَانَت أَوَّلَ صِفَةٍ عَمَلِيَّةٍ مِن صِفَاتِهِم بَعدَ الإِيمَانِ بِالغَيبِ إِقَامَتُهُمُ الصَّلاةَ عَلَى الدَّوَامِ، قَالَ سُبحَانَهُ: {الم . ذَلِكَ الكِتَابُ لا رَيبَ فِيهِ هُدًى لِلمُتَّقِينَ . الَّذِينَ يُؤمِنُونَ بِالغَيبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقنَاهُم يُنفِقُونَ} [البقرة: 1-3].ثُمَّ وَصَفَهُم الله في نِهَايَةِ أوصافهم في هذه الآيات بِالهداية والفَلاحِ فَقَالَ:   {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِن رَبِّهِم وَأُولَئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ} [البقرة: 5].

وَفي أول سورة لقمان حِينَمَا ذَكَرَ الله المُفلِحِينَ وَوَصَفَهُم بِالإِحسَانِ، جَعَلَ إِقَامَةَ الصَّلاةِ هِيَ أَوَّلَ صِفَاتِهِم، قَالَ سُبحَانَهُ: {الم . تِلكَ آيَاتُ الكِتَابِ الحَكِيمِ . هُدًى وَرَحمَةً لِلمُحسِنِينَ . الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالآخِرَةِ هُم يُوقِنُونَ . أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِن رَبِّهِم وَأُولَئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ} [لقمان: 1- 5].

وَفي أواخر سورة الحج يقول سُبحَانَهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اركَعُوا وَاسجُدُوا وَاعبُدُوا رَبَّكُم وَافعَلُوا الخَيرَ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ} [الحج: 77]، فَذَكَرَ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ اللَّذَينِ هُمَا مِن أَظهَرِ أَفعَالِ الصَّلاةِ، وفي أول سورة المؤمنون يصف الله المؤمنين المفلحين فيقول: {قَد أَفلَحَ المُؤمِنُونَ . الَّذِينَ هُم في صَلاتِهِم خَاشِعُونَ . وَالَّذِينَ هُم عَنِ اللَّغوِ مُعرِضُونَ}.  إلى أن قال: {وَالَّذِينَ هُم عَلَى صَلَوَاتِهِم يُحَافِظُونَ} [المؤمنون: 1- 9]، فَبَدَأَ صِفَاتَهُمُ الَّتي نَالُوا بها الفَلاحَ بِالخُشُوعِ في الصَّلاةِ وَخَتَمَهَا بِالمُحَافَظَةِ عَلَيهَا، ثم ذَكَرَ غَايَةَ الفَلاحِ وَأَعظَمَ الفَوزِ فَقَالَ: {أُولَئِكَ هُمُ الوَارِثُونَ . الَّذِينَ يَرِثُونَ الفِردَوسَ هُم فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 10- 11].

وَفي سورة الأعلى يقول جَلَّ وَعَلا: {قَد أَفلَحَ مَن تَزَكَّى. وَذَكَرَ اسمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 14 – 15]،  وَعَن أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ العَبدُ يَومَ القِيَامَةِ مِن عَمَلِهِ صَلاتُهُ، فَإِن صَلَحَت فَقَد أَفلَحَ وَأَنجَحَ، وَإِن فَسَدَت فَقَد خَابَ وَخَسِرَ» [سنن الترمذي: 413].

أَرَأَيتُم -عِبَادَ اللهِ- كَيفَ يَكُونُ الفَلاحُ وَالنَّجَاحُ؟! وَمَا أَوَّلُ صِفَاتِ أَهلِهِ ؟! إِنَّهَا الصَّلاةُ، نَعَم إِنَّهَا الصَّلاةُ، وَمِن ثَمَّ فَلا عَجَبَ أَن يُنَادَى لِلصَّلاةِ بِالأَمرِ بِالسَّعيِ الحَثِيثِ إِلى الفَلاحِ، فَيَقُولَ المُؤَذِّنُ في النِّدَاءِ وَالإِقَامَةِ: حَيَّ عَلَى الفَلاحِ .

وَلا عَجَبَ بَعدَ ذَلِكَ أَن تَكُونَ هِيَ أَوَّلَ مَا يَهتَمُّ بِهِ الحَبِيبُ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ- وَخَاتِمَةَ مَا أَوصى بِهِ . وعَن أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم «كَانَ إِذَا غَزَا بِنَا قَومًا، لم يَكُنْ يَغزُو بِنَا حَتى يُصبِحَ وَيَنظُرَ إِلَيهِم، فَإِن سَمِعَ أَذَانًا كَفَّ عَنهُم، وَإِن لم يَسمَعْ أَذَانًا أَغَارَ عَلَيهِم» [صحيح البخاري: 610].

وَعَن عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ آخِرُ كَلامِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: «الصَّلاةَ الصَّلاةَ، اِتَّقُوا اللهَ فِيمَا مَلَكَت أَيمَانُكُم» [صحيح أبي داود: 5156].

إخوة الإيمان، إِنَّ ثَمَّةَ أُمُورًا يُمكِنُ أَن نَستَوحِيَهَا مِمَّا سَبَقَ وَنَستَنتِجَهَا بِالتَّأَمُّلِ فِيمَا تَقَدَّمَ، لِنَعرِفَ أَيَّ صَلاةٍ هِيَ الصَّلاةُ الَّتي يُفلِحُ بها العَبدُ وَيَفُوزُ وَيَنجَح ؟! تأملوا قولَ الله عز وجل في الآيات السابقة: {وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ} [البقرة: 4]، وَقولَه سُبحَانَهُ: {الَّذِينَ هُم في صَلاتِهِم خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 2]، وَقولَه تَعَالى: {وَالَّذِينَ هُم عَلَى صَلَوَاتِهِم يُحَافِظُونَ} [المؤمنون: 9]، وَقَولَه عَزَّ وَجَلَّ: { وَذَكَرَ اسمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 15]، وَتأملوا قول النبي صلى الله عليه وسلم:   «فَإِن صَلَحَت  فَقَد أَفلَحَ وَأَنجَحَ» [سنن الترمذي: 413]، وَتأملوا النِّدَاءُ لِلصَّلاةِ في الأَذَانِ حيث جَاءَ بِلَفظِ: حَيَّ عَلَى الصَّلاةِ حَيَّ عَلَى الفَلاحِ يعني : أقبلوا بوجوهكم وسرائركم إلى الهدى عاجلا وما يكون به الفوز بالنعيم والجنة آجلا .

أيها الإخوة، إن في مَجمُوعِ هَذَا التأملات في هذه النصوص الشرعية لتَوجِيهٌ لِنا إِلى أَنَّ الصَّلاةَ الَّتي يَكُونُ بها الفَلاحُ، هِيَ الَّتي تُقَامُ مُستَقِيمَةً لا عِوَجَ فِيهَا، وَتُحيَا بِالخُشُوعِ وَكَثرَةِ ذِكرِ اللهِ فِيهَا بِقَرَاءَةِ القُرآنِ وَالتَّسبِيحِ وَالدُّعَاءِ، وَيَحضُرُ مُؤَدُّوهَا إِلَيهَا غَيرَ مُتَبَاطِئِينَ وَلا مُتَكَاسِلِينَ، بِكُلِّ هَذَا تَكُونُ الصَّلاةُ مُؤَدِّيَةً إِلى النَّجَاحِ وَالفَلاحِ في الدُّنيَا وَالآخِرَةِ .

وَلَو تَأَمَّلَ مُتَأَمِّلٌ عِظَمَ الأُجُورِ المُوعُودِ بها مَن حَافَظَ عَلَى الصَّلَوَاتِ وَأَدَامَ إِدرَاكَ الجَمَاعَاتِ؛ ثم نَظَرَ مَا يَضِيعُ مِنَ الأُجُورِ وَالفَضَائِلِ عَلَى مَن تَركَ الصَّلاةَ أَو هَجَرَ المَسَاجِدَ؛ لَعَلِمَ حَقًّا قِيمَةَ الفَلاحِ الَّذِي يَفُوزُ بِهِ المُهتَمُّونَ بِصَلاتِهِم، وَحَجمَ الخَسَارَةِ الَّتي يخسرها المُتَهَاوِنُونَ بِأَمرِ الصلاة الغَافِلُونَ عَنهَا ، قَالَ صلى الله عليه وسلم: «خَمسُ صَلَوَاتٍ افتَرَضَهُنَّ اللهُ -تَعَالى- مَن أَحسَنَ وُضُوءَهُنَّ وَصَلاَّهُنَّ لِوَقتِهِنَّ، وَأَتَمَّ رُكُوعَهُنَّ وَخُشُوعَهُنَّ، كَانَ لَهُ عَلَى اللهِ عَهدٌ أَن يَغفِرَ لَهُ، وَمَن لم يَفعَلْ فَلَيسَ لَهُ عَلَى اللهِ عَهد .....» [المعجم الأوسط: 9/125].

وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «صَلُّوا خَمسَكُم، وَصُومُوا شَهرَكُم، وَأَدُّوا زَكَاةَ أَموَالِكُم، وَأَطِيعُوا ذَا أَمرِكُم، تَدخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُم»[صحيح الترمذي: 616].

وَقَالَ - عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ:«مَن صَلَّى البَردَينِ دَخَلَ الجَنَّةَ» [صحيح البخاري: 574]، (والبردان : الفجر والعصر) وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: « مَن صَلَّى الصُّبحَ فَهُوَ في ذِمَّةِ اللهِ» [صحيح الجامع: 6339]. وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «مَن صَلَّى العِشَاءَ في جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا قَامَ نِصفَ اللَّيلِ ، وَمَن صَلَّى الصُّبحَ في جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا صَلَّى اللَّيلَ كُلَّهُ» [صحيح مسلم: 656].

وَقَالَ - عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: «مَن صَلَّى في اليَومِ وَاللَّيلَةِ اثنتَي عَشرَةَ رَكعَةً تَطَوُّعًا بَنَى اللهُ لَهُ بَيتًا في الجَنَّةِ» [صحيح الجامع: 6362].

وَقَالَ - عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: «الصَّلَوَاتُ الخَمسُ ؛ وَالجُمُعَةُ إِلى الجُمُعَةِ؛ كَفَّارَةٌ لِمَا بَينَهُنَّ مَا لم تُغشَ الكَبَائِرُ ) رَوَاهُ مُسلِمٌ وَغَيرُهُ. وَعَن عَبدِ اللهِ بنِ عَمرٍ - رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا - عَنِ النَّبيِّ r : أَنَّهُ ذَكَرَ الصَّلاةَ يَومًا فَقَالَ : ( مَن حَافَظَ عَلَيهَا كَانَت لَهُ نُورًا وَبُرهَانًا وَنَجَاةً يَومَ القِيَامَةِ، وَمَن لم يُحَافِظٍ عَلَيهَا لم يَكُنْ لَهُ نُورٌ وَلا بُرهَانٌ وَلا نَجَاةٌ، وَكَانَ يَومَ القِيَامَةِ مَعَ قَارُونَ وَفِرعَونَ وَهَامَانَ وَأُبَيِّ بنِ خَلَفٍ» [صحيح ابن حبان: 1467].

وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «مَن تَرَكَ صَلاةَ العَصرِ فَقَد حَبِطَ عَمَلُهُ» [صحيح البخاري: 553]). وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «صَلاةُ الجَمَاعَةِ أَفضَلُ مِن صَلاةِ الفَذِّ بِسَبعٍ وَعِشرِينَ دَرَجَةً» [صحيح مسلم: 650].

أَلا فَاتَّقُوا اللهَ – عباد الله - {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُم تُرحَمُونَ} [النور: 56] .

الخطبة الثانية

أَمَّا بَعدُ، فَاتَّقُوا اللهَ - تَعَالى - وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ، وَاشكُرُوهُ وَلا تَكفُرُوهُ، وَاعلَمُوا أَنَّ مِمَّا يُدمِي القَلبَ في هَذِهِ الأَزمِنَةِ أَسًى وَأَسَفًا، أَن غَدَتِ الصَّلاةُ عِندَ فِئَامٍ مِنَ المسلمين آخِرَ مَا يَهتَمُّونَ بِهِ، فَمِن تَارِكٍ لها بِالكُلِّيَّةِ ؛ ومِن مصلٍّ تارة وتارك تارة ، ومِن مُصَلٍّ في بَيتِهِ هَاجِرٍ لِلمَسَاجِدِ وَالجَمَاعَاتِ، إِلى مُتَكَاسِلٍ في الحُضُورِ إِلَيهَا مُؤَخِّرٍ لها عَن وَقتِهَا.

وَبَينَ ذَلِكَ وَذَاكَ، قَومٌ يُؤَدُّونَهَا شَارِدَةً أَذهَانُهُم، غَائِبَةً عُقُولُهُم، يَأتُونَ بها حَرَكَاتٍ شَكلِيَّةً؛ لا يَذكُرُونَ اللهَ فِيهَا؛ وَلا يَدعُونَ وَلا يَتَبَتَّلُونَ، وبعضهم يسرعون ولا يتمون ركوعها وسجودها وقيامها وجلساتها، قَد سَلَبَتِ الدُّنيَا مِنَ هذه النُّفُوسِ زَكَاءَهَا؛ وَحَالَت بَينَ القُلُوبِ وَنُورِهَا.

وَبذلك نرى كيف فَرَّطَ كثير من المُسلِمُينَ – ولا سيّما الشباب - في سَبَبِ فَلاحِهِم وراحتهم وسعادتهم واطمئنانهم، وَلَو أَنَّهُم افتقروا إلى الله فقاموا بطاعته وأَقَامُوا الصَّلاةَ كَمَا يَجِبُ، وَأَدَّوهَا كَمَا يُرِيدُ رَبُّهُم وَيُحِبُّ، لَوَجَدُوا نور وبركة هذه الصلاة، انشراحا وطمأنينة وراحة في الدنيا؛ وسعادة وفوزًا ونجاة في الآخرة ، قَالَ - عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: « وَالصَّلاةُ نُورٌ» [صحيح مسلم: 223]. ويقول صلى الله عليه وسلم لبلال رضي الله عنه: « أرحنا بالصلاة يا بلال» [سنن أبي داود: 4985] ويقول صلى الله عليه وسلم: «وجعلت قرة عيني في الصلاة» [المعجم الأوسط: 6/53].

اللهم اجعلنا وذرياتنا من المحافظين على هذه الصلوات في هذه المساجد؛ خاشعين فيها لله رب العالمين.                      

  • 10
  • 1
  • 7,147
المقال السابق
[109] الصلاة الصلاة
المقال التالي
[111] الصور الإباحية وخطورة تناقلها

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً