علمتني زهرة الفُلّ
الإنسان هو أعظم كنز تملكه، فإذا ظفرت بكنز بشري، فلا تتعامل معه بحماقة، نعم قد تبرد العلاقة، دعها تبرد بالطريقة التي تعجبها، ولكن أرجوك لا تحرقها.. فقد تندم كثيراً عندما ترى هشيم قلب كان ينبض بحبّك!!
في طريقي لصلاة الفجر وأنا ذاهب إلى جامع الخالدية الغربي (مسجد حنيظل) كنت أمرّ بحوض زراعيّ صغير مسوّر بشبك حديديّ، بجوار بيت جارنا أبي سعود رحمه الله كان موقعه قُبالة دكانه الصغير، فما إن أقترب منه حتى يتسلل إلى صدري شذى زهرة الفلّ العبقة!
أتذكّر جيداً أول مرّة أشم فيها تلك الرائحة، وكيف أنّي لم أدرك من أين تنبعث على وجه التحديد، مكثت ثلاثة أيام أو أكثر حتى تعرّفت إلى مصدر الرائحة، وأنّها تنبعث من تلك الورود البيضاء الصغيرة.
كان هذا عام 1410هـ، أيام الربيع، لا أنسى خطواتي كيف تتباطأ وأنا أحاول أن أوْدِع صدري أكبر كميّة من ذلك العطر الفاتن، ولا يمنعني من الوقوف أمام ذلك الحوض الصغير إلا رَجُل يتوضّأ من حنفيّة لصيقة بجدار المسجد، أو آخر قادم تتهادى خطواته المتثائبة، أو إقامة للصلاة.. فإذا خلا المكان من هذه الأمور، فإني أقف لثوانٍ أعُبّ من ذلك الشذى، ثم أمضي.
الذي لفت نظري تلك الأيام أن ذلك الشذى لا ينبعث إلا وأنا ذاهب أو عائد من صلاة الفجر، أما بقيّة الأوقات فلا ينبعث فيها!
علمتُ من منطوق العطر أن وقت الفجر هو الوقت المناسب لزهرة الفلّ حتى تتضوّع، وعلمتُ من مفهومه أن لكل إنسان كذلك ظرفه المناسب حتى يعطيك الأجمل .. فلا تطالبني بما تراه مناسباً، في وقت قد يكون غير مناسبٍ!
قهقهة الجاحظ!
لمحت من تصرّف لأخي الأكبر أنّه يقدّر القراءة، ويشجّع عليها، فأضمرت في نفسي أن أُطْلعه على أي كتاب أشتريه مستقبلاً، وسُرعان ما تحقق لي ذلك، فقد تجمّع عندي مبلغ يصلح لزيارة "مكتبة الفلاح"، فاشتريت سلسلة قصصية صغيرة الحجم مستلّة من كتاب البخلاء للجاحظ، ذات رسوم جميلة.
وما إن عدت بها إلى البيت وكانت عشرة أجزاء تقريباً، حتى دخلت مباشرة إلى المجلس حيث كان يجلس أخي، وقفت أمامه وبيدي الكتب لأريه إيّاها، فحصل ما لم أكن أتوقّعه، فعل شيئاً لم يفعله قبل ذلك ولا بعده، لا معي ولا مع غيري! لقد نَهَرني وطردني من المجلس دون أن أعلم السبب !! شعرت بقدر لا بأس به من الخزي، وخرجت من المجلس وكأني أسمع قهقهة أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، متهكماً ساخراً!
إلى هذه اللحظة لا أدري عن سبب ذلك التصرّف الغريب، ولكن وردة الفل علمتني أن شذى أخي الطيّب لم يتضوّع في تلك الساعة لأسباب لا أعلمها، كما أني لا أعلم سبب عدم تضوّع وردة الفل وقت العصر مثلاً!
لعلّه كان يعاني من صداع ما، أو أنّ أحدهم نقل إليه كلاماً سيئا عنّي، أو أنّ خبراً سيئاً وصله للتوّ .. لا أعلم .. ولكن يجب أن أعلم أنّ أخلاقه النبيلة التي تتضوّع دائماً بالخير لم تفعل ذلك تلك اللحظة.
أخطأت وقتها، وكنت أهلاً للخطأ إذ أني كنت في السادسة الابتدائية، وكان خطئي أني قررت ألاّ أعرض أي كتاب على أخي بعد ذلك أبداً.. ظننت أنّ طرده لطفل يعرض عليه كتابا اشتراه هو الأصل فيه، وكنت كمن قلع شجرة الفل في وقت العصر لأنه مرّ بجوارها فلم تُهْدِه شذاها!
كما أن هناك أوقات لا تنبعث فيها رائحة زهرة الفل، فهناك ظروف ليست جيّدة للبعض، مما يجعلهم لا يقابلونك بأجمل ما لديهم، لا تجعل تلك الظروف هي الأصل، ولا تجعل برودهم تجاهك هو القاعدة، بل انتظر الوقت المناسب ثم تمتّع بشذى ما لديهم من خير وطيبة ..
أنا أتحدّث عن زهرة الفل، وعن أناس يتضوّعون كشجرة الفل، فألغ من رأسك أي إنسان لا يملك عطراً يتضوّع منه! هؤلاء ليسوا معنيين بما أكتب الآن..
صُداع الشقيقة
كان وقتاً ممتعاً ذلك الذي قضيته مع ضيفي الذي زارني في بيتي بحي العريجا بالرياض، كان هذا عام 1420هـ تقريباً، تناقشنا فيه، وتجاذبنا أطراف الحديث حول أمور متعددة، واستمتعنا بالأحاديث الطريفة والظريفة، ثم لماّ جاء وقت الطعام، وانتهيت من إعداد سفرة العشاء، دخلت عليه وطلبت منه تشريفي على السفرة، فلم يرد عليّ بكلمة، نظرت إليه فإذا بيده قابضة على مقدمة رأسه، استحثثته مرّة أخرى لينهض فلم ينبس ببنت شفة، وإنما أشار بيده أنْ: ابدأ أنت بالأكل!
استغربت لحظتها، وسألته: هل تعاني من صداع؟ فأشار برأسه أنْ نعم..
استغربت كثيراً لهذا الصداع الذي يحول بينه وبين أن ينهض للطعام، أو أن يجاملني بكلمة لطيفة ..
علمت بعدها أنّ ضيفي مصاب بصداع الشقيقة المزمن، وأنّه قد زاره في تلك الساعة بالذات، وعلمت بعد ذلك بسنوات أن ألم صداع الشقيقة من أشدّ خمسة آلام قد يصاب بها الإنسان! ورأيت تسجيلاً لمصاب بهذا المرض وهو يعاني آلامه الفظيعة، فعذرت ضيفي على عدم كلامه، بل استغربت لماذا لم يصرخ لشدّة ما كان يعاني..
إذن لحظة ألم شخص ما، هي من اللحظات التي لا تنتظر أن تتضوّع فيها زهرته الشذيّة ..
هناك آلام نعلم بها، وهناك آلام أخرى تبرّح بصاحبها، لا ندركها ولا نعلم عنها، بعضها حسّي، وأكثرها نفسي ومعنوي.
كيمياء الظروف المختلفة!
يذكر صاحب كتاب "الرائحة: أبجديّة الإغواء الغامضة" أن العطر الجيّد له ثلاثة مستويات، أولها: اللفتة الكبرى، وهو وقت عنفوان الشذى وحدّته، وثانيها: صميم العطر، وهو وقت يتحوّل فيه العطر إلى العُمْق والدفء، وثالثها: أجواء ما بعد الرائحة، وهو وقت تصبح فيه رائحة العطر كالذكرى، شيء يلوح ببرودة!
بل ويذكر في كتابه أن الرائحة يستحيل أن تتكرر بذاتها، وما أدركه أنا عن عطر ما، ليس ما تدركه أنت .. فأنا استنشقت العطر والمكان تغمره رائحة قهوة، وشجرة البرتقال التي بالخارج يملأ شذاها المنزل، وبجواري صديقي الذي يضع عطراً آخر، وهكذا مما يجعل رائحة ذلك العطر تتنازعها كيمياءات عطريّة مختلفة، فأدركه أنا إدراكاً يختلف عن إدراكك له وأنت تستنشقه في مكان يعجّ برائحة سائل تنظيف الزجاج مثلاً!
ما أريد قوله هو أن طبائع البشر غنيّة بالاختلافات والتقلبات والمستويات التي تجعل كيمياء الروائح بدائيّة بالنسبة لها!
هناك عدّة عوامل تجعل ابتسامة صاحبك في هذه اللحظة سحراً جميلاً، وعوامل أخرى تجعل نفس الابتسامة في لحظة أخرى باهتة رماديّة اللون!
وهناك مستويات نفسيّة عندك، وعند الآخر أيضاً تخفت وترتفع وتستقر معها الانفعالات، وانعكاساتها ..
من الصعب أن نحكم على البشر ونحن نخوض هذه البحيرة الكيميائية التي تتغيّر فيها المركبات والعناصر وفق الظروف والأحوال والأمزجة والنفسيات!
إذن أقترح عليك أن تستغني عن 30% من حدّة موقفك، فقد يدفعك إليه ظرف، أو حال، أو مُدخل غير موضوعيّ!
بالطبع أنا أقترح على نفسي ذات الاقتراح! فلا تتهمني بتقمّص دور الاستاذ!!
الجدار المتعرّج
في عام 1405هـ وكنت في الثانية الابتدائية شعرت بامتعاض، وكره لجدّي (خال أمّي)، لأنّه رفع صوته عليّ بطريقة مُهينة، كان الوقت عصراً، وجدران ذلك المجلس القديم كأنّي أراها الآن أمامي، متخمة بالتعرّجات، وإذا أمرّيت يدك عليها تشعر وكأنّها حوادّ مسامير غير منتظمة! لا أدري لماذا ركّزت الآن على الجدار! وتركت بقيّة أيقونات الماضي التي يزخر بها ذلك المكان!
كان وجه جدّي مكفهراً، بل حتى صوته بات يحمل ملامح ذلك الوجه المكفهر!
خرجت من عنده وأنا أشعر بالإهانة!
صرت بعدها كلما سمعت حديثاً عن جميل أخلاقه، أسمع صوتاً في داخلي يقول لي: هو ليس كما يزعمون .. هم لا يعرفون حقيقته!
والآن بعد مُضي ثلاثين سنة على تلك الحادثة أقول: لقد ظلمت جدّي الحبيب ظلماً كبيراً!
هل تعلم أخي القارئ أن جدّي في تلك اللحظات كان يعاني الألم الجسدي والمعنوي؟
لقد كان يعاني من آلام السرطان المبرّحة! والتي مات بسببها في ذلك الشهر!
إنه كان يحسّ بألم فظيع جعل صرخة ألمه تغلّف نفسها بانزعاج من طفل! أو أن مضاعفات المرض هدّت نفسيّته! المرض جعل زهرته طيبة النشر بلا رائحة في تلك اللحظة بالذات!
نعم، أنا كطفل لم أميّز هذه التفاصيل.. أما الآن فأنا أدركها تماماً، وأعذره ..
كثيرة هي المواقف التي نتحوّل تحت ضغطها إلى أطفال في مشاعرنا، وأحاسيسنا، فلنبتعد عن ضغط المواقف، ولنتأمّل الحادثة من بُعد، لعلّ شيئا من النضج يدركنا.
غداً سوف تلعنك الذكريات!
تذمرت من كثرة ترداد صاحبي لاسم الشاعر اليمني الشهير "عبد الله البردّوني"، فصارحته: هذا الشاعر دون مستوى شهرته بكثير، فأرجوك، أرحني من ترداد اسمه..
فنظر إليّ بتحدّ وقال: اسمع إذن:
لماذا لي الجوع والقصف لك؟ *** يناشدني الفقر أن أسألك
وأغرس حقلي فتجنيه أنت *** وتُسكر من عرقي منجلك؟
لماذا وفي قبضتيك الكنوز *** تمدّ إلى لقمتي أنملك ؟
...
لماذا تسود على شقوتي *** أجب عن سؤالي وإن أخجلك؟
ولو لم تجب فسكوت الجواب *** ضجيج يردد: ما أنذلك
لماذا تدوس حشاي الجـريح *** وفيه الحنان الذي دلّلك؟
غداً سوف تلعنك الذكـريات *** ويلعن ماضيك مستقبلك
...
ثم أردف بذكر مقطوعات من شعر البردّوني كل مقطوعة موجة جمال تنسي التي قبلها! مما جعلني أرجوه أن يتوقّف، فقد اقتنعت بمدى شاعريّة هذا القلب الجريح! بل تأكدت من أنّ شهرته دون ما يستحق..
يبدو أنّي قرأت للبردّوني نصوصاً لم تكن هي الأجمل، أو أنّي قرأت له نصوصاً جميلة وأنا في حالة لم تكن الأجمل!
الناس من حولنا هم عبد الله البردّوني بأشكال مختلفة، وبنسب متفاوتة! سمعنا ورأينا وقرأنا منهم وعنهم أشياء ليست هي أجمل ما لديهم، وليست أنقى ما يملكون من مشاعر، وليست أرقى ما عندهم من أحاسيس ..
إذن فلنتخيّل أنّهم أجمل مما نظن لنحبّهم، ونتجاوز عن سيئاتهم، فحتى لو خسرنا الحقيقة بهذا التخيّل، فلن نخسر الإنسان الجميل الذي داخلنا!
معركة القوائم!
نحن ننسى!
ننسى بسرعة مخيفة المواقف المليئة بالنخوة، التي يمد فيها الآخر يده ليحُوْلَ بيننا وبين سقوط في حفرة من حفر الحياة!
ولأننا ننسى فقد قال لنا ربّنا العليم بذلك النسيان: "ولا تنسوا الفضل بينكم" ..
حتى نستثمر النسيان في محو المشاهد المؤملة من حياتنا، ولكن لا نسمح له أن يشطب اللحظات الجميلة، والذكريات الرائعة!
النسيان نعمة، ولكن هذا ضمن حدوده الإيجابيّة، فإذا ما تجاوزها بات نقمة ينبغي الحذر منها والبعد عنها..
أتحدّث عن نفسي، بعض الأحيان أقرر أن أنتزع اسماً من قائمة الأصدقاء، لأودعه في قائمة (أناس عرفتهم في يوم ما) وبعد دقائق من التأمّل أكتشف أنّه من المفترض أن تكون عندي قائمة (اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) وأن أضع ذلك الاسم في أعلاها!
وثق بي يوم أن شكّ فيّ الناس ..
وابتسم لي يوم أن اكفهرّ لي الناس ..
واحتضنني يوم أن ابتعد عنّي الناس ..
لماذا نسيته بهذه السرعة؟ لماذا جعلت موقفاً واحداً يغلب جيوش الشهامة والنخوة التي غمرني بها؟
وإذا كنت قد توقفت عن تنفيذ قراري في اللحظة الأخيرة، فكم عدد أولئك الذين لم أتوقف معهم عن تنفيذ مثل هذ القرار؟ فباتوا الآن خيالات ماضٍ، وكان المفترض أن أبني لهم صروحاً في نفسي لا تحول ولا تزول ..
الإنسان هو أعظم كنز تملكه، فإذا ظفرت بكنز بشري، فلا تتعامل معه بحماقة، نعم قد تبرد العلاقة، دعها تبرد بالطريقة التي تعجبها، ولكن أرجوك لا تحرقها.. فقد تندم كثيراً عندما ترى هشيم قلب كان ينبض بحبّك!!
رشّة عطر
لن يخبرك كل الناس بأسباب تصرفاتهم الغريبة، ولكن بما أنّك متأكد أن شذى الطّيْبة قد تضوّع منهم ذات يوم، فاجعله هو أصل أخلاقهم، واجعل ذلك التصرّف الغريب هو بسبب أمر طارئ لا تعلمه، وليس بالضرورة أن تعلمه! تعامل معه كما تعاملتُ أنا مع شذى زهرة الفل الذي لم يتضوّع في أوقات كثيرة من أيام طفولتي .. ومع ذلك فقد بقيت أستنشقه في فجر كل يوم من أيام الربيع.
علي جابر الفيفي
23/10/1437
- التصنيف: