الإمام أحمد حسم وتوازن.. وتجديد بالوحي(1)

منذ 2017-01-21

كان معتصما بالله تعالى مفتقرا إليه. ولهذا لما شبهه أهل العلم قالوا (بالماضين ما كان أشبهَه).

لم يكن الإمام أحمد فقط ناقلا للعلم حافظا له؛ بل كان يمثّل موقفا تاريخيا ومثالا نموذجيا كم نحتاج اليه؛ يجمع بين الحسم والقوة، مع التوازن الشديد ومراعاة مختلف المصالح، للأمة ولسلطة الخلافة ولمواجهة العدو الخارجي، ما وسِعه.. وكان في هذا معتصما بالله تعالى مفتقرا إليه. ولهذا لما شبهه أهل العلم قالوا (بالماضين ما كان أشبهَه).

كان أمام الإمام أحمد عدة محاور أبرزها:

1) مسؤولية بلاغ، والحفاظ على، العلم الموروث وعقائد السلف، والحفاظ على المجتمع القائم على وفقه، ومنع تسرب البدع والحيلولة دون الخلخلة الداخلية.. والذي وقع تحت تهديد الباطنية والفلاسفة وبدع االمتكلمين.

2) وكانت هناك الخلافة التي تمثل السلطة الإسلامية القائمة على أساس إقامة الدين وسياسة الدنيا بمقتضاه، ولم تخرج عن هذا الأصل وإن تلبست ببدعة طارئة رأى وجوب التصدي لها والصبر على ذلك، مع الحفاظ عليها وعلى وحدة الكلمة، وحفظ هيتبها، وحفظها وجودها ووحدتها من الضياع من كثرة الرامين إياها بسهام مسمومة.
كما كان يخشى سقوطها في يد الرافضة أو تمزق الأمة المتوحدة آنذاك تحت رايتها.

3) وكان هناك العدو الخارجي المتمثل في الروم البيزنطيين وغيرهم، وفي الشرق الأقصى العدو الوثني ـ الذي اجتاح بلاد المسلمين بعد ذلك عندما غفلت عنه متمثلا في الزحف التتري ـ مع النفاق الداخلي لبعض الطوائف؛ فخشي ضعف قوة الأمة وخلافتها أمام تلك القوى المتربصة.

*  *  *
كانت قضايا المتكلمين والتأثير الفلسفي للترجمة لكتب المنطق اليوناني قليل النفع كثير الخبط والخلط والخطأ.. كان هذا خطرا يتسرب ويتأثر به الناس، وكان هذا من العجب؛ أن أمةً منتصرة قائمة بالحق والوحي، تسمح لنفسها أن تتلقى في جانب أغناها الوحي عنه، ثم تؤوِّل الوحي ليتوافق مع ما زعموا أنه قواعد عقلية! ولم يكن هذا صحيحا في نفسه فلم تكن قواعد عقلية ولا بدهية بل كانت سفسطة في العقليات ثم أدت الى القرمطة في السمعيات (التأويلات الباطنية).. وما كان فيها من عقليات صحيحة لم تكن أكثر من ترتيب عقلي لحقائق تم إدراكها سابقا؛ فلم يكن علما يضيف شيئا للعقل ولا للحياة، ولهذا لم تتقدم به أوروبا في عصور النهضة؛ بل تقدمت بالعلم التجريبي الذي وضع المسلمون أسسه في الجانب الإيجابي الذي تنامى في حياة المسلمين، ثم توقف لأسباب أخرى.

فكان خطر الفلاسفة وخطأ المتكلمين، وكانت بداية تجويز الانحراف عن خط السابقين والتصريح بمخالفة طريقتهم فصرّحوا أن قضاياهم وأقوالهم لم يقل بها السابقون والصدر الأول والقرون المفضلة، ثم يعتذرون عن الصحابة باعتذارات باردة بأنهم كانوا أهل جهاد بينما المتأخرون أهل علم! أو القول أن مذهب المتقدمين أسلم، ومذهب المتأخرين أعلم!!

وهذا دجل وكذب؛ فمذهب الأولين أعلم أتقى وأسلم، وقد أخذ الأولون برؤوس المسائل وتكلموا عن جِماع الجمل التي تنتظم تحتها فروعا كثير، فتكلموا بقواعد عظيمة ولم يفرّعوا إلا بحسب الحاجة، كما مثّلوا للقواعد بالحالة الواقعة في علم دقيق ومنزَّل على مواقعه كما أمر الله تعالى، ما استطاعوا وسْعهم وجهدهم.

كان صمود الإمام أحمد أمام هذا الخطر الذي أدرك خطورته ومآلاته على الإسلام نفسه وما يؤثّره من خلخلة للنظام المجتمعي المسلم،  صمد رحمه الله وقاوم لمنع شرعية الخروج عما كان عليه الأولون، وللحفاظ على علم النبوة وخطّها الموروث.. ولو لم يقف هذا الموقف، هو ومن وقف مثله وجاد بنفسه لله تعالى، لوهَن أمر العلم الموروث وغلب منطق اليونان وفلاسفة الوثنيين، ولجهِد الناس ليعرفوا القول الحق، قول القرون المفضلة وما جاء به الوحي الجليل.

والمقصود الثاني للإمام رحمه الله عدم فتح باب لتوهين الدين والخروج عن قواعده وأحكامه ومنع تسليط التأويل بحيث يذوب الإسلام من داخله؛ من حيث عقيدته أو أحكامه، فإن التأويل بدأ بالعقائد في باب الأسماء والصفات؛ فلما وجد الباطنية هذا سلّطوه أيضا على الأحكام؛ فلما رفض المتكلمون تأويل الأحكام الشرعية احتجوا على المتكلمين بأنهم تأوّلوا ما هو أوضح في باب صفات الله تعالى؛ فكيف ينكرون عليهم تأويل الأحكام؟

واجه رحمه الله الفلاسفة والمتكلمين والباطنية، كما واجه الرافضة في باب مسائل الإمامة وما يتصل بها، لخطورتهم بتخطئة الأولين وتفسيقهم أو تكفيرهم، وما يؤدي اليه مما هو أفحش من ذلك بعدم ائتمانهم على نقل أصول المصادر الشرعية: القرآن والسنة.. بل ولما أدوا إليه من دخول الباطنية عن طريقهم؛ فإنه قد اجتمع للباطنية والملاحدة بابان لهدم الإسلام: باب التأويل وباب الرفض.

كما كان متوازنا رحمه الله، فكان يجمع الأمة ويحفظ الشعائر رغم وجود الجهمية كأئمة لما اتصلوا بالخلافة وساندهم بعض الخلفاء؛ فروى عنه ابنه عبد الله؛ قال أبي: (نحن لا نترك صلاة الجمعة) رغم وجود أئمة من الجهمية، وروى بعض الأئمة أنه كان يعيد ما كان خلف دعاتهم، لكن حرِص على حفظ الشعائر وحفظ تجمع الأمة.

فقد نظر الى نقاء العقائد وجمع مع هذا النظرَ الى إقامة الشعائر وحفظ تجمعات الأمة..

كما له موقفه وتوازنه في حفظ شأن الخلافة كسُلطة إسلامية قائمة على الدين. وهذا في المقال التالي بإذن الله. 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام

مدحت القصراوي

كاتب إسلامي

  • 0
  • 0
  • 1,200

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً