خطب مختارة - [127] المجاهدة
العبد منذ تكليفه إلى أن يُرفع عنه التكليف يخوض معركةً مع نفسه وشيطانه؛ فنفسه تدعوه إلى هواها، وشيطانه يؤزه إلى ما يرديه ويهلكه.
الخطبة الأولى
عباد الله، جعل الله الدنيا دار بلاء وامتحان، وجهاد ومجاهدة، وصبر ومصابرة، فمن اجتاز البلاء، وصبر في ذات الله تعالى، وجاهد في سبيله كان حقًا على الله تعالى أن يرضى عنه، ويدخله الجنة.
والعبد منذ تكليفه إلى أن يُرفع عنه التكليف يخوض معركةً مع نفسه وشيطانه؛ فنفسه تدعوه إلى هواها، وشيطانه يؤزه إلى ما يرديه ويهلكه.
والناس على فريقين: من يغلبه شيطانه، ويركن إلى دنياه وشهواته، وينسى حقوق ربه، فمصيره ما ذكر الله تعالى بقوله: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى . وَآَثَرَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا . فَإِنَّ الجَحِيمَ هِيَ المَأْوَى} النَّازعات:37:39]
وعكسه من غلب شيطانَه، وقهر نفسَه، ولم يركن إلى الدنيا، وتمتع بما أحل الله له من الشهوات، ولم يجاوز ذلك إلى ما حرَّم الله عليه، وقام بحق الله تعالى خير قيام؛ فهو السعيد المذكور في قوله تعالى: { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ . وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوَى . فَإِنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأْوَى} [النَّازعات:40:51]
إخوة الإيمان، إنّ من أحب الله تعالى وعظَّم شعائره؛ خالف هواه إلى ما يحبُ اللهُ تعالى، وقَصَرَ نفسَه على ما أحلَّ الله له، ومن اتبع نفسه هواها وأرخى لها زمامها؛ ففي محبته لله تعالى نقصٌ بقدر اتباعه لهواه، وعصيانه لربه.
قال أبو عمرو بن بُجيد رحمه الله تعالى: "من كَرُمَ عليه دينُه؛ هانت عليه نفسه". وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "محبة الله توجب المجاهدة في سبيله قطعًا؛ فإن من أحب الله، وأحبه الله، أحب ما يحبه الله، وأبغض ما يبغضه الله، ووالى من يواليه الله، وعادى من يعاديه الله، لا تكون محبة قط إلا وفيها ذلك بحسب قوتها وضعفها؛ فإن المحبة توجب الدنو من المحبوب، والبعد عن مكروهاته، ومتى كان مع المحبة نبذ ما يبغضه المحبوب فإنها تكون تامة".
أيها الإخوة، إن معالجةَ النفس ومجاهدتَها من أعظم أنواع الجهاد؛ لأنه جهاد يستغرقُ العمرَ كلَّه، وإذا طال الأمد ضعفت النفس؛ فاحتاجت إلى مجاهدة أكثر.
يقول سفيان الثوري رحمه الله تعالى: "ما عالجت شيئاً أشد عليَّ من نفسي، مرة لي ومرة علي".
وكان عمر رضي الله عنه يخاطب نفسه، ويقهرها حتى لا تجمح به فتخرجه عن الجادة دخل حائطًا فبدأ يخاطب نفسه ويحاسبها، قال أنس رضي الله عنه: فسمعته يقول: "عمرُ بن الخطاب أميرُ المؤمنين، بخ بخ ، والله يا ابن الخطاب لتتقين الله أو ليعذبنك".
إن الإنسان قد يجاهد غيره لكنه قد ينسى نفسه التي تحتاج إلى جهاده، فيذرها تركب هواها، وتنال مطلوبَها، ولا يحسب أنها تحتاج إلى مجاهدة، ويرى أنه على أحسن حال، أو على الأقل ليس أسوأ الناس، وهذا يقعده عن المجاهدة، فيسير في الردى، ويوشك أن يهلك، سأل رجلٌ عبدَ الله بنَ عمر رضي الله عنهما عن الجهاد قال رضي الله عنه: "ابدأ بنفسك فجاهدها، وابدأ بنفسك فاغزها".
أخي المسلم، إن الخطوةَ الأولى لمجاهدة النفس الاعترافُ بأنها تحتاج إلى مجاهدة، والنظرُ إلى نقصها وعيبها وخطئها، ومقارنةُ ذلك بالنفوس التي تَفْضُلُها وتتفوق عليها، ومن لم يعترف بتقصيره وخطئه فكيف يجاهد نفسه؟! .
وما دامت النفسُ ضعيفةً، والشيطان موجودًا فإن العبد يحتاج إلى مجاهدة مستمرة دائمة، ولا سيما أن الشيطان لا يكل ولا يملَّ من قذف وساوسه وخطراته في قلوب العباد، فعلاج ذلك دوام المجاهدة.
إخوة الإيمان، وكما أن اجتناب المعاصي يحتاج إلى مجاهدةٍ للشيطان؛ ومقاومةٍ للنفس الأمَّارة بالسوء، فإن التزامَ الطاعةِ والمحافظة عليها؛ وأداءَ الفرائض والمندوبات أيضًا يحتاج إلى مجاهدة النفس الميالة بطبعها إلى الراحة والكسل، وإلى مجاهدة الشيطان الذي يثبط العزائم، ويضعف الهمم، وهذا هو دأب الصالحين من عباد الله تعالى من النبيين والصحابة، والتابعين لهم بإحسان دوام المجاهدة في سبيل الله تعالى، وقهر النفس على اكتساب الحسنات، وترك السيئات.
اللهم وفقنا لطاعتك وجبنا معصيتك، ووفقنا لصدقِ المجاهدة لنفوسنا. أقول ما سمعتم، وأستغفر الله.
الخطبة الثانية
إخوة الإسلام، إن من صدق مع الله تعالى، واجتهد في باب المجاهدة وفقه الله للهدى، وبلغه ما تمنى، وضَعُفَ تسلطُ الشيطان عليه، كما قال الله سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69]، فالهداية من الله تعالى، ويستحقها المحسنون من عباده، الذي جاهدوا في الله تعالى حتى بلّغهم الله ما أرادوا من الهداية.
وواقع المجاهدين يدل على ذلك: فهذا نبي الله يوسف عليه السلام دعاه الشيطان إلى مقارفة الحرام مع امرأة العزيز التي زينت لها نفسها الأمَّارة بالسوء عملها فراودته عن نفسه، لكنه عليه السلام جاهد نفسه، ولم يستسلم للشيطان ولهواه، فقال: { مَعَاذَ الله} [يوسف:23]، واعترف بعجزه وضعفه رغم مجاهدته، وسأل الله تعالى العافية من هذا الابتلاء؛ ودعا فقال: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الجَاهِلِينَ . فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ} [يوسف:33:34]
ولما سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم مرافقته في الجنة قال له: « » [صحيح مسلم: 489]، وهذا يحتاج إلى مجاهدة، إذا حققها العبد بلغ ما تمنى، وأعطاه الله ما سأل؛ إذ نيل المطالب يحتاج إلى عمل، ولا تنال بالتمني فقط، فإذا اجتمع العمل مع صدق التوجه إلى الله عزَّ وجلَّ نال العبد ما أراد.
قال أبي بن كعب رضي الله عنه: "كان رجل لا أعلم رجلاً أبعد من المسجد منه، وكان لا تخطئه صلاة ، فقيل له: لو اشتريت حمارًا تركبه في الظلماء وفي الرمضاء، قال: ما يسرني أن منـزلي إلى جنب المسجد، إني أريد أن يكتب لي ممشاي إلى المسجد، ورجوعي إذا رجعت إلى أهلي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «
» [صحيح مسلم: 663]ألا فاتقوا الله ربكم، وجاهدوا أنفسكم، واحذروا الشيطانَ وجندَه ووساوسَه، والزموا طاعة الله ، واجتنبوا معصيته ، واحفظوا أنفسكم وبيوتكم مما حرم الله عليكم. اللهم أعنا على مجاهدة أنفسنا؛ وإلزامها ما يرضيك. اللهم أعذنا من الشيطان الرجيم ووساوسه. اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها.
- التصنيف:
- المصدر: